بقلم: مريم عيتاني – باحثة في مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
عندما اقتحم شارون المسجد الأقصى في أيلول 2000، بدأت الانتفاضة الثانية التي عرفت بانتفاضة الأقصى. كانت بدايتها قوية وذات صدى عربي واسلامي. استمرت هذه الانتفاضة لسنتين أو ثلاث بأفضل تقدير، على الرغم من قول البعض باستمرارها أكثر؛ وتركت آثاراً تبدو بأغلبها سلبية من حيث أنها دفعت إلى بناء الجدار العازل في الضفة وتشديد حرية الحركة واعتقالات بالآلاف، إلا أنها كانت بداية “الموت الصريح” لعملية السلام ولحل الدولتين.
واليوم، تشهد المدينة المقدسة انتفاضة أخرى إثر سعي الاحتلال لافتتاح كنيس الخراب. وبين اليوم والأمس فوارق كثيرة لا تخفى على أحد، لعل أبرزها الضعف الفلسطيني الداخلي وضعف المساندة العربية والاسلامية بكافة أشكالها؛ مما يدفع الكثيرين للتساؤل عن الكيفية التي سنتهتي إليها هذه “الهبّة”؟ وكم هي قادرة على الاستمرار في ظل ردود الفعل والظروف الحالية؟
أولاً: القدس والتهويد المتسارع في ظل الصمت
أولى هذه المتغيرات هي في وضع المدينة نفسه، الذي يعكس تسارع وتيرة التهويد من جهة وتقاعس ردود الفعل أو غيابها في الكثير من الأحيان من جهة أخرى. فعدد الاقتحامات للأقصى خلال سنة 2009 يفوق الخمسين اقتحاماً، ثمانية منها لجيش الاحتلال و43 للمتطرفين اليهود والشخصيات الرسمية. وهذا الرقم يفوق ضعف مجموع الاقتحامات خلال السنتين الماضيتين بحسب التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لسنة 2009. تضاف إلى هذه الاقتحامات الحفريات في محيط المسجد الأقصى وعمليات هدم المنازل والأحياء العربية واخلاء سكانها ومصادرتها، في سعي حثيث لتهويد القدس. وبلغ عدد المنازل التي هدمت في القدس بين (2000-2009) حوالي 662 منزلاً، بينما هناك 8 آلاف منزلاً آخرين مهددين بالهدم في أية لحظة. كما بلغ مجموع مواقع الحفريات 25 موقعاً، 13 منها مكتملة و12 نشطة؛ وقد امتدت الحفريات غرباً بحيث وصلت أو تكاد تصل إلى أسفل قبة الصخرة.
أما الاستيطان، فمنذ وصول نتنياهو إلى الحكم في آذار/مارس 2009 وحتى نهاية العام، أقر بناء أكثر من 19 ألف وحدة سكنية، 81% منها في القدس. ولم يتوقف النشاط الاستيطاني عند هذا الحد بل استمر، ومنذ أيام قليلة فقط صادقت وزارة الداخلية في حكومة الاحتلال على مشاريع بناء 1600 وحدة سكنية استيطانية جديدة في القدس الشرقية أيضاً.
وقد باتت المدينة اليوم في وضع لا تحسد عليه، حيث أنها وحيدة في تصديها لهذه الهجمة الشرسة، بعد أن حرص الاحتلال على عزلها عن الضفة الغربية بشكل شبه كامل، وعلى تجاهل كافة ردود الفعل الرسمية المعترضة على ممارساته طالما أنها لم تزل في الاطار الكلامي –وعلى الأرجح لن تتجاوزه.
ثانياً: دولة الاحتلال: أكثر ضعفاً، وأكثر تشدداً
المتغير الأبرز الثاني هو في طبيعة دولة الاحتلال اليوم، خاصةً منذ توقّف عملية السلام ووصول حماس إلى الحكم والحرب على لبنان وغزة والاعلان الرسمي لـ”يهودية الدولة”، وما تسميه “المشكلة الديموغرافية” المتعلقة بالفلسطينيين من عرب أراضي 1948، والذين ترى فيهم تهديداً لوجودها ويهوديتها؛ بالاضافة إلى كل ما نتج عن هذه التغيرات من اهتزاز لصورتها أمام الرأي العام خاصة العالمي والأوروبي، تارة بكونها كيان عنصري وتارة بكونها تمارس جرائم الحرب وتخالف القوانين الدولية.
هذا “الضعف” ساهم في زيادة التشدد والتعصب لدى الإسرائيليين، وتجلّى هذا في سنة 2009، حيث أفرزت انتخابات الكنيست الثامن عشر حكومة يمينية من أكثر الحكومات تطرفاً، يقودها بنيامين نتنياهو. استغلت هذه الحكومة الوضع الفلسطيني المنقسم وتوقف المفاوضات وضعف المواقف الدولية، لتنشط عمليات الاستيطان والتهويد، وتكمل سعيها للسيطرة التامة على القدس كعاصمة للدولة اليهودية، وتكرّس تقسيم الضفة الغربية بالحواجز والمعابر والمستوطنات والطرق الالتفافية والجدار، ولتكرس كذلك “يهودية الدولة” بحيث يكون الاعتراف به شرطاً أساسياً من شروط عملية السلام.
وبهذا، فانه من ناحية سياسة الاحتلال، يبدو التفاؤل صعباً في ظل اعتماد هذا الاحتلال التاريخي على مبدأ “فرض الوقائع على الأرض” والتي من الصعب توقّع تنازله عن أي من المكتسبات التي “فرضها”. ويغدو وضع القدس أصعب، إذا كل ما يتركه من خيارات هو خيار التحرك العاجل لتدارك “ما يمكن تداركه”.
ثالثاً: الفلسطينيون بين الانقسام وغياب المرجعية والدعم
أما على الساحة الفلسطينية الداخلية، ففي حين كانت انتفاضة الأقصى نقطة العودة للوحدة بين السلطة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات وفصائل المقاومة وفي طليعتها حماس، حيث اجتمعوا على خيار المقاومة المسلّحة وأعادوا له مكانته الرئيسية في الصراع؛ تأتي “هبّة” القدس في ظروف انقسام فلسطينية غير مسبوقة، مترافقة مع انقسام جغرافي وسياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
ولم تلبّ هذه الوقفة الشجاعة من الشعب الفلسطيني آمالهم في قيادتهم السياسية، حيث وجهت بعض القيادات “تحذيراً” من “انتفاضة ثالثة تجلب الكوارث للشعب الفلسطيني”، وتابع رئيس حكومة السلطة سلام فياض انشغالاته بما يعتبره “انتعاشاً اقتصادياً” في الضفة الغربية بعد أن “أدى واجب إدانة” افتتاح الكنيس. أما فصائل المقاومة وحماس وحكومة غزة، فعلى الرغم من ابدائهم الدعم الكامل لهذه “الهبّة”، فإنهم عاجزون عن تقديم أية دعم ملموس في ظلّ ما كانت تعرضت له من حملات اعتقال وكبح في الضفة الغربية والقدس على مدى الأعوام السابقة، سواء من قبل الاحتلال أو من قبل السلطة الفلسطينية في اطار تنفيذها لخطة دايتون “الأمنية” وسحبها لسلاح الفصائل ومطاردتها للمقاومين.
باختصار، فان هذه “الهبّة” شعبية فلسطينية خالصة، وهي ان كانت تظهر ضعف القيادة الفلسطينية وغياب أية مرجعية حالية موحدة لهم، فإنها من ناحية أخرى تظهر مدى صمود هذا الشعب وقدرته على الثبات والانتصار لخياراته، وتؤكد مجدداً أنه غير مستعد للتخاذل عن نصرة مقدساته وأن القدس -كما المقاومة- على قائمة الثوابت الفلسطينية.
رابعاً: الشارع العربي والاسلامي و”التآلف”
أما الشارع العربي والإسلامي، والذي عاش خلال انتفاضة الأقصى، “انتفاضة” موازية عبر المظاهرات المتواصلة والفعاليات الداعمة؛ فإنه اليوم غائب عن تقديم ردّ فعل على مستوى الحدث مما تتعرض له القدس من حملات تهويد واستيطان. ولعل هذا الشارع يعيش اليوم حالة من “التآلف” المذموم مع الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة للشعب الفلسطيني؛ وقد ساهم في تشكيل هذه الحالة ما تعرّض له هذا الشارع من محاولات “قمع” لكافة مظاهر التأييد لشعب الفلسطيني، مثل منع المظاهرات المؤيدة لغزة والمعارضة للجدار الفولاذي في مصر، واعتقالات الاخوان المسلمين والمتظاهرين؛ ومحاكمات بتهم “جمع التبرعات لغزة” في الأردن.
هذه الحالة من التآلف مع الانتهاكات المستمرة للاحتلال الإسرائيلي، تنعكس أيضاً على المستوى الاعلامي؛ حيث كانت تغطية ما يجري في القدس من انتهاكات واقتحامات خلال الفترة الأخيرة، دون الأداء المطلوب من الاعلام العربي الذي بدا منشغلاً بتغطية انتخابات العراق (بما في ذلك الجزيرة والتي كانت سابقاً تضع الشأن الفلسطيني على رأس أولوياتها).
هذا “التآلف” بالطبع تلائم مع حالة الركود الرسمية، التي لم تجد ضغطاً يدفعها إلى تحرك عاجل كما حصل خلال انتفاضة الأقصى حيث عقدت قمة عربية استثنائية طارئة في القاهرة حينها. وساهم في زيادة العجز العربي والاسلامي حالة الانقسام بين محوري “الممانعة” و”الاعتدال”.
ولعل الفارق الإيحابي الوحيد، بين الأمس واليوم في هذا المجال، كان الموقف التركي الذي يتجه تدريجياً نحو قطع العلاقات التركية السابقة مع الاحتلال الإسرائيلي، في ظل تأييد شعبي كبير لهذه الخطوة من قبل الشارع الاسلامي بشكل عام والشعب التركي بشكل خاص. وقد برزت تركيا في مواقفها الداعمة للحق الفلسطيني خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، وعبّرت عن رغبتها في قطع هذه العلاقة في أكثر من حادثة، كان آخرها رفض المساعدة الاسرائيلية المعروضة إثر الهزة الأرضية الذي تعرضت لها أوائل الشهر الحالي (آذار/مارس 2009). وسيكون لهذا التغير تأثيرات سلبية على “إسرائيل” التي كانت تعتبر تركيا حليفتها الأقوى في المنطقة حيث كانت تربطهما علاقات اقتصادية وعسكرية قوية. إلا أنه فيما يخص هذه “الهبّة” تحديداً، لا يتوقّع أن تتمكّن تركيا من فعل أي شيء.
خامساً: الوضع الدولي واختلاط الأوراق
على المستوى الرسمي، لا يمكن الحديث عن تغيّر جدّي في المواقف الدولية التي لم تختلف عن سابقاتها من حيث اقتصارها على الادانة؛ بل ربما تراجعت حيث أصبحت تقتصر على “القلق ممّا يجري” بحسب ما صرّح به الأمين العام للأمم المتحدة.
إلا أنه هناك تغيرات إيجابية تبشّر بتغيّر على المستوى الدولي، خاصة على المستوى القانوني ومستوى الرأي العام العالمي والشارع الغربي. هذه التغيرات وان لم تصل حتى اليوم إلى مستوى التأثير الحاسم، إلا أنها أعادت “خلط الأوراق” وأربكت في العديد من تجلياتها قادة الاحتلال والقادة السياسيين الامريكيين والأوروبيين.
فعلى المستوى القانوني، فُتحت الملفات لجبهةٍ جديدةٍ من الصراع العربي الإسرائيلي، أروقتها المحاكم الأوروبية ذات الاختصاص العالمي والمحاكم الدولية. أولى هذه الاحتكاكات بدأت في محاكمة شارون في المحاكم البليجيكية، والتي انتهت “بتعديل القانون”؛ ثم نجح الفلسطينيون في استصدار الحكم الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بخصوص عدم قانونية الجدار الفاصل في الضفة الغربية وضرورة ازالته وارجاع ما تسبب به من ضرر. لتكرّ من ثمّ سبحة المحاكمات والقضايا المفتوحة بحق قادة الاحتلال في دول أوروبا، مثل قضية اغتيال صلاح شحادة ومذكرة اعتقال آفي ديختر ولاحقاً تسيبي ليفني؛ ثم وقف استيراد البضائع المنتجة في المستوطنات لعدم قانونيتها أو مقاطعتها في بعض المجتمعات. وهذه الممارسات التي نتجت عن وعي أوروبي متزايد بالقضية الفلسطينية وحقيقة ما يحصل في فلسطين، صارت تربك الحكومات الاوروبية وتتسبب بحرج لها؛ كما تضغط عليها باتجاه أخذ سياسات أكثر عدلاً.
وفي إطار مشابه، ناتج أيضاً عن تزايد الوعي في الشارع الغربي، نشطت الحركات المناهضة للممارسات الإسرائيلية، وتحديداً: جرائم الحرب، والممارسات العنصرية. وعاد مصطلح “عنصرية إسرائيل” إلى التداول خاصة في الأوساط القانونية والأكاديمية. هذه الحركات لم تقتصر على المستوى العام، بل برزت ضمن قطاعات النخبة مثل الأكاديميين والاقتصاديين، كما أنها ليست محصورة بالجاليات العربية والإسلامية بل تضم العديد من الغربيين والمشاهير واليهود المناهضين للاحتلال. وإلى جانب التظاهرات والفعاليات الهادفة لزيادة مستوى الوعي الغربي بأحداث المنطقة، فقد قامت هذه التجمعات بجمع التبرعات وقام العديد من أفرادها بزيارة –أو محاولة زيارة- الأراضي الفلسطينية المحتلة، مما أدى إلى تأثرهم أكثر بمعاناة الفلسطينيين والسعي بشكل أكثر جدية لتحقيق حقوقهم العادلة.
وقد نتج عن هذين المتغيرين ضغط بدأت تلمس آثاره على مستوى الأداء السياسي الأوروبي، الذي بدأ ينفصل ولو بشكل ضئيل عن الموقف الأمريكي، وهو ما بدا في التصويت على تقرير جولدستون. كما لاحت بعض المبادرات للحديث مع حماس، على الأقل لإيجاد آليات لادخال المساعدات إلى قطاع غزة خاصة مع اشتداد المعاناة. وتشكل وفد من البرلمانيين في الاتحاد الأوروبي وزار القطاع المحاصر في بداية العام الحالي (كانون الثاني/ يناير 2010).
وكل ما سبق كما ذكرنا، لم يغير شيئاً ملموساً بعد على المستوى الدولي الرسمي الصريح، إلا أنه يسير بلا شك نحو ذلك في المستقبل القريب. ولم يعد من الممكن تجاهل هذه التحركات بكافة مستوياتها، خاصة القانونية.
هل “تعود” القضية الفلسطينية إلى أوروبا؟
أرغب في أن أسمّي “هبّة” القدس اليوم بالثورة أو الانتفاضة، لكن أغلب الظن أنها لن تكون إلا لفحة مقدسية من لفحات الصمود الفلسطيني؛ أنها ستعطينا بقية من أمل، لكنها ستخبو أمام واقعٍ قاسٍ لا يعترف بالعدل بل بالقوة والحقائق.
وليس من المستبعد أبداً، أن القضية الفلسطينية التي “تقتات” اليوم، بصعوبة -ان صح التعبير-، على ما تبقّى في الشعب الفلسطيني والعربي والإسلامي من أمل؛ أنها قد تجد في المستقبل العاجل شريان حياة لها في الوعي الغربي المتزايد وما يرافقه من تحركات بدأت تؤتي بعض الثمار. فهل سيكون ذلك التغيّر بادرة أمل جديدة تكون بداية الرجوع ونهاية الانحدار في المواقف الشعبية العربية والإسلامية، وبالتالي الرسمية العربية والإسلامية؟ وهل ستعود القضية الفلسطينية لتكون بدايتها مجدداً أوروبا؟ … لتعود “قوافل المهاجرين” مجدداً، هذه المرة ليست محملة باليهود، بل بآمال العودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين الموزعين على مختلف جهات الأرض؟
أضف ردا