بقلم: د.محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
يظهر أن ثمة ميلا لدى الأطراف الفاعلة في ملف قطاع غزة، للسير باتجاه هدنة طويلة المدى، أو على الأقل السير باتجاه استكشاف الإمكانات الحقيقية لتنفيذها.
غير أن هذه الأطراف تختلف في زوايا نظرها ومعاييرها واشتراطاتها وطرق ضمان مصالحها. فلحماس وقوى المقاومة مقاربتهم، ولقيادة السلطة في رام الله مقاربتها، وللإسرائيليين ومن خلفهم الأميركيون رؤيتهم، ولمصر زاوية نظرها، وللأوروبيين وجهة نظرهم.
ولذلك، فإذا كان ثمة توافق باتجاه الفكرة، وشعور بأن “اللعبة” قد بلغت مداها، وأنه ليس ثمة أوراق جديدة يمكن توظيفها، وأن الجميع سيخسرون (أو قد يخسرون) من إطالة أمد الحصار والحرب والدمار.. فما زال هناك شوط طويل في تحديد الأثمان التي سيضطر كل طرف لدفعها للوصول إلى توافق يؤدي للهدنة المنشودة.
وقد اتخذت فكرة الهدنة الطويلة المدى بين الكيان الإسرائيلي وبين قوى المقاومة (وخصوصا حماس) في قطاع غزة شكلا أكثر جدية في الأسابيع الماضية. وظهرت معالم الفكرة بشكل أكثر وضوحا عندما دعا روبرت سيري، مبعوث الأمم المتحدة المنتهية ولايته، إلى تبني إستراتيجية “غزة أولا”، وتتضمن فكرة هدنة بين “إسرائيل” وبين الفصائل الفلسطينية مدة خمس سنوات، وأن تكون الهدنة تحت مظلة حكومة التوافق الوطني، ويتم خلالها رفع الحصار كليا عن قطاع غزة، وإعادة الإعمار، وتجميد النشاط العسكري للمقاومة فوق الأرض وتحت الأرض.
اللافت للنظر أن سيري لم يطرح مشروعه إلا بعد انتهاء ولايته، مما أعطى مؤشرا سلبيا على فقدان المشروع جانبا من جديته ومصداقيته. أما توني بلير مبعوث اللجنة الرباعية طوال السنوات الثماني الماضية، فقد برز هو الآخر في الأيام الأخيرة قبيل انتهاء ولايته، ليتحدث عن ضرورة وضع حد ونهاية لمعاناة قطاع غزة. وأعلن بعد زيارة القطاع أنه متحمس لرؤية الأوضاع تتغير.
أما المؤشرات العامة لخطته فتتحدث عن تنازلات إسرائيلية (وكأن الطرف الإسرائيلي يقتطع جانبا من حقوقه!) وعن فتح معابر القطاع، وعن حالة وحدة فلسطينية تشجع “عملية السلام”. وتابع بلير نشاطه فالتقى خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، معبرا عن ضرورة فك الحصار عن القطاع، وعن ضرورة عدم تجاوز حركة حماس والتعامل الأوروبي المباشر العلني معها.
ليس من الواضح تماما ما إذا كانت مبادرتا سيري وبلير تظهران وكأنهما “صحوة ضمير” متأخرة، أو أن الظروف نضجت بما يكفي ليطرحا ما لديهما بصراحة، أو أنهما يلعبان دورا حان وقته في المنظومة الأوروبية العالمية لترتيبات نهائية أو شبه نهائية لملف قطاع غزة. غير أنه من المؤكد أن هناك نشاطا أوروبيا متزايدا في الأشهر الأخيرة يحاول تقديم مقاربة مقبولة (من جميع الأطراف) لفك الحصار وبدء الإعمار. وينشط السويسريون والدول الإسكندنافية في هذا المضمار، كما أن لتوني بلير علاقاته الخاصة مع السلطات البريطانية والأميركية.
ويظهر أن قطر وتركيا، المتفهمتان لموقف حماس والداعمتان بقوة لفك الحصار وتنفيذ الإعمار، قد قدمتا مقترحات لرفع الحصار مقابل هدنة طويلة الأمد.
وبالنسبة لحماس ومعها قوى المقاومة في القطاع، فإنها ترى أن فك الحصار وعملية الإعمار هي حق طبيعي، وأن الحصار بحد ذاته هو جريمة ضد الإنسانية، ويخالف الأعراف والقوانين الدولية، وأنه لا ينبغي ربطه بنزع سلاح المقاومة. وفي الوقت نفسه، تدرك المقاومة حاجة أبناء القطاع لاسترداد أنفاسهم وإتاحة المجال للإعمار، في ضوء حالة الإنهاك التي وصل إليها القطاع بعد ثماني سنوات من الحصار، وبعد ثلاثة حروب مدمرة، وكذلك حاجة قوى المقاومة لاستراحة تعبوية تجدد فيها إمكاناتها وقدراتها.
غير أن حماس في الوقت نفسه تتعامل مع عروض الهدنة بالكثير من التشكك والحذر، خصوصا أن الحروب السابقة أعقبتها وعود والتزامات بفك الحصار وبالإعمار.. وهي وعود لم تتم، ونكث الطرف الإسرائيلي بالذات تعهداته تجاهها.
أكدت حماس أن أطرافا غربية سلمتها اقتراحات لهدنة طويلة المدى وأنها تقوم بدراستها.. والمطلع على ردود حماس وتعليقاتها بهذا الشأن، والتي جاءت على ألسنة عدد من قادتها وناطقيها السياسيين والإعلاميين أمثال إسماعيل هنية وموسى أبو مرزوق وعزت الرشق وأسامة حمدان وسامي أبو زهري وفوزي برهوم وصلاح البردويل وطاهر النونو وإسماعيل رضوان.. يلاحظ أن موقف حماس يتلخص في:
1- وجوب وجود ضمانات تلزم “إسرائيل” بفك الحصار، ووقف اعتداءاتها.
2- أن تكون التهدئة الطويلة المدى ضمن حالة توافق وطني، وخصوصا بين فصائل المقاومة في قطاع غزة.
3- ألا تكون التهدئة على حساب تفرد “إسرائيل” بالضفة الغربية، وألا تؤدي بأي شكل لفصل الضفة عن القطاع.
أبو مازن الذي يرأس منظمة التحرير كما يرأس السلطة الفلسطينية وحركة فتح ويوجّه حكومة التوافق الوطني؛ تحدث بلغة اتهامية متشككة تجاه حماس وعروض الهدنة الطويلة المدى والتواصل الأوروبي معها.
وفي حديثه مع موقع البوابة، مصر في 16 يناير/كانون الثاني 2015، اتهم أبو مازن حماس بأن قيادتها جلسوا مع الإسرائيليين وأنه حدث اتفاق على تطبيق مشروع “إيجورا أيلند” القاضي بإنشاء دولة فلسطينية في القطاع مضافا إليها جزء من أراضي سيناء المصرية، والتخلي عن القدس وحق العودة وإنهاء القضية!! مضيفا أنه على حد معلوماته فإن “حماس وقعت بالفعل مع إسرائيل على الموافقة على المشروع”.
وعاد أبو مازن لاتهام حماس بالاتهامات نفسها تقريبا في حديثه مع تلفزيون العرب الذي نشرت جانبا منه صحيفة الاتحاد الإماراتية في 5 أبريل/نيسان 2015، مؤكدا أن اللقاءات مع “إسرائيل” تمت بمشاركة قادة كبار من حماس!! ثم عاد لذكر الاتهامات نفسها مع وكالة سبوتنيك الروسية في 13 أبريل/نيسان 2015، ثم كال الاتهامات ذاتها في خطابه للمجلس الثوري لحركة فتح في 16 يونيو/حزيران 2015.
وعلى منوال أبي مازن صدرت تحذيرات أو اتهامات مبطنة لحماس بالسعي لفصل غزة عن الضفة من قيادات في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أو الفصائل الفلسطينية، أمثال واصل أبو يوسف وجميل شحادة وأحمد مجدلاني وصالح زيدان ورباح مهنا.
أما حماس فكررت مرارا أنه لم تحدث مفاوضات أو اتصالات مباشرة مع الجانب الإسرائيلي، وأن اللغة التي يفهمها الاحتلال هي المقاومة والصمود، ولغة البندقية، وأنها ترفض الأفكار التي تعمل على تمزيق الوطن أو التفريق بين الشعب الفلسطيني.. حسبما أشار لذلك مثلا القياديان عزت الرشق وإسماعيل رضوان.
المتابع للشأن الفلسطيني يرى أن أبا مازن وقيادة السلطة في رام الله تفتقر إلى المصداقية حين تتحدث عن مخاوفها الوطنية من تنازلات لحماس، فمن ناحية أولى: إذا كان ثمة من يُخاف عليه (أو منه) في تقديم التنازلات فهو أبو مازن نفسه ومعه خط التسوية السلمية و”مدرسة أوسلو”، التي تنازلت عن معظم فلسطين، واعترفت بـ”إسرائيل” ونبذت العنف (أو المقاومة بتعبير أدق)، وأنشأت سلطة تقوم بدور وظيفي في خدمة الاحتلال في الضفة الغربية أكثر مما تقوم بخدمة المشروع الوطني الفلسطيني، واستنزفت نفسها أمنيا في التنسيق مع العدو الإسرائيلي وفي مطاردة قوى المقاومة.
ومن ناحية ثانية فإذا كان ثمة من يُخاف عليه (أو منه) في سلوكه الوطني فهو أيضا أبو مازن وأعوانه في قيادة السلطة والمنظمة، بعد أن قاموا بتقزيم منظمة التحرير إلى دائرة من دوائر السلطة، وبعد أن عطلوا المجلس الوطني الفلسطيني، وبعد أن عطلوا أيضا المجلس التشريعي للسلطة، وبعد أن حذفوا وألغوا كل البنود المتعلقة بالعداء لـ”إسرائيل” والمشروع الصهيوني من الميثاق الوطني الفلسطيني، ومنذ أن ارتبطوا بمسار التسوية السلمية، وحصلوا على بطاقات الفي آي بي (VIP) الإسرائيلية، وفُرش لهم السجاد الأحمر الأميركي.
ومن ناحية ثالثة فإن تحذير أبي مازن ومن معه من “دويلة غزة” المحتملة هو في وجهه الآخر “فزاعة” يستخدمونها خشية رفع الحصار على غزة، قبل أن تقوم حماس وقوى المقاومة بالرضوخ لكافة مطالبه واشتراطاته المتعلقة بهيمنة سلطته في رام الله وتيار التسوية وفتح على قطاع غزة.
بمعنى أن قيادة المنظمة والسلطة تلكأت في التعامل الجاد مع ملفي الحصار والإعمار في القطاع، بالإضافة إلى تباطئها في تنفيذ استحقاقات المصالحة الفلسطينية بما في ذلك القيام بالتزاماتها الطبيعية في تفعيل الأجهزة والمؤسسات في القطاع وتسليم الرواتب للموظفين وغيرها، بانتظار أن تفعل المعاناة الخانقة (بسبب الحصار والدمار مع تراجع الدعم المادي لحماس) فعلها في أن تأتيهم حماس وهي راغمة أو وهي “شالحة” على حد تعبير قيادي فتحاوي كبير.
وبالتالي فإن خشية عباس هو أن تتجاوز حماس حالة التلكؤ لدى سلطة رام الله، وأن تسعى لتنفيذ اتفاقات التهدئة واستحقاقاتها. وبالتالي، فإن نفوذ حماس وقوى المقاومة وشعبيتها ستبقى وتستمر، وهو ما لا يريده عباس حاليا.
الجانب الإسرائيلي هو المستفيد الأكبر من الانقسام الفلسطيني، ومن فصل قطاع غزة عن الضفة، ومن وجود سلطتين متنازعتين.. غير أن الخط الإستراتيجي الإسرائيلي يتسق مع مسار التسوية ومسار أوسلو الذي يمثله أبو مازن ومع السلطة الوظيفية الموجودة في رام الله، وليس مع قوى المقاومة. ولذلك فإن لغة النار والحصار والدمار كانت هي اللغة التي تعاملت بها “إسرائيل” مع قوى المقاومة في القطاع.
الجديد في الأمر أن هناك مشاعر وقناعات متزايدة أوروبيا وبدرجات متفاوتة إسرائيليا ومصريا أن الحصار وصل حده الأقصى دون أن يحقق النتائج المطلوبة.. وأن حالة قطاع غزة أخذت تنذر بانفجار الأوضاع، أو بانهيار شامل للمؤسسات المحرومة من موازناتها وقدرتها على العمل، وبحالة من الفوضى، وانتشار “التطرف” والقوى المحسوبة على القاعدة و”داعش” (تنظيم الدولة الإسلامية).
هذا بالإضافة إلى أن الحصار لفترات طويلة أصبح أمرا لا ترغب الدول الأوروبية بالاستمرار في إعطائه غطاء شرعيا، بعد أن انكشف فشله وأثمانه الأخلاقية والقانونية والسياسية.. بينما تزداد المطالبات الشعبية الأوروبية بفكه باعتباره وصمة عار في جبين من يمارسه ومن يدعمه.
نعم، يجب عدم التعامل ببراءة مع أي تطورات مهمة بشأن كسر الحصار من الطرف الإسرائيلي أو الغربي. ويجب أن توجد مواقف محددة وضمانات تؤكد على أن استحقاق كسر الحصار والإعمار هو استحقاق ضمن توافق وطني. ولكن في الوقت نفسه، يجب عدم الاستخفاف بالصمود الهائل والرائع لأهل القطاع، وللأداء العسكري المتميز لحماس وقوى المقاومة، وأنهم يجب أن ينتزعوا الاستحقاقات التي ألزم العدو بها نفسه، وأن يتم التعامل مع الحصار كوضع شاذ استثنائي مخالف للقانون الدولي والمعايير الأخلاقية والإنسانية.. وليس كحالة عادية يثير انتهاؤها استغرابنا.
وحماس وقوى المقاومة التي وافقت على حكومة التوافق لم توافق عليها لتقوم بتنفيذ ما عجز عنه الاحتلال الإسرائيلي من تركيع للمقاومة ونزع أسلحتها وتهميش قواها، وإنما لرفع سوية العمل الوطني الفلسطيني. أما أن يتوقع أبو مازن أن يقوم بتطبيق معايير سلطة رام الله الوظيفية على قطاع غزة -الذي تحرر من الاحتلال وقدم أسطورة في التضحية والمقاومة- فهو مخطئ.
حماس وقوى المقاومة هي التي قاتلت، وهي التي حمت القطاع وتحملت مسؤولياته، وهي التي انتزعت التعهدات بفك الحصار. وهي عندما ترى تراخيا ومماحكات حزبية للضغط عليها أو لتأخير الحصار، فمن حقها أن تتابع الطرق للتنفيذ العملي لإنهاء الحصار، وهي عندما وافقت على حكومة الوفاق الوطني لم تكن تنقصُها الشرعية النضالية ولا الشرعية الشعبية الدستورية، ولم تكن هي التي تعطل عمل المجلس التشريعي الذي يعطي الشرعية لأي حكومة، وليتفضل أبو مازن بالرجوع إليه إن كان حريصا بالفعل على عدم الاستفراد، وعلى احترام العمل المؤسساتي القانوني والتشريعي.
وأخيرا، فبدل أن يقوم أبو مازن وقيادات في المنظمة والسلطة بتسميم أجواء المصالحة الوطنية، وتوزيع الافتراءات والدعايات على شركاء المصالحة الوطنية الرئيسيين، عليهم التقدم خطوة للأمام في تعزيز بناء الثقة، وإنفاذ المصالحة، ورفع الحصار عن القطاع.
أضف ردا