تتعامل السلطات اللبنانية واللبنانيون بشكل عام، بحساسية كبيرة تجاه احتمالات توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. وهناك ما يشبه الإجماع على رفض التوطين، وعلى ضرورة عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم المحتلة، وتنفيذ قرار الأمم المتحدة 194.
وقد تم إدراج رفض التوطين في اتفاق الطائف الموقع في 1989، ثم أدخل في مقدمة الدستور اللبناني، التي تضمنت نصا يقول بأن “لا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين”.
غير أن السلطات اللبنانية تقوم تحت غطاء الخوف من التوطين بممارسة سياسات تهدف إلى وضع الفلسطينيين في أوضاع معيشية صعبة، تكون نتيجتها اضطرار أعداد كبيرة منهم للهجرة من لبنان.
وهذه السياسات تخالف في عدد منها مبادئ حقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي، فضلا عن مخالفتها لالتزامات لبنان القومية والعربية.
تعاملت الدولة اللبنانية مع الملف الفلسطيني لفترات طويلة باعتباره ملفا أمنيا، وتجاهلت جوانبه الإنسانية، ولم تصدر القرارات والتشريعات المنظمة لهذا الوجود وفق قواعد القانون الدولي، وتركت الخيار لبعض الوزراء والمديرين العامين ليضعوا قرارات تتعاطى بشكل جزئي مع اللاجئين.
كما تم تجاهل قرارات القمم العربية وجامعة الدول العربية، المتعلقة بمعاملة اللاجئين الفلسطينيين، وخصوصا اتفاقية الدار البيضاء لسنة 1965.
إجراءات التضييق
وتضمنت سلسلة التضييقات الرسمية قيودا على السكن بما في ذلك منع إعادة بناء المخيمات المدمرة، ومنع إنشاء مخيمات جديدة، ومنع إدخال مواد البناء والترميم لعدد من المخيمات، وإلغاء الحق في الملكية العقارية حسب القانون الصادر في 5/4/2001، الذي منع تملك العقارات ومنع الإرث عمن كان متملكا، وهو من أغرب القوانين المعاصرة التي لا تزال سارية المفعول.
وهناك تضييق شديد على ممارسة العمل، حيث كان الفلسطينيون ممنوعون من ممارسة معظم أنواع الوظائف والمهن حتى وصلت لائحة الممنوعات إلى 72 وظيفة.
وفي منتصف سنة 2005 صدر قرار من وزارة العمل بالسماح للفلسطينيين بالعمل بحوالي خمسين وظيفة، غير أنه أبقى على عدم السماح لهم بالعمل في مجالات الطب والهندسة والصيدلة والمحاماة والصحافة وغيرها.
على الرغم من أنها كانت خطوة إيجابية، لكن الفلسطينيين لم يتفاعلوا معها في ضبط أوضاعهم القانونية، إذ قدمت طلبات عمل لـ270 فلسطينيا، من أصل 109 آلاف طلب قدمها عمال غير لبنانيين سنة 2005، ويبدو أن الحالة المادية الصعبة للفلسطينيين، لا تشجعهم على تقديم طلبات العمل التي تقتضي دفع مبلغ سنوي يقدر بحوالي سبعمئة دولار.
ثم إن تسوية الأوضاع ترافقها عملية دفع ضرائب، لا يحصل اللاجئ مقابلها على أية خدمات.
والفلسطينيون محرومون أيضا من الخدمات الصحية الحكومية، وهناك قيود مشددة على تعليم الفلسطينيين في المدارس الحكومية. كما يمنع الفلسطينيون من حق الضمان الاجتماعي، حتى لو حصلوا على إذن العمل، وخصمت منهم مستحقات الضمان، فإنهم لا يستفيدون منه، وغير ذلك من العقبات.
أدت هذه السياسات إلى مغادرة عشرات الآلاف من فلسطينيي لبنان إلى بلدان الخليج والدول الغربية، وإلى وجود نسبة بطالة عالية خصوصا بين المتعلمين وخريجي الجامعات، وتناسبت طردا بطالة الفلسطيني وانحسار فرصته في العمل مع تقدم مستواه الدراسي وتحصيله التعليمي.
وعلى الرغم من أن تقديرات الأونروا، في منتصف 2007 تشير إلى وجود نحو 410 آلاف فلسطيني مسجل لديها في لبنان، إلا أن التقديرات الفعلية حسب عدد من المصادر تشير إلى أن عدد الفلسطينيين المقيمين في لبنان لا يتجاوز 270 ألفا.
خلفيات المخاوف والإجراءات
تلعب الأحجام السكانية للطوائف وأوزانها السياسية أدوارا أساسية في بنية نظام الحكم وتركيبته، وأشكال التمثيل فيه، وفي عملية صنع القرار.
وفي لبنان 11 طائفة مسيحية وخمس طوائف إسلامية، يخشى كل منها أن يتأثر حجمه وقدرته على التأثير سلبا، إذا تم توطين أو تجنيس أية مجموعة قادمة من الخارج.
وعلى أي حال، فإن سبر البعد الطائفي لا يظهر أن رفض التوطين مرتبط بالضرورة باحترام الجميع للتوازن الطائفي، ولكنه استخدم أحيانا أداة لخدمة طائفة دون أخرى، أو جزءا من لعبة التوازنات والتحالفات السياسية.
وتجدر ملاحظة أن أشد الفئات اعتراضا على توطين الفلسطينيين في لبنان، أو إعطائهم حقوقهم المدنية، كانت هي أول من مارس قادتها عمليات التجنيس الواسعة للفلسطينيين المسيحيين، حيث تم إعطاء الجنسية اللبنانية لنحو 15 ألف لاجئ فلسطيني معظمهم من المسيحيين، وذلك في الفترة التي تلت هجرة هؤلاء سنة 1948 إلى لبنان.
وقد بلغ عدد الفلسطينيين الذين يحملون جنسيات لبنانية قبيل سنة 1982 نحو خمسين ألفا معظمهم من المسيحيين.
من جهة ثانية، تلعب التوازنات السياسية، والتحالفات التي لا بد منها بين الفرقاء اللبنانيين، لإدارة الدولة ومؤسساتها، دورا ضابطا، ومعطلا أحيانا، في اتخاذ القرارات.
فعلى الرغم من أن هناك تعاطفا كبيرا مع إعطاء الحقوق المدنية للفلسطينيين لدى العديد من التيارات والقيادات السياسية في لبنان -بما في ذلك حزب الله وأمل، وتيار المستقبل، والتقدمي الاشتراكي- فإن بعض هذه القوى لا تطرح هذا الموضوع بقوة، سواء بسبب وجود أولويات أخرى، أو مراعاة لتحالفات سياسية قائمة مع تيارات أخرى تؤيد استمرار حرمان الفلسطينيين من حقوقهم المدنية.
وعلى سبيل المثال فقد ذكرت النائبة بهية الحريري أن رفيق الحريري كان ضد قانون تملّك الأجانب الذي أقر عندما كان رئيسا للوزراء، ومع ذلك فقد اضطر للسير به على الرغم مما يحمله من ظلم للفلسطينيين، حيث شعر بأنه سيتعرض لحملة إذا دافع عنهم.
وبالرغم من أن مقررات الحوار الوطني بين قوى 8 آذار و14 آذار، التي صدرت في 13 آذار/مارس 2006، دعت إلى تحسين أوضاع اللاجئين الفلسطينيين، إلا أن تعقيدات الوضع السياسي والأمني المحلي، وتبدل التحالفات والتوازنات، جعل من مسألة تحسين الظروف المعيشية للفلسطينيين أولوية متأخرة.
ومن جهة ثالثة تحتج بعض الجهات اللبنانية بأن توطين الفلسطينيين أو إعطاءهم حقوقهم المدنية، بما فيها حق العمل، سيؤدي إلى مزاحمة اللبنانيين في معيشتهم، وسيزيد من نسب الفقر والبطالة بين اللبنانيين، مما سيكون له انعكاسات سلبية على الاقتصاد اللبناني.
وبغض النظر عن الجانب القانوني والإنساني في هذه المسألة، فإن ما يذكر من أضرار اقتصادية محتملة، فيه الكثير من التعميم والمبالغة، ولا يستند بالضرورة إلى أسس علمية:
* فاللاجئون الفلسطينيون مقيمون في لبنان، وليسوا فئة جديدة مستوردة للعمل.
* وهي فئة كانت تعمل بشكل “غير قانوني” مما أدى إلى منافسة “غير عادلة” تضرر منها الطرفان العماليان الفلسطيني واللبناني، كما تضررت منها الخزينة اللبنانية، بينما استفاد أصحاب العمل في استغلال العمال وفي عدم دفع ما يستحق للضمان الاجتماعي ووزارة العمل.
* ثم إن دخل العامل الفلسطيني سيصرف في لبنان، ولن يحول إلى الخارج، وسيسهم في تنمية الدورة الاقتصادية المحلية اللبنانية.
* وسيسهم في إبعاد الفلسطينيين عن الآثار السلبية الناتجة عن البطالة والقهر كالفساد والجريمة وغيرها.
ومن المفيد الإشارة إلى أن الفلسطينيين الذين لجؤوا إلى لبنان بعد حرب 1948 حملوا معهم نحو 150 مليون جنيه إسترليني، وهو ما يعادل 15 مليار دولار بحسابات هذه الأيام وفق بعض التقديرات.
كما أسهموا في النهضة الاقتصادية اللبنانية. ولمع في لبنان الكثير من الفلسطينيين الذين كان لهم شأن كبير في الازدهار اللبناني أمثال يوسف بيدس مؤسس بنك أنترا، وكازينو لبنان، وطيران الشرق الأوسط، ورفعت النمر مؤسس البنك الاتحادي العربي ثم بنك بيروت للتجارة، وباسم فارس وبدر الفاهوم مؤسسا الشركة العربية للتأمين، وكمال الشاعر مؤسس دار الهندسة، وريمون عودة مؤسس بنك عودة، بالإضافة إلى عبد المحسن القطان، ومحمود فستق، ورضا إيراني وغيرهم كثير.
الخلفية الرابعة للإجراءات اللبنانية ترجع إلى أن التواجد الفلسطيني المسلح في لبنان وتوسعه وانتشاره القوي، خصوصا منذ اتفاق القاهرة في 1969 الذي نظم هذا الوجود، شكل عنصرا مؤثرا في الوعي واللاوعي اللبناني في التعامل مع الملف الفلسطيني.
وقد زاد من هذا التأثير دخول القوى الفلسطينية راغبة أو مرغمة في الحرب الأهلية اللبنانية. كما تبنى الكيان الإسرائيلي سياسة تستهدف الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، وتجعل منه عبئا كبيرا على الدولة اللبنانية وعلى الشعب اللبناني، حيث شملت عمليات الاجتياح والانتقام الإسرائيلي البنيةَ التحتية اللبنانية، والقرى والبلدات والمناطق التي تحتضن هذا الوجود أو تدعمه.
وقد أسهمت هذه التجارب والخلفيات في إيجاد حالة من الشك وعدم الثقة المتبادلة، وقوت النزعة لدى اللبنانيين ضد التوطين، كما قوت الرغبة لدى السلطات في ممارسة إجراءات أكثر تشددا.
ومن جهة خامسة فقد أدى تراجع القضية الفلسطينية، في السنوات الأخيرة إلى ازدياد المخاوف من احتمال فرض التصورات الأميركية الإسرائيلية المرتبطة بالتوطين.
وقد نوه الرئيس إميل لحود إلى أن الحملات والضغوط التي تتعرض لها رئاسة الجمهورية هدفها تمرير قضية توطين الفلسطينيين في لبنان. كما حذر لحود من أن الأطروحات بشأن قيام صيغة فدرالية في لبنان ترمي للوصول إلى “دولة ضعيفة ومقسمة لتحقيق التوطين في لبنان لأنه من غير الممكن تحقيقه في ظل دولة قوية”.
وقد تزايدت المخاوف اللبنانية بعد اتفاقية أوسلو سنة 1993 حيث ضَعُف اهتمام القيادة الفلسطينية بفلسطينيي لبنان، وبعدما ظهرت بعض الشروخ في الموقف الفلسطيني إثر توقيع وثيقة جنيف في 13/10/2003، بين عدد من الشخصيات الفلسطينية والإسرائيلية، بما فيها شخصيات فلسطينية مقربة من عرفات ومن أبي مازن أمثال ياسر عبد ربه، وهشام عبد الرازق، ومحمد حوراني، وقدورة فارس، ورائد العمري. وهي وثيقة تتضمن عمليا الموافقة على عدم عودة اللاجئين إلى الأرض المحتلة سنة 1948.
خاتمة
يجب أن يكون واضحا أن الفلسطينيين في لبنان يرفضون التوطين، ويظهر استطلاع لآرائهم، قام به مركز الزيتونة وفق شروط أكاديمية صارمة، في مايو/أيار 2006، وأشرف عليه كاتب هذه السطور، أن98.3% لم يجدوا حلا لقضيتهم بالتوطين في لبنان، وأن 81.5% منهم متأكدون من عودتهم إلى فلسطين بشكل أو بآخر، كما أن 79.6% لم يقبلوا إلا بالعودة إلى قراهم التي أُخرجوا منها.
وعلى ذلك، فإذا كان طرفا العلاقة الأساسيان (اللبنانيون والفلسطينيون) يرفضان التوطين، فمن باب أولى أن توضع هذه الحجة جانبا عند التعامل مع الملف الإنساني للاجئين.
إن إنقاص أعداد الفلسطينيين أو الضغط عليهم للهجرة لا يخدم قضية اللاجئين الفلسطينيين، بقدر ما يجبرهم على السفر للدول الأجنبية (غرب أوروبا وإسكندنافيا وكندا… وغيرها) للحصول على جنسيتها وبحثا عن العيش الكريم، وهو ما يحمل خطر الذوبان لأجيال الفلسطينيين في هذه المجتمعات.
كما أن وضع الفلسطينيين في ظروف قاهرة لا يؤدي بالضرورة إلى تركيزهم على قضية فلسطين كما يدعي البعض، إذ إن أهم شروط التحرير هو صناعة الإنسان المتمسك بعزته وكرامته، والذي لا تغمس لقمته بالقهر والذل.
ثم إن نشأة فتح وحماس في الخارج تركزت في الكويت قبل غيرها من مناطق اللجوء الفلسطيني.
إنه من الواجب النظر بشكل إيجابي لإعطاء الفلسطينيين حقوقهم المدنية، فهو حق طبيعي تمليه الواجبات الوطنية والقومية، فضلا عن القوانين الدولية.
ثم إن ذلك سيعزز قوة الاقتصاد اللبناني، وسيخفف الآثار السلبية الناتجة عن البطالة والشعور بالظلم في الوسط الفلسطيني، كما سيمكن الفلسطينيين من العمل الإيجابي البناء لخدمة قضيتهم.
كاتب فلسطيني
أضف ردا