مدة القراءة: 13 دقائق

 حول التداعيات القانونية والسياسية لانتهاء ولاية الرئيس محمود عباس.

 بقلم : أ. د. عبد الستار قاسم  / أستاذ العلوم السياسية، جامعة النجاح – فلسطين.  

منذ إنشاء السلطة الفلسطينية سنة 1994، هناك من يبحث عن قانون فلسطيني ويسعى إلى تطبيقه. لم تكن البداية سهلة، ولم يكن من الممكن كتابة قانون بين ليلة وضحاها، وكان يجب أن يمر وقت حتى يصبح بالإمكان الانتباه إلى مؤسسية كتابة القانون، وإقامة المؤسسات المناسبة التي تتولى صياغة قانون أساسي، وما يتفرع عنه من قوانين تنظم مختلف شؤون الحياة. بدأ الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة سنة 1994 مرحلة انتقالية، وكما هي الحال لدى كل الأمم، تتصف هذه المرحلة بالتردد والشك وعدم وضوح الرؤية، والمرور بتجارب عديدة بين الصحيح والخطأ.

كان انتخاب المجلس التشريعي سنة 1996 بداية بناء مؤسسات سلطة رسمية مسؤولة، تهتم بتنظيم الشؤون العامة التشريعية، وتتلمس الاحتياجات الملحة لسدّ ثغرات قانونية تجعل حياة الموطن اليومية أكثر يسراً وسهولة. لكن الأمور لم تجرِ وفق المعايير المهنية، ولم يقم المجلس التشريعي بالجهود المطلوبة إما لقصور داخلي، أو بفعل ضغوط من خارجه.

الأولوية لتطبيق أوسلو
من الناحية الفعلية، كانت الأولوية، وما زالت حتى اللحظة هذه، لتطبيق اتفاق أوسلو وما انبثق عنه من تفصيلات بخاصة في اتفاقية القاهرة المؤقتة لسنة 1994، واتفاقية طابا لسنة 1995. السلطة الفلسطينية، وفق الاتفاقيات، تحت الاختبار المستمر من قِبَل “إسرائيل” والولايات المتحدة، وعليها أن تبدي التزاماً بالاتفاقيات من الناحية التطبيقية إذا أرادت لصلاحياتها أن تتوسع، وللأموال المطلوبة أن تتدفق من الدول المانحة. المعنى أن أوسلو وتبعاته يأتي فوق كل الاعتبارات القانونية الداخلية الفلسطينية، وأن استمرار السلطة مرتبط بمدى استجابتها للمتطلبات المفروضة عليها، وعلى رأسها المتطلبات الأمنية.

يفسِّر هذا جزئياً، وليس كلياً، تردد رئيس السلطة الفلسطينية في المصادقة على العديد من مشاريع القوانين، التي كان يرفعها إليه المجلس التشريعي. كان عليه أن يدقق أولاً فيما إذا كان المشروع يتفق مع أوسلو، أو على الأقل لا يتناقض معه؛ وأن يتأكد من أنه لا ينتقص من استئثاره بالسلطة. لم يتحدّ المجلس التشريعي رئيس السلطة، وبقي يبحث عن تبريرات لعجزه. علماً أن رئيس السلطة كان يحظى بتأييد أغلبية في المجلس، ولم يكن من المتوقع أن تنشب حرب من أجل المأسسة القانونية.

حتى الآن تتجاوز السلطة الفلسطينية القانون الفلسطيني لحساب اتفاق أوسلو؛ فمثلاً كانت تعتقل بعض الناس بعد أوسلو وتبقيهم في السجن لفترات طويلة، وذلك للتأكيد على ملاحقتها الأمنية للمقاومين الفلسطينيين أو الذين يُشك بأنهم سيقاومون بطريقة أو بأخرى، وهي ما زالت تعتقل الناس وتبقيهم في السجن دون مبررات قانونية فلسطينية. لكننا عادة نسمع ثناء من “إسرائيل” والولايات المتحدة على مثل هذه الإجراءات، ونسمع بمطالبات للسلطة بالقيام بالمزيد. ولا يخجل أهل الغرب عموماً من التأكيد أن استمرار صرف رواتب الموظفين الفلسطينيين، مرتبط بمدى مقاومة السلطة الفلسطينية بما يسمى بالإرهاب. لقد تمّ ترتيب الأمور غربياً وإسرائيلياً بطريقة تجعل الفلسطيني متقبلاً للقمة خبز ثمنها معاناة آلام أبناء وطنه، ودون أن يصر على قانون يضمن وحدة الناس.

تقاليد التجاوز القانوني
إن تجاوز القوانين والمواثيق عبارة عن تقاليد على الساحة الفلسطينية، قبل قيام السلطة الفلسطينية وبعدها. لم يكن رئيس منظمة التحرير الفلسطينية يحترم الميثاق الوطني الفلسطيني، ولم تكن مؤسسات منظمة التحرير تحترم نفسها أو المواثيق التي قطعتها على نفسها. فمثلاً أصدرت منظمة التحرير الفلسطينية مبادرة للحل السلمي سنة 1970، دعت فيها إلى إقامة دولة ديموقراطية علمانية في فلسطين تشمل كل أصحاب الأديان السماوية. علماً أن الميثاق الوطني الفلسطيني يدعو إلى إعادة التوازن السكاني في فلسطين إلى ما كان عليه قبل الغزو الصهيوني. وقام عرفات سنة 1983 بزيارة مصر، على الرغم من أن قرارات المجلس الوطني الفلسطيني كانت تربط التقدم في العلاقات مع مصر بقدر ابتعادها عن اتفاقية كامب ديفيد.

المجلس الوطني الفلسطيني نفسه اتخذ قرارات سنة 1988 في مؤتمره المنعقد في الجزائر، تتجاوز الميثاق؛ كان على رأسها القبول بقرار الجمعية العامة رقم 181، والقبول بقراري مجلس الأمن 242 و338. من الناحية القانونية، كان من المفروض أن يعمل المجلس على تعديل ميثاقه أولاً، لكنه فضّل تجاوزه. ولهذا لم يجد عرفات صعوبة في توقيع اتفاق أوسلو والعمل على تطبيقه قبل أن يبت المجلس الوطني الفلسطيني بالأمر؛ وأما أعضاء المجلس الوطني فلم يكترثوا، ولم يحاولوا الدفاع عن صلاحيات المجلس.

في عهد السلطة الفلسطينية، كان من المفروض أن تتم انتخابات رئاسية وبرلمانية سنة 1999، لكن انتخابات الرئاسة لم تتم إلا بعد وفاة عرفات، وانتخابات المجلس التشريعي تمت سنة 2006. حيث استمر المجلس التشريعي الذي انتخب سنة 1996 في عمله غير القانوني، مدة ست سنوات، ودون أي اكتراث بأهمية القانون في تاريخ الشعوب.

الشرعية الفلسطينية
من تتبع التاريخ الفلسطيني منذ سنة 1967، يصعب القول إنه كان هناك شرعية فلسطينية منفصلة عن البعدين الشخصي والخارجي. كان هناك لمحات من الشرعية على مستوى منظمة التحرير الفلسطينية، وهي لمحات موسمية خاصة كانت ترى فيها قيادة منظمة التحرير، وبالتحديد عرفات، ضرورة بالنسبة لها. فمثلاً تمت دعوة المجلس الوطني الفلسطيني للانعقاد في عمّان سنة 1984 لضرورات سياسية لها علاقة بصراعات داخلية في حركة فتح، ووجد رئيس المنظمة أهمية في الاحتماء “بشرعية” منظمة التحرير في مواجهة خصومه. وكذلك فعل عندما دُعي المجلس الوطني الفلسطيني سنة 1988 للانعقاد من أجل تحليل المحرمات. وفي عهد السلطة الفلسطينية، قام عرفات بدعوة المجلس الوطني الفلسطيني للانعقاد لتحمل أعباء تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني وفق الأهواء الإسرائيلية والغربية.

لم يخضع تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني عبر الزمن لمعايير دقيقة ومهنية، وعمل رئيس المنظمة على التدخل في عضويته بطريقة تضمن له الأغلبية باستمرار. لقد كان حريصاً على أن يكون أغلب أعضائه من مؤيديه، الذين لا يعارضون التجاوزات، وحرص على عدم انعقاده إلا في الأحوال التي يراها هو مناسبة. وبقي المجلس مع اللجنة التنفيذية للمنظمة والمجلس المركزي مجرد أدوات شخصية بيد رئيس المنظمة.

لم تكن اللجنة التنفيذية للمنظمة تتقيد باللوائح والتعليمات الداخلية المكتوبة، التي تحكم عملها وعمل كلٍّ من المجلسين الوطني والمركزي. وإذا راجعنا هذه المسألة فإننا نجد أن كل هيئات المنظمة ومجالسها فاقدة للشرعية، ولا حق لها بالاجتماع والتداول واتخاذ قرارات كهيئات رسمية تمثل الشعب الفلسطيني. وقد لاحظنا في الآونة الأخيرة، وبعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية كيف جرت محاولات مستميتة، من قِبَل رئيس السلطة الفلسطينية ومن يعاونه؛ لإحياء منظمة التحرير الفلسطينية كمصدر الشرعية الوحيد على الساحة الفلسطينية، وذلك لسحب شرعية المجلس التشريعي الفلسطيني. كانت المنظمة موضوعة على رفّ منسي، وفجأة تحولت إلى شابة تستحق الاحتضان والرعاية.

وواضح أيضاً أن التلاعب بمسألة الشرعية على الساحة الفلسطينية يلقى تشجيعاً من قبل قوى خارجية، هدفها فقط تنفيذ اتفاق أوسلو وتبعاته، وتحقيق صلح نهائي مع “إسرائيل”. لقد نشط الجانب الخارجي بعد قيام السلطة الفلسطينية في البحث عن مخارج؛ للمحافظة على قوة المؤيدين للمفاوضات مع “إسرائيل” ونفوذهم، وتمّ تقديم الدعم المالي والإعلامي والأمني اللازم من أجل أن تستمر السلطة الفلسطينية في ركب الخارج، حتى لو كان على حساب الوحدة الوطنية الفلسطينية. فمثلاً أعلنت دول عربية بعد فوز حماس بأنها تعترف فقط بتمثيل منظمة التحرير الفلسطينية، ودعت دول أخرى إلى ضرورة التزام حماس بالشرعية الفلسطينية التي تمثلها منظمة التحرير.

هنا، أذكر القضاء الثوري الفلسطيني للتدليل بصورة صارخة على دجل قادة المنظمة؛ فعقب سيطرة حماس على قطاع غزة، قررت الرئاسة الفلسطينية تقديم بعض ضباط حركة فتح من الصف الثاني للمحاكمة بتهمة الهروب من أرض المعركة. وفعلاً تمّ تشكيل محكمة عسكرية في أريحا، وفق قانون القضاء الثوري الفلسطيني لمنظمة التحرير الصادر سنة 1979، وتقديم ثمانية ضباط فتحاويين للمحاكمة. فجأة ظهر هذا القانون على السطح، وأصبح شرعياً يمكن استخدامه. وفي الحقيقة لو تمّ تطبيق هذا القانون فعلاً، لحصل قادة السلطة الفلسطينية، وعلى رأسهم السيد محمود عباس، على عدة أحكام بالإعدام رمياً بالرصاص. (أرجو الاطلاع على القانون)

الشرعية في السلطة الفلسطينية
من المفترض أن الشرعية في أي دولة تتجسد في الرئاسة والمجلس التشريعي والحكومة برقابة القضاء، وتقوم هذه الجهات وفق تداخلات ديناميكية تحترم الصلاحيات على ضمان الانسيابية الشرعية، حتى لا تقع البلاد في فتن داخلية أو تداخلات تتحول إلى صراعات. من المفترض أيضاً ألا تشذ السلطة الفلسطينية، التي لا ترتقي إلى دولة، عن هذه القاعدة وذلك لضمان الانسيابية وتحديد المسؤوليات والدفع باتجاه البناء والتقدم. رئيس السلطة الفلسطينية منتخب وهو جزء من الشرعية، وكذلك المجلس التشريعي؛ أما الحكومة فمنبثقة عن جسم شرعي، وهي تعمل على حماية الشرعية وفق القواعد الدستورية. ومن المفترض أن هناك قضاء مستقل يراقب، ويفتح أبوابه أمام الطعون، ويتخذ قرارات قضائية منسجمة مع متطلبات الشرعية.

لم يتم الالتزام بهذه الأسس في السلطة الفلسطينية في عهد عرفات، ولا بعد فوز حماس في المجلس التشريعي. وقد كان لافتاً للنظر، بصورة فاضحة، قيام المجلس التشريعي المنتهية صلاحياته مباشرة بعد فوز حماس بالانعقاد، وتحويل بعض الصلاحيات الخاصة بالمجلس التشريعي إلى الرئاسة الفلسطينية. لقد تم تحويل تبعية أجهزة أمنية من الحكومة إلى الرئاسة، وتحويل إمرة الحكومة على مؤسسة الإذاعة والتلفاز إلى الرئاسة، وتعيين آلاف الأشخاص في وظائف لا تعريف محدد لها. كان واضحاً في هذا العمل أن النية منعقدة تماماً لتقويض أسس الشرعية التي حددها القانون الأساسي الفلسطيني.

هنا أنوه بأن قناعتي هي أنه لا يوجد شرعية فلسطينية مع أوسلو، والشرعية التي أتحدث عنها هي شرعية المرحلة غير الشرعية.

يلاحظ المتتبع أن الصلاحيات التي انتزعت من الحكومة المتوقع أن تشكلها حماس هي الصلاحيات ذاتها التي انتزعت من عرفات، عندما قرر الأمريكيون أنهم يريدون السيد محمود عباس رئيساً للوزراء. الأمريكيون أقاموا رئاسة وزراء، وقرروا لمن ستكون، وقرروا الصلاحيات التي يجب أن تكون بيده، وذلك لتسهيل تلبية متطلبات الأمن الإسرائيلي من السلطة الفلسطينية. أي من الناحية العملية يبدو الأمريكيون أصحاب الكلمة الفصل في الشرعية، وبالتأكيد دون غياب الإسرائيليين عن المسرح. وبعد فوز حماس في الانتخابات أعيدت هذه الصلاحيات إلى الرئاسة الفلسطينية لأن حماس لن تنفذ الإرادة الأمريكية الإسرائيلية.

وفوراً اشتغل السياسيون والإعلام بمسألة الشرعية الفلسطينية، مؤكدين أن منظمة التحرير هي مصدرها، وأن الرئاسة الفلسطينية هي التجسيد الحقيقي لإرادة منظمة التحرير. أي أن الشرعية محصورة فقط بالرئاسة الفلسطينية وحدها، وما عدا ذلك لا يمثل الشرعية. والهدف من ذلك واضح وهو نزع الشرعية عن المجلس التشريعي الفلسطيني، الذي تسيطر عليه حماس، وإخراج الحركة من دائرة الشرعية. بمعنى آخر، كان هناك قرار واضح بعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات الفلسطينية، واتخاذ مختلف الخطوات لإعادة الأمور للسيطرة الكاملة لمؤيدي أوسلو وتبعاته.

الاعتراف بـ”إسرائيل” أساساً للشرعية

كان عرفات يعمل دائماً على تغطية تجاوزاته للأطر الشرعية لمنظمة التحرير الفلسطينية بتبريرات متعددة، وكان يمضي في معظم الأحيان في سياساته بحكم الأمر الواقع، وقدراته المالية في استحواذ قادة الفصائل الفلسطينية. لم تكن تجاوزاته تثير الكثير من الجدل على الساحة الفلسطينية، إلا في أوساط بعض المثقفين الوطنيين، أصحاب الخبرة في العمل الوطني.

حتى بعد قيام السلطة الفلسطينية، بقي قادراً على تحييد الفصائل، والسير في سياساته بمعزل عن الأطر القانونية. ويبدو أن خصومه قد تعلموا منه؛ فمنحوا سلطات لغيره أمام عينيه وهو ما يزال على قيد الحياة.

فاستطاعت أمريكا أن تفرض على عرفات وزيراً للمالية، ونزعت الكثير من الأموال من بين يديه، وأن تفرض على السلطة الفلسطينية تبني خريطة الطريق، التي تضمنت إقامة رئاسة وزراء فلسطينية لتكون بديلاً للرئاسة الفلسطينية التي كان يقوم عليها عرفات.

وبالطريقة ذاتها التي كان يعمل بها عرفات من فوق القانون ومن تحته وخلفه، سلم الأمريكيون الكثير من الصلاحيات لعباس، ومثلما كان يستخدم الأموال للقفز عن الأطر الشرعية، استخدمت أمريكا الأموال لفرض الشرعية التي رأتها مناسبة.

إن أسلوب التحايل والضغط المالي أو الإغراء لم ينفع، بعد فوز حماس؛ لتسيير الشرعية وفق أهواء الغرباء أو المصالح الشخصية لبعض المتنفذين في السلطة، فتم اللجوء إلى آليتين لإقصاء حماس وهما: الحصار المالي، وصنع حالة من عدم الاستقرار الداخلي. وقد شاركت دول كثيرة، بما فيها معظم الدول العربية في الحصار، وقطعت الأموال، وصنعت أزمة كبيرة بين الموظفين والحكومة الفلسطينية الجديدة. ومن ناحية أخرى، بدأت القوى المؤيدة للرئاسة الفلسطينية أو للتفاوض مع “إسرائيل” بالقيام بأعمال مخلة بالنظام بشكل شبه يومي مثل التحريض على الإضراب، وحرق مبنى رئاسة الوزراء، والتهديد بالهجوم على مقر المجلس التشريعي، وإطلاق أيدي الزعران بالمزيد للإساءة للمواطنين… إلخ. كان واضحاً أن أصحاب أوسلو ومن معهم من قوى خارجية لا تقبل بنتائج الانتخابات، مستعدون للقيام بكل جهد ممكن لإسقاط شرعية المجلس التشريعي.

ركز أصحاب أوسلو على مسألة الشرعية بالقول بأن الشرعية الفلسطينية، كما ذكرت، تستمد فقط من منظمة التحرير الفلسطينية، وأن الرئاسة الفلسطينية بقيادة عباس وحدها هي التي تمثل الشرعية. يتضح من هذا أن هناك رفضاً لشرعية المجلس التشريعي، وأن المجلس، على الرغم من أن أعضاءه منتخبين، ليس جزءاً من الشرعية الفلسطينية، وأنه يجب أن يخضع لمنظمة التحرير الفلسطيني إذا أراد أعضاؤه أن يتمتع مجلسهم بالشرعية. بمعنى آخر، لسان الحال يقول بأن على الذي يريد أن يتمتع بالشرعية على الساحة الفلسطينية أن يقبل الاتفاقيات الموقعة مع “إسرائيل”، وأن يقبل في النهاية الاعتراف بـ”إسرائيل”. لم تكن هذه المسألة باطنية، وإنما أعلن عباس مراراً، وكذلك العديد من أقطاب حركة فتح، أن على حماس أن تعترف بالاتفاقيات الموقعة. لكنهم لم يطالبوا حماس علناً بالاعتراف بـ”إسرائيل”.

لم تقف “إسرائيل” متفرجة أو مكتوفة الأيدي، بل عملت علناً جنباً إلى جنب مع مؤيدي الرئاسة الفلسطينية في الضغط على حماس. بالإضافة إلى إسهامها الفعال في الحصار المالي، وحجز أموال الجمارك الخاصة بالبضائع المستوردة، وقامت باعتقال أعضاء من المجلس التشريعي الفلسطيني المنتمين لحماس، ولاحقت وزراء آخرين وزجتهم بالسجن.

هذا يؤكد ما بدأت به حديثي في هذا المقال وهو أن اتفاق أوسلو وتبعاته يشكل أساس الشرعية وفق جزء لا بأس به من الشعب الفلسطيني. أي أن الاعتراف بـ”إسرائيل”، في النهاية، عبارة عن ركن حيوي وشرط أساسي لاكتساب الشرعية، وأن الذي لا يعترف بـ”إسرائيل” سيجد نفسه في مواجهة قوى داخلية وخارجية لإسقاطه. بينما يحصل من يعترف بـ”إسرائيل” ويسير في ركب التفاوض على الأموال، ويصرف رواتب الموظفين الفلسطينيين الذين ينتمون في الغالب للأجهزة الأمنية، وترضى عنه القوى الغربية، بالأخص الولايات المتحدة الأمريكية.

شرعية عباس ورئيس حكومته
إذا أخذنا بالاعتبار القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية والانتخابات الرئاسية التي جرت فإن السيد عباس رئيس شرعي منتخب، وإذا أخذنا القضاء الثوري الفلسطيني والذي تمت الإشارة إليه بالاعتبار فإن عباس غير شرعي، وعليه أن يمثل أمام محكمة عسكرية تابعة للمنظمة بتهم عدة، تودي أغلبها إلى حبل المشنقة أو ميدان الرماية. أما رئيس الوزراء فياض وأعضاء حكومته، فلا يتمتعون بأي نوع من الشرعية. إذ لا يوجد في القانون الأساسي الفلسطيني حكومة اسمها حكومة تسيير أعمال دائمة، ولا يوجد إطلاقاً في القوانين المتفرعة ما يشير إلى هذا الأمر من قريب أو بعيد.

الحكومة المقالة في غزة هي غير شرعية أيضاً، لكن وزر عدم شرعيتها لا يقع على عاتقها وإنما على عاتق السيد عباس، الذي يريد احترام شرعية انتخابه كرئيس، ولا يريد احترام شرعية انتخاب أعضاء المجلس التشريعي.

حكومة غزة مستمرة بفضل صمودها بوجه الضغوط الفلسطينية والإسرائيلية والعربية والعالمية، بينما حكومة رام الله مستمرة بفضل أموال الدول المانحة، التي تتحكم بها “إسرائيل” وأمريكا، وبفضل التسهيلات الإسرائيلية.

غزة إقليم متمرد
هناك حديث إعلامي يجري الآن حول احتمال إعلان رئيس السلطة الفلسطينية أن قطاع غزة إقليم متمرد، أي خارج عن سلطة السلطة المركزية وإرادتها.

مفهوم الإقليم المتمرد يعني غالباً خروج جماعة أو مجموعة من الناس في إقليم معين من أقاليم الدولة عن إرادة السلطة المركزية أو الفيدرالية، وإقامة سلطة مستقلة منفصلة عن الوطن الأم. أي أن المفهوم يشمل الناس والأرض، ولا ينحصر بمجموعة من المسلحين أو الثوار، الذين يحاربون الحكومة في الوديان ورؤوس الجبال. ومن المترتب على ذلك أن الحكومة المركزية تستنفر قواها وطاقاتها لإعادة الإقليم إلى وضعه السابق، والمحافظة على وحدة أراضي الدولة ووحدة سكانها. وفي الغالب، الحرب تصبح متوقعة، والعلميات العسكرية ستأخذ مجراها إن لم يتم التوصل إلى حل سلمي.

(لو) كانت السلطة الفلسطينية، التي قامت وفق اتفاق أوسلو وتبعاته حكومة حقيقية لدولة ذات سيادة وفق القانون الدولي؛ لأمكن الحديث القانوني عن إقليم متمرد، لكن بسبب غياب الدولة، وبسبب وجود الاحتلال الإسرائيلي فإنه لا يمكن تطبيق المفهوم العام للإقليم المتمرد لا على قطاع غزة ولا على الضفة الغربية.

بسبب وجود الاحتلال، من المنطق ومن القانون أن يهبّ الشعب الفلسطيني متمرداً على الاحتلال سواء في الأرض المحتلة/48 أو الضفة الغربية وغزة. القانون الدولي يمنح الأقاليم الواقعة تحت الاحتلال حقّ المقاومة، ويقف ضدّ الاحتلال، ومن حقّ قطاع غزة والضفة الغربية أن يتمردا من أجل نيل الحرية وتحقيق الاستقلال. فإذا كانت الضفة الغربية تحت الاحتلال المباشر، فإن الأولوية أمام سكانها أن يثوروا في وجه الاحتلال ويحققوا الاستقلال، وإذا كان قطاع غزة متمرداً، فإن القول يعني إن القطاع قد خرج من قبضة الاحتلال. فإذا أراد شخص أو جهة عودة القطاع عن تمرده، فإنه يطلب من سكان القطاع العودة إلى الاحتلال.

“إسرائيل” تدخل بآلياتها وجنودها باستمرار إلى قرى الضفة الغربية ومدنها، والأجهزة الأمنية الفلسطينية تختفي من الشوارع بمجرد دخول القوات الإسرائيلية. في ظلّ هذا الوضع، تقوم السلطة الفلسطينية بإدارة شؤون الناس اليومية، بينما يمارس الاحتلال احتلاله بالطريقة التي توفر له متطلباته الأمنية؛ مما يعني أن السلطة الفلسطينية تشكل غطاء مدنياً لاستمرار الاحتلال بالقيام بكافة إجراءاته. ولذلك من المنطقي أن يطالب الشعب الفلسطيني السلطة الفلسطينية في رام الله بالتمرد، وأن يطالب غزة والضفة بالوحدة بعدما يتمّ طرد الاحتلال. بهذا المنطق، يحقّ للشعب الفلسطيني أن يعلن الضفة الغربية إقليماً خانعاً، أو متعاوناً مع الاحتلال.

على أي حال، إذا تمّ إعلان قطاع غزة إقليماً متمرداً من قبل رئيس السلطة الفلسطينية فإنه من المتوقع أن يتمّ اتخاذ إجراءات متعددة لإعادة القطاع إلى السلطة الفلسطينية في رام الله. فمن المتوقع أن يتمّ تشديد الحصار المالي والاقتصادي عليها، وأن يتمّ مثلاً فصل آلاف الموظفين في القطاع، والذين يتقاضون رواتب أعمالهم من سلطة رام الله، وأن يتمّ تحريض مختلف القطاعات الشعبية والفصائلية للقيام بأعمال سلمية وغير سلمية من أجل القضاء على التمرد وقادته. ومن المحتمل أيضاً أن يتمّ تجييش الأجهزة الأمنية الفلسطينية لقتال حماس ودحرها، واستعادة وحدة أراضي الحكم الذاتي الفلسطيني.

من كل الإجراءات المتوقعة، فقط تستطيع السلطة الفلسطينية في رام الله تحريض مؤيديها للقيام بنشاطات يومية تحول دون استقرار الأوضاع المدنية والأمنية في قطاع غزة، وقطع الرواتب عن موظفين لا يلتزمون بتعليماتها. إنها تستطيع التنغيص على حماس، وصناعة هموم ومشاكل يومية تشغلها باستمرار. هي طبعاً تقوم بهذه الأعمال باستمرار ومنذ زمن، لكنها لم تحقق النجاح المطلوب. السلطة الفلسطينية لا تستطيع التجييش، خصوصاً وأن قواتها هربت من أرض المعركة قبل أن تبدأ، كما أن العامل الجغرافي يشكل معوقات كبيرة. هذا ولم يغفل العالم حتى الآن عن وسيلة ضغط لإسقاط حكومة حماس وإلا استعملها، ولا أرى أن سلطة رام الله تملك أدوات أكثر فاعلية.

تقديري أن أي إعلان بأن قطاع غزة قطاع متمرد لن يجدي نفعاً، ولن يفيد معلنيه بأي شيء، ولن يغير من أحوال القطاع التي هي صعبة للغاية.

من الناحية القانونية، لا يوجد قانون فلسطيني يعرف الإقليم المتمرد، ولا يوجد معالجات لمثل هذه الحالة. القانون الفلسطيني لا يأتي على ذكر هذه المسألة، ولا على ذكر كيفية التعامل معها فيما إذا طرأت، وأي إجراء لفظي أو عملي يتمّ اتخاذه بهذا الخصوص هو غير قانوني. وإذا كان للسيد عباس أن يقرر شيئاً فعليه أن يطلب من المجلس التشريعي الفلسطيني سنّ قانون خاص يعرف التمرد ويفصل الإجراءات الواجب اتخاذها لإنهائه. وحتى يتسنى ذلك، على السيد محمود عباس تحرير أعضاء المجلس التشريعي من المعتقلات الصهيونية.

استحقاق الرئاسة الفلسطينية
تنتهي ولاية محمود عباس كرئيس للسلطة الفلسطينية خلال أشهر قليلة، وسيترتب على ذلك فراغ دستوري. من ناحية القانون الأساسي المعمول به في مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني، يتجدد رئيس السلطة الفلسطينية كل أربع سنوات من خلال انتخابات سرية ومباشرة. وإذا تعذر إجراء انتخابات لسبب أو لآخر، يتولى رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني رئاسة السلطة الفلسطينية لمدة ستين يوماً، يتمّ خلالها الإعداد للانتخابات وإجراؤها. وقد سبق أن حصل مثل هذا الفراغ، وتولى روحي فتوح الرئاسة لفترة انتقالية قصيرة.

من الناحية القانونية، من المفروض أن يتولى عزيز دويك رئيس المجلس التشريعي رئاسة السلطة الفلسطينية بعد انقضاء مدة الرئيس، وحيث أنه في المعتقل الصهيوني، فإنه من المفروض أن يتولى نائبه الأول أحمد بحر الرئاسة؛ وإن تعذر فإن حسن خريشة، النائب الثاني لرئيس المجلس يكون رئيساً. هذا علماً بأن حسن خريشة قد استقال من منصبه، ولم يعد تسلمه للرئاسة ممكناً قانونياً.

السؤال المهم هو: هل ستجري انتخابات رئاسية فلسطينية في موعدها؟ هناك عدة نقاط أرى ضرورة إبرازها:

أولاً: هناك تراث واسع وراسخ لدى مؤيدي منظمة التحرير الفلسطينية القائمة حالياً، ومنذ حوالي 40 عاماً في عدم احترام المواثيق الفلسطينية، والتعليمات واللوائح الداخلية للمنظمة وللسلطة الفلسطينية. وقد أشرت إلى هذه المسألة في بداية هذا المقال. لقد تجاوز عرفات الميثاق الوطني الفلسطيني مراراً، وتجاوزت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطيني الأطر الشرعية، وكذلك فعل المجلس الوطني الفلسطيني. وفي عهد السلطة، تجاوز عرفات مدته القانونية مراراً، وكذلك فعل المجلس التشريعي الفلسطيني. ولهذا من السهل جداً أن يتمّ التحايل على القانون وتقديم تبريرات عدة، تعطي صكّ براءة في استمرار الوضع القائم. ففرض الأمر الواقع على الساحة الفلسطينية له سيادة على المنطق والقانون والأخلاق.

ثانياً: لا يملك الفلسطينيون في الضفة والقطاع حرية إجراء الانتخابات، ولا بد لهم من أخذ الموافقة من أمريكا و”إسرائيل”. أمريكا هي التي توعز إلى الدول المانحة لتمويل الانتخابات، و”إسرائيل” هي التي تتعاون من أجل ضمان سلاسة الوضع الأمني اللازم لإجراء الانتخابات. فالسلطة الفلسطينية لا تملك الأموال اللازمة لإجراء الانتخابات، وإن ملكت فهي لا تستطيع ضمان عدم دخول القوات الإسرائيلية إلى قرى ومدن في الضفة الغربية وتعكير صفو الانتخابات.

كما أنه من المستبعد أن توافق “إسرائيل” وأمريكا على إجراء انتخابات قد لا تكون نتيجتها لصالحهما. إذا قدرت “إسرائيل” وأمريكا أن مؤيدي أوسلو سيخسرون، فإنهما ستعملان على إبقاء الوضع على ما هو عليه، وإيجاد صيغة معينة لاستمرار محمود عباس أو من يتبنى مثل مواقفه السياسية في الرئاسة. الاحتمال الأكبر هو أن الدولتين ستعملان بصورة مباشرة أو غير مباشرة على إقناع عباس بالاستمرار في الرئاسة، وفرض أمر واقع بحجج مختلفة، وهناك احتمال آخر في أنهما ستفرضان تعيين نائب للرئيس يحلّ محلّ الرئيس المنتهية ولايته. لكن هذا الحل يتطلب تعديلات على القانون الأساسي، أو إضافات عليه لكي تأخذ الأمور مجراها القانوني. ربما تكترث “إسرائيل” وأمريكا قليلاً بالناحية القانونية، لكنهما تعتمدان على الشريك الفلسطيني لما عُهد عنه من تجاوز للقانون وعدم اكتراث بسوء السمعة.

أمريكا و”إسرائيل” تعملان على ترسيخ الاتفاقيات مع الفلسطينيين، وأظنهما ندمتا على انتخابات المجلس التشريعي سنة 2006، وستحسبان الأمور بدقة قبل أن توافقا على انتخابات فلسطينية جديدة. العملية الديموقراطية ومعها الانتخابية تخضع في النهاية لمصالح الدولتين، وإذا تناقضت الديموقراطية مع المصالح فلتذهب الديموقراطية إلى الجحيم.

ثالثاً: على أغلب احتمال سيتم التذرع بالوضع القائم في غزة للتملص من الاستحقاق الانتخابي. سيقال بأن الانتخابات الآن غير ممكنة بسبب تمرد قطاع غزة، وأن الأولوية هي “لاستعادة” القطاع إلى الشرعية الفلسطينية، ومن ثم يمكن أن تجري انتخابات. ومن المحتمل أن تفتح حماس الباب أمام الانتخابات، وتتعهد بتقديم كافة التسهيلات لإنجاز الاستحقاق الانتخابي. وإذا لم تتم الاستجابة، فإن حماس ستتمسك بالقانون الأساسي الذي يعطي أحمد بحر حق تولي الرئاسة لمدة ستين يوماً.

الخلاصة
وصلت الأمور بالشعب الفلسطيني إلى أن أصبح الاعتراف بـ”إسرائيل” مقياساً للشرعية الفلسطينية. لقد تدهورت الأوضاع وفق ما توقعه العديد من المفكرين والكتاب الفلسطينيين وعلى رأسهم ناجي العلي، وباتت “إسرائيل” كياناً شرعياً، لا يتمّ فقط الدفاع عن وجوده، وإنما يرتبط به الوجود الفلسطيني. ومن غرائب التاريخ، أن يقف المُضْطَهَد مدافعاً عن مُضْطَهِدِيه، والمظلوم عن الظالم.

الحديث عن الشرعية الفلسطينية لا يمكن أن يستقيم ما دامت الأولوية للاتفاقيات مع “إسرائيل”، والتي تقوم على أنقاض الإرادة السياسية الحرة للشعب الفلسطيني. هناك من يرى في الشرعية الإسرائيلية أولوية، ويتعامل مع إخوته الفلسطينيين من هذا المنطلق، وما دامت الأمور كذلك، فإنه من الصعب الحديث عن وحدة وطنية فلسطينية وشيكة.


 

 قرأ أيضاً:
>> تصويب بعض النقاط في الملف الفلسطيني
      بقلم : د. شفيق المصري

>>  بين إعلان قطاع غزة إقليماً متمرداً ورفض التمديد لأبو مازن: حوارات القاهرة ستفتح الأبواب أمام كل الخيارات
      بقلم : د. محمد السعيد إدريس

>>  فلسطين: إشكالية دستورية أم أزمة سياسية
بقلم : أ. د. وليد عبد الحي

>>
  الخالدي: مركز رئيس السلطة يعدّ شاغراً قانوناً ما لم تجرِ الانتخابات في موعدها


 إعداد: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات  7 أيلول/ سبتمبر 2008