بقلم: د. محسن محمد صالح.
كانت شرعية تمثيل الشعب الفلسطيني طوال تاريخه إما شرعية معطلة أو مجتزأة أو مستباحة. وهي في معظم الأحوال لم تكن تستطيع (ولم يكن يُسمح لها) التعبير عن نفسها بشكل ديمقراطي كامل، هذا فضلا على أنها لم يكن في وسعها ممارسة شرعيتها على شعبها بسبب الاحتلال أو بسبب تشتت الشعب الفلسطيني أو بسبب سياسات وممارسات الأنظمة العربية والغربية.
كما تتحمل القيادة الفلسطينية نفسها مسؤولية كبيرة لعدم تطويرها البناء المؤسسي الديمقراطي أو احترامه، بل وتعمُّد تهميشه وتعطيله.
الفترة بين 1917 و1948
كان أول شكل تمثيلي لأبناء فلسطين هو “المؤتمر العربي الفلسطيني” الذي عَقَد باسم عرب فلسطين سبع دورات خلال عامي 1919 و1928. ولأن الفلسطينيين كانوا تحت الاستعمار البريطاني ومحرومين من ممارسة حقوقهم السياسية، فقد كان هذا المؤتمر مؤسسة وطنية تشبه المجلس النيابي، تنبثق عنها قيادة هي “اللجنة التنفيذية” التي كانت تمثل الفلسطينيين سياسيا.
وقد تولى رئاسة اللجنة التنفيذية موسى كاظم الحسيني الذي أصبح رسميا زعيم الحركة الوطنية الفلسطينية إلى وفاته عام 1934.
وقد كان هناك ما يشبه الإجماع الوطني على هذه القيادة، غير أن الصراعات العائلية خصوصا بين الحسينية والنشاشيبية، والتي طبعت الحركة الوطنية حتى حرب 1948، قد أضرّت المشروع الوطني وأضعفت فعالية القيادة الفلسطينية.
ومنذ 1932 أخذت تظهر الأحزاب الفلسطينية وكان أولها حزب الاستقلال، ثم ظهرت أحزاب الدفاع (النشاشيبية) والعربي (الحسينية) وغيرها. ومع وفاة موسى كاظم تلاشى عمليا المؤتمر العربي، وحلت مكانه الأحزاب السياسية التي مثلت شكلا جديدا من أشكال العمل والتنافس.
وعندما اندلعت الثورة الكبرى في أبريل/نيسان 1936 شكَّلت الأحزاب العربية “اللجنة العربية العليا” برئاسة الحاج أمين الحسيني (في 25/4/1936) الذي نزل إلى الميدان وأخذ يتولى قيادة الحركة الوطنية مباشرة، وليس من وراء ستار كما كان يحدث من قبل.
وأصبحت “اللجنة العربية العليا” هي الجهة التي تمثل الفلسطينيين وتطلعاتهم. وقد دفعت هذه القيادة ثمن دعمها للثورة، فاضطر الحاج أمين للهرب إلى لبنان، واعتقل عدد من أعضائها وأبعدوا إلى جزر سيشل.
وبعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية أعاد الفلسطينيون ترتيب أنفسهم وشكلوا “الهيئة العربية العليا” برئاسة الحاج أمين الحسيني في 11/6/1946. وحظيت هذه الهيئة بالتفاف الشعب الفلسطيني حولها، واعترفت الدول العربية بها ممثلة للفلسطينيين.
غير أن الهيئة العربية العليا عانت من عدم قدرتها على العمل المتناسب مع خطورة المرحلة في داخل فلسطين، بسبب وجود الاستعمار البريطاني فيها الذي منع عددا من قياداتها من دخول فلسطين، وبالذات الحاج أمين الحسيني.
كما عانت الهيئة من مشاكلها (ومشاكل رئيسها) مع عدد من الأنظمة العربية وخصوصا الأردن والعراق. وقامت الأنظمة العربية بفرض قراراتها وتوجهاتها على الهيئة وتجاهل قيادتها وتجاوزها بحجة أن قضية فلسطين قضية عربية، وأن الأنظمة العربية ستتولى عملية التحرير.
وحتى عندما دخلت الجيوش العربية فلسطين في مايو/أيار 1948 فإنها منعت الحاج أمين الحسيني من دخول فلسطين أو الوجود في الأماكن التي سيطرت عليها، ولم تمكِّن الأنظمة العربية الحاج أمين ورفاقه من تولي تنظيم وقيادة الشعب الفلسطيني في المناطق المحررة، بل باشرت بنفسها نزع أسلحة الفلسطينيين.
وكانت الهيئة العربية العليا قد قررت إنشاء حكومة فلسطينية لملء الفراغ الناتج عن انسحاب بريطانيا من فلسطين، وسعت خلال أشهر مارس/آذار وأبريل/نيسان والنصف الأول من مايو/أيار 1948 لإقناع الحكومات العربية بذلك، ولكن دون جدوى.
وفي 23/9/1948 قامت الهيئة بإعلان “حكومة عموم فلسطين” في غزة برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي. وقد أقرَّت الحكومات العربية ذلك، واعترفت بحكومة عموم فلسطين، ما عدا حكومة الأردن.
وتأكيدا لشرعيتها، قامت حكومة عموم فلسطين والهيئة العربية العليا بالدعوة إلى مجلس وطني فلسطيني في غزة في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1948 برئاسة الحاج أمين. وقد انعقد المؤتمر بحضور جمهرة كبيرة من الشخصيات الفلسطينية، حيث تم الإعلان عن شرعية الحكومة الجديدة، كما تقرر إعلان استقلال فلسطين.
ضم الضفة الغربية للأردن
وقام ملك الأردن عبد الله من جانبه بالسعي لتمثيل الفلسطينيين، فانعقد بدعمه في عمان في 1/10/1948 مؤتمر أنكر على مؤتمر غزة تمثيله للفلسطينيين.
وانعقد في أريحا مؤتمر في 1/12/1948 تم الإعلان فيه عن وحدة الأرضي الأردنية والفلسطينية ومبايعة الملك عبد الله ملكا على فلسطين.
وعلى الرغم مما أثاره موقف الأردن من معارضة في الأوساط العربية والفلسطينية الرسمية والشعبية، فإن سيطرة القوات الأردنية على معظم ما تبقى من فلسطين (الضفة الغربية) مكّنها من منع حكومة عموم فلسطين من ممارسة صلاحياتها، وتم في النهاية توحيد الضفة الغربية مع شرق الأردن في أبريل/نيسان 1950.
وضع القطاع تحت الإدارة المصرية
وعندما حاولت حكومة عموم فلسطين ممارسة صلاحياتها في قطاع غزة تدخلت السلطات المصرية، فنقلت الحاج أمين الحسيني بالقوة إلى القاهرة. ثم ما لبثت أن أكرهت رئيس وأعضاء حكومة عموم فلسطين على الانتقال إلى مصر، ووضعت القطاع تحت إدارتها المباشرة.
وبقيت حكومة عموم فلسطين قائمة في مصر دون أن تستطيع القيام بأي من الأعمال المنوطة بها، لا سيما في الحقل السياسي. ووُضع الحاج أمين تحت رقابة مشددة حرمته من حرية العمل والتنقل.
ومع الزمن، لم تعد حكومة عموم فلسطين غير هيئة شكلية. واضطر الحاج أمين لمغادرة القاهرة عام 1958 إلى لبنان. وعمليا فقد انتهى أي تأثير للهيئة العربية العليا بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964.
منظمة التحرير الفلسطينية (م. ت. ف)
ولم تعبأ الجامعة العربية -في دورتها الأربعين عام 1963- برأي الهيئة العربية العليا ولا حكومة عموم فلسطين في تعيين مندوب فلسطين لدى الجامعة. وعينت بنفسها أحمد الشقيري الذي حظي بدعم عبد الناصر.
وبينما كانت الساحة الفلسطينية تشهد حالة حراك واسعة شملت إنشاء العديد من التنظيمات التي تسعى لتحرير فلسطين وعلى رأسها فتح، خشيت الأنظمة العربية أن يفلت زمام القضية الفلسطينية من يدها، فأصدرت (عندما انعقد مؤتمر القمة العربي الأول في القاهرة في 13/1/1964) قرارا بإنشاء كيان فلسطيني يُعبر عن إرادة شعب فلسطين.
وقام أحمد الشقيري، مستفيدا من الدعم المصري ومن حماسة الفلسطينيين لإنشاء كيان خاص بهم، وبالإعداد والدعوة لعقد مؤتمر فلسطيني عام في القدس يوم 28 مايو/أيار إلى الثاني من يونيو/حزيران 1964، وسمي هذا المجلس “المجلس الوطني الأول” وهو الذي أعلن إنشاء “منظمة التحرير الفلسطينية”، وانتخب أحمد الشقيري رئيسا لها. وهكذا أصبحت م. ت. ف تعبيرا عن الهوية الوطنية الفلسطينية.
وقد عادت “إشكالية” حق تمثيل الفلسطينيين لتبرز مرة أخرى بإنشاء م. ت. ف. وتميز الأمر بحساسية شديدة خصوصا بالنسبة إلى الأردن. وقد اضطر الشقيري لطمأنة الملك حسين مرارا، مؤكدا أن تركيز عمل م. ت. ف سيكون على تحرير الأرض “غرب” الضفة الغربية (أي فلسطين المحتلة 1948).
وفي الوقت نفسه نظرت المنظمات الفدائية الفلسطينية (فتح وغيرها) إلى م. ت. ف نظرة شك وتوجس وعدّتها نتاج الواقع العربي بضعفه وتمزقه، وخشيت أن تكون أداة لهيمنة الأنظمة العربية على الساحة الفلسطينية. ولذلك لم تندمج هذه المنظمات أو تشارك في م. ت. ف واكتفت “فتح” بتمثيل فردي رمزي في المجلس الوطني كموطئ قدم ولتكون على اطلاع على ما يجري.
سيطرة فتح على م. ت. ف
وعندما حدثت كارثة حرب 1967 وضاع ما تبقى من فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة) وانكشف الضعف العربي، شعر الفلسطينيون بوجوب أخذ زمام المبادرة والتخلص من حالة الهيمنة والوصاية العربية.
واضطرت الأنظمة العربية إلى أن توافق على فتح المجال أمام العمل الفدائي الفلسطيني تنفيسا عن مشاعر الجماهير وتوجيها لغضبها وثورتها ضد العدو الصهيوني.
ودخلت حركة فتح ومعظم المنظمات الفدائية م. ت. ف، وسيطرت فتح بالذات منذ المجلس الوطني الخامس في القاهرة بين الأول والرابع من فبراير/شباط 1969 على قيادة اللجنة التنفيذية لـم. ت. ف، وتولى ياسر عرفات رئاسة المنظمة منذ ذلك الحين.
وقد سعت حركة فتح وقيادة م. ت. ف للحفاظ على “القرار الوطني الفلسطيني المستقل” ودفعت أثمانا باهظة لذلك، واصطدمت بمعوقات هائلة داخلية وعربية ودولية. غير أنها تمكنت من انتزاع صفة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في مؤتمر القمة العربي في الرباط في أكتوبر/تشرين الأول 1974. وفي الشهر التالي استطاعت الحصول على صفة عضو مراقب في الأمم المتحدة.
وعندما أعلنت م. ت. ف استقلال فلسطين في نوفمبر/تشرين الثاني 1988 اعترفت بها أكثر من 120 دولة في العالم، وحوَّلت كثير منها مكاتب م. ت. ف فيها إلى سفارات لدولة فلسطين رغم أن هذه الدولة لم تقم بعد على الأرض.
وفي أعين الأنظمة العربية والأمم المتحدة لا تزال م. ت. ف تمثل الفلسطينيين. غير أن قدرتها على تمثيل الفلسطينيين كافة ظلت أمرا نسبيا، وتواجهه مشكلات عملية وميدانية في كثير من الأحيان، ومن ذلك:
1-عدم قدرة م. ت. ف على ممارسة شرعيتها على شعبها أو على أرضها بسبب الاحتلال، وتشرد الشعب الفلسطيني، والتدخلات والعقبات التي تضعها الأنظمة العربية والمنظومة الدولية.
2-عدم قدرة م. ت. ف على تشكيل مجلس وطني فلسطيني منتخب شعبيا ويمثل بدقة الشرائح المختلفة للفلسطينيين، لاستحالة ذلك عمليا في البلاد العربية التي يمنع معظمها مثل تلك الممارسة، فضلا عن فقدان هذا المجلس فعاليته ودوره منذ سنوات طويلة. كما لم يتم انتخاب مجلس جديد ولجنة تنفيذية جديدة منذ 1996، بمعنى أن مدتهما القانونية انتهت منذ زمن طويل.
3-وجود عدد من المنظمات الفدائية الفلسطينية التي تمثل أنظمة عربية معينة وتلتزم بسياساتها، وتتأرجح علاقاتها بـم. ت. ف وفق علاقات النظام العربي نفسه مع م. ت. ف، مثل “الصاعقة” التي كانت تتبع “البعث” السوري وجبهة التحرير العربية التي كانت تتبع “البعث” العراقي.
4-ظهور قوى إسلامية فلسطينية تتمتع بحضور شعبي واسع (حماس والجهاد الإسلامي) ورفضها الانضمام إلى م. ت. ف إلا بعد بنائها على أسس جديدة.
5-خسارة م. ت. ف قاعدة وجودها في الأردن إثر أحداث 1970-1971، وقاعدتها في لبنان إثر الاجتياح “الإسرائيلي” عام 1982، وتراجع قدرتها على التفاعل مع الحياة اليومية للفلسطينيين في الخارج.
6-إن طريقة قيادة الرئيس لـم. ت. ف، وتركز السلطات في يديه، وعدم تشجيع استقرار ونمو مؤسسات م. ت. ف وقيامها بدورها بفعالية وممارسة صلاحياتها.. أفرغ كثيرا من مؤسسات م. ت. ف من محتواها ورسالتها.
7-دخول م. ت. ف في مسار التسوية السلمية وتوقيعها اتفاقات أوسلو عام 1993، أوجد انقساما شديدا في الشارع الفلسطيني، الذي وجدت قطاعات كبيرة منه أن م. ت. ف لم تعد تمثل طموحاته ولا همومه.
8-رغم أن تشكيل السلطة الفلسطينية في مناطق الضفة والقطاع أعطاها بعدا تمثيليا عبر انتخابات المجلس التشريعي في 1996 و2006، وانتخابات الرئاسة في 1996 و2005، حيث مارس جزء من الشعب الفلسطيني لأول مرة حقوقا انتخابية سياسية، فإن مركز الثقل في قيادة م. ت. ف انتقل إلى سلطة الحكم الذاتي، وهمش دور م. ت. ف السياسي، كما أضعف بشكل كبير فعالية مؤسساتها المختلفة. ووضعت م. ت. ف في “غرفة الإنعاش” بحيث تحولت إلى مجرد أداة لتوفير “الأختام” اللازمة لتغطية اتفاقيات وإجراءات قيادة السلطة وم. ت. ف.
لقد أدى التراكم السلبي لأداء قيادة الشرعية الفلسطينية إلى حالة احتكار وهيمنة من قبل فصيل فلسطيني واحد، مترافق مع حالة إضعاف وتهميش للمؤسسة الشرعية الفلسطينية نفسها.
ولم تعد قيادة هذا الفصيل قادرة أو راغبة في النزول عن “الشجرة”، وهو ما أدى إلى حالة احتقان داخلي فلسطيني، كان أحد نماذجه أن هذا النظام لم يستوعب صعود حماس وفوزها في الانتخابات التشريعية وما يترتب على ذلك من استحقاقات على مستوى السلطة الفلسطينية وم. ت. ف، ومحاولة إفشال حكومتها وإسقاطها.
وعلى الرغم من كثرة الحديث عن إصلاح م. ت. ف وتوقيع اتفاق القاهرة (مارس/آذار 2005) وغيره، فإنه لم تتم أية خطوات جدية في هذا الشأن، وهو ما أفقد قيادة م. ت. ف مصداقيتها في أعين الكثيرين.
ويمثل صراع الصلاحيات بين فتح وحماس في إدارة السلطة الفلسطينية أحد الجوانب المأساوية لعملية تعطيل واستباحة “الشرعية”، والتي تتحمل مسؤوليتها أساسا الأطراف الفلسطينية نفسها.
إن على قيادات الفصائل الفلسطينية، قبل أن تمنع الآخرين من استباحة الشرعية الفلسطينية، أن تكف هي نفسها عن استباحة هذه الشرعية أو احتكارها، وأن تتبنى أدبيات وأساليب عمل تؤسس لشرعية حقيقية فاعلة، تكون على مستوى التحدي، وتقوم بواجبها في مشروع التحرير.
* د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
أضف ردا