هل يمكن لمصر أن تتعامل مع حماس باعتبارها رصيداً إستراتيجياً يخدم مصالحها العليا وأمنها القومي؟ وليس باعتبارها مشكلة أو عبئاً يحرجها ويثقل كاهلها، وتود لو ترتاح منه؟
حماس “العبء”
من الواضح أن سلوك نظام الحكم في مصر مع حماس، خصوصاً منذ فوزها في الانتخابات وتشكيلها للحكومة، قد تعامل معها باعتبارها عبئاً ومشكلة.
ودونما حاجة للتكرار، فإن تعامل مصر مع حكومة حماس، وموقفها من الحصار، ومن سيطرة حماس على القطاع، ومن إغلاق معبر رفح، ومن مشروع المقاومة، ومن مسار التسوية، ومن التيارات الإسلامية، ومن الرئاسة الفلسطينية، ومن العدوان الإسرائيلي الأخير على القطاع. كلها تشير إلى مدى شعورها بوجود عبء أو “مشكلة” اسمها حماس.
التسريبات التي رافقت إغلاق معبر رفح إثر سيطرة حماس على القطاع تحدثت عن أن الرئيس المصري كان يتحدث لمقربيه بأنه لن يسمح بنجاح حكومة حماس في القطاع.
ولذلك، فهمت حماس إغلاق المعبر باعتباره جزءاً من عملية الإفشال والإسقاط غير المعلنة التي يمارسها النظام الحاكم في مصر ضدها. ويظهر أن عمليات خرق الحدود والأنفاق، والأحداث المرتبطة بخروج الحجاج والمرضى والمسافرين وعودتهم, كلها زادت من حالة الاحتقان بين الطرفين.
كما أن تأييد الجانب المصري إرسال قوات عربية إلى القطاع فسرته حماس أيضاً على أنه محاولة لإسقاطها، ولتعبيد الطريق أمام رئاسة السلطة وفتح للسيطرة على قطاع غزة قبل تحقيق المصالحة والتوافق الوطني. وعندما أبلغت حماسُ مصر باعتذارها عن المشاركة في مؤتمر الحوار، كان الردّ المصري الشفوي عنيفاً وغاضباً.
وقبل أسبوع من العدوان الإسرائيلي على القطاع سربت الصحافة الإسرائيلية (بن كاسبيت، معاريف، 20/12/2008) معلومات تذكر أن بلاداً عربية أرسلت لـ”إسرائيل” تطلب منها أن تقوم “بالمهمة”. وأضافت “على الأقل في الوقت الحالي يشجعوننا على تحطيم رأس حماس. والقضاء على قادتها”، وأن إحدى الرسائل تضمنت قائمة أسماء “موصى بها” للاغتيال من قادة حماس.
وفي زيارة ليفني للقاهرة قبل يومين من العدوان الإسرائيلي، صرحّت من هناك بأن الوضع سيتغير في القطاع، وأن “سيطرة حماس على القطاع ليست مشكلة إسرائيل فقط، نحن نتفهم احتياجات مصر، ولكن ما نفعله هو تعبير عن احتياجات المنطقة”. وقد رأى كثيرون في ذلك ضوءاً أخضر مصرياً بالغزو.
وقد فسر متخصصون إصرار السلطات المصرية على الاستمرار في إغلاق معبر رفح بعد بدء العدوان، وعلى عدم اتخاذ أي إجراء ضدّ المذابح الإسرائيلية في القطاع وحتى مجرد سحب السفير المصري أو طرد السفير الإسرائيلي (كما فعلت فنزويلا)، ومضمون خطاب الرئيس المصري بل والمبادرة المصرية نفسها على أنها أدلة على رغبة النظام بسقوط حماس. يضاف إلى ذلك قدوم محمد دحلان إلى القاهرة قبيل العدوان، ومعه الكثير من أتباعه، لعمل ترتيبات ما بعد سقوط حماس.
وأشارت الأنباء إلى أن الرئيس المصري خلال محادثاته مع ساركوزي بعد أيام من العدوان قد أكد على ضرورة تغيير سلطة حماس وضمان عودة سلطة أبي مازن إلى القطاع، مشيراً إلى دعم دول عربية أخرى لهذا الخيار، وقال إن مصر لن تفتح معبر رفح إلا بوجود السلطة والمراقبين الدوليين وإشراف إسرائيلي لمنع تهريب أي أسلحة في المستقبل.
وقد تسربت معلومات قريبة بهذا المعنى، عندما زار الجنرال عاموس جلعاد (المستشار السياسي لوزير الدفاع باراك) مصر يوم الخميس 8/1/2009، حيث تحدث إليه مسؤول أمني مصري كبير مؤكداً أن عودة السلطة وأبو مازن ضمانة للطرفين “في فرض الاستقرار والأمن والنظام”.
المبادرة المصرية التي أعلنها الرئيس المصري صبّت في إطار إضفاء مزيد من قلق حماس من الدور المصري، إذ لم تنص على إدانة العدوان الإسرائيلي، ولم تميّز بين المعتدي والمعتدى عليه، ولم تطالب بشكل واضح بانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع، ولم تتعامل بشكل مباشر مع الطرف الفلسطيني الذي يدير القطاع ويتولى الدفاع عنه، عندما دعت كلاً من “إسرائيل” و”الجانب الفلسطيني” لاجتماع عاجل من أجل التوصل للترتيبات والضمانات الكفيلة بعدم تكرار التصعيد ومعالجة مسبباته.
والجانب الفلسطيني المقصود هو قيادة السلطة في رام الله لأنها الوحيدة التي يمكن أن تجتمع مع الجانب الإسرائيلي أو يجتمع معها الجانب الإسرائيلي.
إن سلوك النظام المصري خصوصاً في الفترة الأخيرة لا يمكن أن يفهم منه إلا مزيداً من الضغوط على حماس. وهو يعبر إلى أي مدى تتعامل السلطات المصرية مع حماس كعبء ثقيل.
حماس كرصيد إستراتيجي
ماذا لو نظر النظام في مصر إلى حماس من زاوية أخرى، كرصيد إستراتيجي يصبّ في المصلحة القومية العليا لمصر؟ ولعل المعطيات التالية تفيد في توضيح الصورة:
أولاً: إن حركة حماس حركة حصرت عملها في العمل الوطني المقاوم على أرض فلسطين، ولم تتدخل في الشأن المصري (ولا الشؤون العربية) طوال الـ21 سنة التي مضت على نشأتها. كما أن مشروعها الإسلامي مرتبط بالعمل على تحرير فلسطين، ولم يهدد النظام المصري ولا الأنظمة العربية القائمة.
ثانياً: إن حركة حماس حركة مستقلة غير مرتهنة لأي من الأنظمة أو المحاور، والنظام المصري أول من يعلم أن دعوى الولاء لإيران أو العمل لحسابها غير صحيحة، وأن استفادة حركة حماس من علاقتها مع إيران في دعم برنامج المقاومة، كانت أساساً بعد أن حاربتها الأنظمة العربية وأغلقت الأبواب في وجهها. ثم إن الحركة تتمتع بدينامية عالية تمكنها من التعامل بإيجابية حتى مع الجهات التي تختلف معها.
ثالثاً: إن حركة حماس حركة متجذرة في وجدان الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وفضلاً عن أنها أصبحت رائدة المقاومة الفلسطينية في السنوات الماضية، فإنها فازت بشكل رسمي ونزيه بالانتخابات في الضفة والقطاع، وأصبحت من ناحية المؤسسة التشريعية تمثل أبناء هذه المناطق وتعبر عن همومهم وتطلعاتهم، ومن العبث تجاوزها أو محاولة تهميشها أو تهشيمها.
وقد أظهرت التجارب أن كل محاولات اجتثاث أو ضرب حركة حماس طوال الـ21 سنة الماضية قد فشلت، وأنها كانت تعود في كل مرة أصلب عوداً وأكثر شعبية.
رابعاً: من المعروف في التخطيط الإستراتيجي أنه لا بد من وجود ما يعرف بـ”تهديد حقيقي” في المفاوضات مع الخصم أو العدو، عندما يجنح للمراوغة أو لا يستجيب للحد الأدنى من المطالب. والتهديد الحقيقي الوحيد المتاح لمفاوضات التسوية مع الطرف الإسرائيلي هو اللجوء للمقاومة المسلحة.
إن ضرب المقاومة الفلسطينية هو ضرب لأداة الضغط الحقيقية للفلسطينيين، وهو إضعاف للمفاوض الفلسطيني نفسه، إن كان جاداً في انتزاع حقوق أو بعض حقوق شعبه، ووضع له في أحوال وأوحال لا يمكن إلا أن تؤدي إلى فرض شروط الاحتلال عليه.
ومن المثير للأسى أن يأتي الكيان الإسرائيلي ليسوق نفسه لبعض الأنظمة العربية كشريك في الحرب على “التطرف والإرهاب”، بينما هو يحارب حماس وقوى المقاومة، ليتمكن من الاستمرار في مصادرة الأرض المقدسة وتهويدها وإذلال شعبها، وفي الوقت نفسه تتعامى الأنظمة العربية عن النظر لحماس وقوى المقاومة باعتبارها عنواناً لعزتها وكرامتها، وخط الدفاع المتقدم عن الأمة، بل ورافعة حقيقية لمطالبها السياسية.
إن الطرفين الإسرائيلي والأميركي يفهمان لغتي القوة والمصلحة. وإن وجود حماس ينبغي التعامل معه كقيمة مضافة حتى لمن يخالفها مسارها.
خامساً: دونما انتقاص لشعب مصر العظيم وجيشها الذي لم تتح له فرصة قتال حقيقية، فقد خسر النظام المصري قطاع غزة في حرب 1967 في يوم واحد. بينما لا يزال القطاع صامداً منذ أيام طويلة بقيادة حماس دون أن تتمكن آلة الدمار الإسرائيلية الهائلة من دخول المدن.
إن أمن مصر القومي يحتم عليها النظر إلى حركات المقاومة الفلسطينية بمعيار يبحث عن العناصر الإيجابية والإمكانات المذخورة فيها. ويمكن النظر هنا إلى قيمة قوى المقاومة الشعبية في أوضاع لا تكون فيها الجيوش النظامية قادرة أو راغبة في الدخول في حروب أو أداء أدوار معينة.
سادساً: إن أي عملية لإصلاح البيت الفلسطيني سواء كان ذلك متعلقاً بمنظمة التحرير الفلسطينية أو السلطة الوطنية أو الأجهزة الأمنية، لن تتمّ إلا بمشاركة حماس، وبأن تأخذ حماس حقها العادل ودورها الطبيعي في هذا المسار.
ثم إن حماس لا تزال تتمتع بتماسك كبير وفعالية عالية وقيادة شابة، في مقابل حالة التفكك والترهل والفساد والتراجع، التي تعاني منها حركة فتح والتي لم تتمكن من عقد مؤتمرها السادس طوال الـ20 سنة الماضية.
وعلى هذا فإن مصر ستتعامل إن عاجلاً أو آجلاً مع حماس إما كقيادة للشعب الفلسطيني أو كشريك في تلك القيادة. ولذلك فمن الأولى أن يوجه النظام المصري جهده للتفاهم مع هذه الحركة، وأن يستفيد منها في رفع سقف المطالب الفلسطينية.
سابعاً: إن الطريقة التي أدار بها النظام المصري علاقته بحماس بما في ذلك قضية قطاع غزة ومعبر رفح، قد أثارت استياء وغضب الشارع المصري والعربي والإسلامي، بل والعالمي. وتسببت في خسائر كبيرة للدبلوماسية المصرية، ولهيبة مصر ومكانتها. ولو أن النظام فتح معبر رفح وأفشل الحصار:
– لكان قد حقق شعبية هائلة في الشارع المصري، وقوى جبهته الداخلية.
– ولجعل من مشكلة تنفيذ الحصار مشكلة إسرائيلية وليس مشكلة مصرية.
– ولأصبح أقدر على التأثير على كل من فتح وحماس في تسريع خطوات المصالحة الوطنية.
ثامناً: لا يزال الكيان الإسرائيلي ينظر إلى مصر كعدو محتمل، ويضع إستراتيجياته وفق معايير واحتمالات خوض حرب مع مصر وباقي الدول العربية، ومن حقّ مصر أن تضبط إستراتيجياتها وفق احتمالات العدوان الإسرائيلي، خصوصاً وأن اتفاقيات كامب ديفد جعلت من سيناء منطقة ساقطة عسكرياً.
ولذلك فإن وجود كتلة مقاومة قوية في غزة لن يكون فقط عنصر حماية للفلسطينيين، يمنع تهجيرهم وتجويعهم وإذلالهم، بل سيكون أيضاً عنصراً دفاعياً وخطاً أمامياً رادعاً للكيان الإسرائيلي من أن يقوم بمغامرات محسوبة أو غير محسوبة ضدّ مصر.
تاسعاً: لقد أسقطت الثورة المصرية سنة 1952 النظام الملكي عندما قصَّر في حقّ فلسطين في حرب 1948، وحملت مصر على كاهلها لسنوات طويلة عبء قيادة الأمة العربية لتحرير فلسطين، ولا يزال شعبها زاخراً بالعطاء والإمكانات.
ولا يعقل لدولة انطلقت منها جيوش تحرير فلسطين من الغزوين الصليبي والتتري، ألا تتمكن حتى الآن من مجرد طرد السفير الإسرائيلي أو سحب السفير المصري.
وليس مطلوباً من نظام الحكم في مصر الكثير في هذه المرحلة، فقط المطلوب ألا يكون شريكاً في الحصار. وأن يعلن أنه لم يعد ملزما بإغلاق بوابة رفح أو الحدود، لأن “إسرائيل” نفسها لم تحترم اتفاقية المعابر وخرقتها مئات المرات. وأن مصر لن تدخل في أي اتفاق جديد ما لم يضمن الحقوق الكاملة للفلسطينيين، فضلاً عن أمن مصر القومي.
د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
المصدر: الجزيرة نت، 18/1/2009
إقرأ أيضاً :
>>مقال: مصر وحماس.. طبيعة العلاقة ومسارها(1/2)… د. محسن محمد صالح
أضف ردا