ضمن الفعاليات الثقافية للقدس عاصمة للثقافة العربية لسنة 2009، أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات في بيروت كتاباً جديداً بعنوان “مدينة القدس.. السكان والأرض (العرب واليهود) 1275-1368 هـ/ 1858-1948م” لأستاذ التاريخ والحضارة بجامعة اليرموك الدكتور محمد عيسى صالحية.
وهو حافل بالأرقام والإحصائيات والمعلومات التي تكشفها الوثائق لأول مرة. وينقسم الكتاب إلى فصلين، يستعرض بعدهما نتائج الدراسة.
معلومات النشر:
– العنوان: مدينة القدس.. السكان والأرض (العرب واليهود) 1275-1368 هـ/ 1858-1948م
|
– الكتاب متوفر للشراء، عبر: || || || ||
القدس في العهد العثماني
جاء الفصل الأول بعنوان “مدينة القدس.. السكان والأرض في العهد العثماني المتأخر 1858-1917”. ورصد فيه الباحث أساليب الخداع والاحتيال والتلاعب اليهودي الصهيوني على القوانين في العهد العثماني لزيادة أعداد اليهود في القدس وحيازة أراضيها.
كما تحدث عن طرق تمكين اليهود من الهجرة والاستيطان وحيازة الأراضي في العهد العثماني، وأهمها القوانين والضرائب والمصادرات والإجلاء القسري للفلاحين والعقوبات الجماعية.
وضمّت الدراسة ملحقاً بعدد من الوثائق التي حصل عليها الباحث، كما زُوّدت بجداول إحصائية تبين تطور أعداد سكان القدس خلال الفترة الزمنية التي تناولتها.
كما عرض صالحية في هذا الفصل لأوضاع العرب واليهود في القدس في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، مستنداً إلى دفاتر الأرشيف العثماني في إسطنبول. فأكد أن اليهود الأجانب لم يملكوا في مدينة القدس ولا في قراها أية أراضٍ أو دورٍ أو دكاكين حتى بداية القرن السابع عشر الميلادي. وحتى مقابر اليهود كانت مؤجرة لهم من أملاك الأوقاف الإسلامية.
وأضاف أن القدس لم تكن ذات أهمية بالنسبة لليهود، فأعدادهم في المدينة حتى القرن السابع عشر كانت قليلة؛ بل وهجروا المدينة في إحدى المراحل لتردي أحوالها الاقتصادية.
ثم تحدث عن تطور أوضاع القدس في القرن التاسع عشر، وعن الرعاية العثمانية لفلسطين ومدينة القدس، فأشار إلى الآثار السلبية للحكم المصري في بلاد الشام خلال السنوات 1831-1840، حيث حلّ محمد علي باشا الجيوش العسكرية الإقطاعية في سوريا ولبنان وفلسطين، وترتب على هذا الإجراء إنهاء النظام الإقطاعي العسكري وحلّه كنظام للأرض.
وذكر أنه تم في سنة 1838 إلغاء نظام استئجار الأراضي السلطانية وزراعتها، فآلت الأراضي إلى الحكومة المصرية، وضُمّ الكثير منها إلى ممتلكات الباشوات والأفندية. وقد أشار د. صالحية إلى أنه حدثت في تلك الفترة مقابلة تاريخية بين متسلم القدس أحمد دزدار واليهودي البريطاني موشيه مونتفيوري أثناء زيارة الأخير للقدس سنة 1839، حيث خاطب المتسلم مونتفيوري قائلاً “لتعلم يا مسيو مونتفيوري أن أيام التمييز قد ولت، وأنه الآن لا فرق بين العبري والمسيحي والمحمدي، وأنهم جميعاً أمام القانون سواسية كما يأمرنا الله”. وفهم مونتفيوري أن الأمر لا يتعلق بالجانب الاجتماعي فقط، وإنما يتضمن شراء الأرض وبيعها.
وبينت الدراسة أيضاً وسائل التلاعب على القوانين وأساليب الخداع والحيل، واعتماد الرشوة والإيقاع بملاك الأراضي في المدينة المقدسة، وممارسة الضغوط على الهيئات والمجالس الإدارية في القدس؛ من أجل حيازة الأراضي وتسهيل استيطان اليهود الأجانب ظاهر المدينة المقدسة، وخاصة في العهد العثماني.
أما من ناحية السكان، فيشير الباحث من خلال عرضٍ وافٍ للإحصاءات المتوفرة إلى أن الباحثين اليهود قد “لجأوا إلى لعبة الأرقام للتمويه والتضليل وعدم إعطاء الأرقام الصحيحة؛ وعليه، فإن الإحصاءات العثمانية هي التي يمكن الوثوق بها، إذا تسجل كافة رعايا الدولة العثمانية بمن فيهم اليهود، وما عاد ذلك من اليهود، فأجانب تسللوا أو تسربوا إلى فلسطين بطرق غير مشروعة، وظلوا حتى الاحتلال البريطاني لفلسطين في ديسمبر/ كانون الأول 1917، ويعتبرون من الأجانب الممنوعين من الإقامة أو الاستيطان في فلسطين”.
القدس تحت الاحتلال البريطاني
حمل الفصل الثاني من الكتاب عنوان “مدينة القدس.. السكان والأرض تحت الاحتلال البريطاني 1917-1948″، وبين فيه الباحث أن الدعم الأوروبي والأميركي الضخم والمتواصل للحركات الصهيونية والهيئات اليهودية والصهيونية، على الأصعدة المالية والعسكرية والإعلامية والسياسية والثقافية والدبلوماسية، قد وفّر للحركة الصهيونية والهيئات اليهودية القدرة على الالتفاف على القوانين، وخاصة قانون الأراضي وقانون الهجرة.
وأوضح الباحث أن الاحتلال البريطاني لفلسطين ومدينة القدس سنة 1917، كان العامل الأهم في وضع الخطة الصهيونية البريطانية موضع التنفيذ، وخصوصاً وعد بلفور المشؤوم وصك الانتداب البغيض. فقد أصدر المندوبون السامون البريطانيون مجموعة من القوانين والتعليمات واللوائح والتشريعات لصالح اليهود والحركة الصهيونية تسلب أراضي أهل فلسطين وتصادرها، وتدعم الاستيطان في كافة أنحاء فلسطين.
وحسب د. صالحية، فقد شكلت بداية الانتداب البريطاني أيضاً بداية حقيقية لتأسيس الوطن القومي اليهودي. وأوضح الباحث أنه منذ وصول البعثة الصهيونية برئاسة حاييم وايزمان وعضوية ديفيد إدر، إلى فلسطين، باشرت بتنفيذ الخطة الموضوعة من قبل المنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية والتي تقوم على: حيازة الأراضي ونقلها إلى ملكية اليهود، إما بالشراء أو نزع الملكية أو الاستيلاء عليها بحجة تطوير فلسطين وتنميتها وإقامة المشاريع العامة. والعمل على إدخال المهاجرين اليهود بأعداد كبيرة، والاستيطان في المدن الفلسطينية؛ وإقامة المستوطنات والأحياء والكيبوتسات التعاونية الزراعية حول القرى والبلدات الريفية ومناطق السهول والوديان والتلال والأراضي الصحراوية في كافة أنحاء فلسطين. أما بالنسبة للقدس، فكانت الخطة قائمة على ضرورة توسيع حدود المدينة لتصبح القدس الكبرى والاهتمام بالاستيطان فيها.
وأوضح المؤلف أن هدف بريطانيا الإستراتيجي من إنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين كان حماية مصالحها في الشرق الأوسط، وتثبيت وجودها في مصر، وتأمين قناة السويس والطرق التجارية إلى الشرق، وإقامة جسر يربط بين البحر المتوسط وحقول النفط في العراق. غير أن الإدارة البريطانية لم تكن مستعجلة في الاستجابة لكافة طلبات البعثة الصهيونية، بانتظار القرار النهائي حول مصير فلسطين، ولضبط الاندفاع الصهيوني حتى لا يحدث استفزاز كبير مبكر للفلسطينيين.
وعلى الجانب الآخر، فإن قسم الدراسات في الوكالة اليهودية، والمنظمة الصهيونية، كان قد أعد دراسات عن أراضي فلسطين، وكلف العديد من الباحثين لدراسة قوانين الأراضي العثمانية، وتحديد الثغرات القانونية التي يمكن من خلالها حيازة الأراضي العثمانية، واقتراح قوانين جديدة أو تعليمات ولوائح إدارية تسهل عمليات انتقال الأراضي.
وقد درس الباحثون من اليهود وغيرهم التصنيف العثماني لأرض فلسطين بأنواعه، وشملت الدراسة المسح الواسع والتفصيلي للأملاك والعقارات والأراضي والوسائل لامتلاكها ونقلها إلى الهيئات الصهيونية.
كما نشطت البعثة الصهيونية خلال السنوات 1918-1920 في تثبيت الهوية اليهودية في فلسطين من خلال إضافة اللغة العبرية وطباعتها في المعاملات الرسمية لحكومة الإدارة البريطانية، وعلى العملة والشهادات والوثائق، وفتح المزيد من المدارس اليهودية والإشراف عليها وتعديل قوانين الهجرة والإقامة، وغيرها من كافة الأمور الحياتية للمهاجرين اليهود.
وأشار د. صالحية إلى أن الخطوة الحاسمة كانت تعيين اليهودي الصهيوني هربرت صموئيل مندوباً سامياً على فلسطين، وقبيل مغادرته خاطبه لويد جورج قائلاً “لقد فزت بالبداية وكل شيء يعتمد عليك”. وشرح الباحث من خلال وثائق وسجلات حدود فلسطين، مسؤولية كل من بريطانيا وفرنسا في رسم وتحديد الخريطة الجديدة لفلسطين، وما رافق ذلك من تغيير للحدود السورية واللبنانية والأردنية مع فلسطين.
وتطرق الباحث إلى قيام هربرت صموئيل بتشريع القوانين وإصدار اللوائح لتسهيل انتقال الأراضي والعقارات، وتسجيل الشركات والبنوك والمصارف والجمعيات وإزالة عوائق الهجرة، تملك وتوطن اليهود، ومن ثم تخفيف الضرائب وتيسير القروض والضمانات وقانون إقامة الزوار الأجانب ومنحهم حق الإقامة الدائمة في فلسطين.
ومن القوانين التي أشار إليها الباحث في هذا الصدد: انتقال الأراضي الذي صدر سنة 1920، ويقضي بضرورة أخذ موافقة الحكومة البريطانية على كل انتقال للأراضي، ومنع بموجبه انتقال الأراضي لغير سكان فلسطين.
وقانون الأراضي الموات الذي نص على أن “كل من نقب أرضاً مواتاً أو زرعها دون الحصول على موافقة مدير الأراضي (كان في ذلك الوقت المستر برامبسون) لا يحق له الحصول على سند الملكية لتلك الأراضي ويعرض نفسه للمحاكمة”.
إذا تنازل أصحاب الحق عن حقوقهم في الأراض، لم تعلن أرضاً عمومية، فإنها تطرح للمزايدة، وتحال إلى المزايد الأخير، على أن يراعى في ذلك الثمن المحتفظ به من مدير دائرة الأراضي. المندوبون السامون لهم مطلق الصلاحية في إصدار التشريعات الخاصة بإجراء نزع ملكية الأراضي العربية لصالح الجيش.
ثم قانون نزع الملكية والذي ظل ساري المفعول حتى أغسطس/ آب 1926، وبموجبه سمح للحكومة بالاستيلاء على أية أرض لازمة لاستيطان اليهود تمهيداً لتمليكها للشركات اليهودية. حيث كان نزع الأراضي يتم بذريعة إقامة المشاريع العمومية، حتى على أراضي الأوقاف التي لم تسلم هي الأخرى من قوانين نزع الملكية.
وعليه فإن قانون الأراضي البريطاني، حرم المالكين الذين لا يسكنون فلسطين من إمكانية استغلال أراضيهم، وهي إقطاعيات واسعة تملكها عائلات إقطاعية سورية ولبنانية، تقيم في بيروت ودمشق، وهي من أجود الأراضي الزراعية.
وأشارت الدراسة أيضاً إلى ما ورد من تقارير حول قيام بعض الملاك الكبار من عائلات القدس الذين ملكوا مساحات واسعة، بتسريب شيء من أراضيهم لليهود. وأعطت مثالاً على ذلك ما ورد في التقارير التي أوردها علي كرم بن محمد نامق كمال، متصرف القدس ما بين عامي 1906 و1908 والذي كان حازماً وصارماً إزاء استيطان اليهود وهجرتهم إلى فلسطين.
أما فيما يتعلق بوضع السكان، فقد أشار الباحث إلى أنه “يصعب اكتناه إحصاءات دقيقة وموثوقة لسكان مدينة القدس خلال العقود الثلاثة قبيل اغتصاب أجزاء كبيرة من فلسطين سنة 1948، لأن المصادر التي تنشر الإحصاءات إما يهودية أو أميركية، وكلها تعمدت التلاعب بالأرقام وصنعتها لأغراض سياسية تتماهى من الأوضاع العامة في فلسطين، وعلى الساحة الدولية.
كما أشار د. صالحية إلى أن التقرير الذي صدر عن الإدارة البريطانية وتحدث عن وجود 83794 يهوديا في فلسطين سنة 1922 من أصل 757182 هو تعداد سكانها –حسب التقرير نفسه- قد ضم لتعداد اليهود كل يهودي دخل فلسطين ولو كان سائحاً.
ثم تحدث الباحث بالتفصيل عن تسهيل حكومة الانتداب للهجرة اليهودية، وما رافق ذلك من مصادرة للأراضي من أجل إقامة الشركات الصناعية اليهودية فوق الأراضي الفلسطينية، التي تم الاستيلاء عليها بالغصب من خلال القوانين الجائرة، أو بالاحتيال، أو من خلال إثقال كاهل المزارعين الفلسطينيين بالديون مما ترتب عنه رهن الأراضي وبالتالي مصادرتها.
وخلص د. صالحية إلى القوة بأن بريطانيا خلال احتلالها وانتدابها لفلسطين أدخلت نحو 480 ألف مهاجر يهودي، ليصل عدد اليهود إلى 650 ألفاً، فسيطر اليهود على اقتصاديات المدينة وأساسيات الحياة فيها. وباتت الصهيونية تنتظر ساعة الحسم العسكري، ليبدأ فصل جديد من الصراع بين العرب واليهود في المدينة المقدسة على الأرض والسكان.
وأشار الكاتب أيضاً إلى أن بريطانيا بالخصوص، والدول الأوروبية الأخرى وأميركا، تتحمل بصورة كلية تلك الكارثة التي حلّت بأهل فلسطين، وذلك بإقدامها مجتمعة أو منفردة على البطش والغدر والملاحقة والاضطهاد لكل من يقف ضد الصهيوني من أهالي فلسطين، واعتماد سياسة العقوبات الجماعية والإعدامات، في مقابل الإعداد والإمداد والتدريب للعصابات الصهيونية.
بالإضافة إلى ذلك، تطرق الباحث إلى اعتماد بريطانيا سياسة الخداع تجاه عرب فلسطين بإظهار تصديها لما تسميه الهجرة غير الشرعية لليهود الأجانب، حفاظاً على حقوق أهالي فلسطين، وتشكيلها لجان التحقيق للالتفاف على قضايا العرب وتمييع نضالهم ضد المشروع الصهيوني.
وخلص د. صالحية إلى القول إنه على الرغم من مؤامرة الغرب وأداته الحركة الصهيونية، فإن اليهود ما حازوا من أراضي فلسطين، وبكافة الوسائل، إلا ما يقل عن 6% من أراضي فلسطين، خلال ما يقارب قرناً من الزمان.
كما أكد أن مقولة “إن نسيتك يا أورشليم، فلتشل يميني ويلصق لساني بسقف حلقي” ما هي إلا عبارات صليبية فرنجية، نطق بها حاكم عكا الفرنجي قبل رحيله، واستعارتها الحركة الصهيونية وزيفتها لصالح الفكر الصهيوني.
وتبرز أهمية هذا الكتاب من خلال الأدلة والوثائق التي يحشدها ليبين زيف الادعاءات الصهيونية حول المدينة، فالكتاب على الرغم من صغر حجمه، فإنه يعج بالمعلومات التفصيلية الموثقة وبالأسماء والأرقام التي تدعم البحث وتجعله بحد ذاته وثيقة مهمة جداً، ومرجعاً بحثياً يستند إليه كل باحث مهتم بالمدينة المقدسة.
– الكتاب متوفر للشراء، عبر: || || || ||
أضف ردا