بقلم: د. محسن محمد صالح: مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
الملف الأمني والحوار الفلسطيني
إشكالية تكوين الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة الغربية ورسالتها ودورها عادت إلى دائرة الضوء إثر أحداث قلقيلية، التي أدت إلى استشهاد ستة من مقاتلي حماس وخمسة من الشرطة الفلسطينية في اشتباكات عنيفة بين الطرفين في يونيو/حزيران الماضي.
ولأن تحقيق إصلاح فعلي في الأجهزة الأمنية، وفق منظور الفصائل الفلسطينية الأخرى، يستدعي تغيير الدور الوظيفي لهذه الأجهزة، وتغيير أجندات عملها تجاه المقاومة وتجاه “إسرائيل”، كما يستدعي إحداث تغييرات بنيوية تستهدف مكافحة الترهل والفساد والبطالة المقنعة واحتمالات الاختراق، كما تستهدف تحقيق درجات أعلى من الانضباط، وفتح أبواب التجنيد وفق معايير الوطنية والكفاءة.
ولأن رئاسة السلطة لم تكن في وارد التنازل الفعلي عن “احتكار القوة” ولا عن التزاماتها المرتبطة بمسار التسوية السلمية وخريطة الطريق، فإن عملية إصلاح هذه الأجهزة هي عملية جوهرية مرتبطة بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني وبتحديد أولويات واتجاهات المشروع الوطني، ولا يمكن التعامل معها من خلال بعض الإجراءات والترتيبات الشكلية والتجميلية.
ويظهر أن حماس وقوى المقاومة ستكون مغرقة في التفاؤل و”الطوباوية” إذا ظنت أنه من الممكن إحداث مثل هذه الإصلاحات في الضفة الغربية تحت الاحتلال الإسرائيلي، وتحت سقف استحقاقات مشروع التسوية.
استحقاقات أوسلو وخريطة الطريق
“احتكار القوة” هو من صفات الدولة أو السلطة، ولم يكن مستغربا أن تقوم السلطة الفلسطينية في إطار برنامجها لبناء الدولة بالسعي لأن تكون هي السلطة الوحيدة في مناطقها، وأن تثبت مصداقيتها في السيطرة على الأمور وفي احترام التزاماتها.
ولأن السلطة نشأت وفق اتفاق أوسلو 1993، أصبح هذا الاتفاق وما تلاه من اتفاقيات الإطار الضابط لسلوك السلطة. وقد تعهدت السلطة بفرض الأمن، ومنع حملات الدعاية والتحريض ضد “إسرائيل”، واتخاذ كل الإجراءات الضرورية لمنع الاعتداءات ضد الكيان الإسرائيلي أو أي من أفراده.
ولأن اتفاق أوسلو لم يكن مشروعا وطنيا فلسطينيا جامعا بقدر ما كان مشروع حركة بعينها هي حركة فتح أو جزء منها، ولأن الاتفاق لقي معارضة واسعة من فصائل إسلامية ووطنية ويسارية وقومية (الفصائل العشر)، فقد عدت هذه الفصائل نفسها غير معنية بالاتفاق واستمرت، خاصة حماس والجهاد الإسلامي، في عمليات المقاومة المسلحة، وهو ما عدته السلطة تحديا لها وخرقا لالتزاماتها بل وإفسادا لحلم الدولة الفلسطينية المرتقبة.
وقد لعب الجانب الإسرائيلي ورقة التعارض هذه بمهارة، ليجعل من حركات المعارضة والمقاومة عقبة في طريق التسوية، وليقوم بابتزاز السلطة الفلسطينية ودفعها لضرب المعارضة واجتثاثها وتهميشها، وهي المهمة التي لم يستطع الإسرائيلي نفسه القيام بها.
كان الشكل الذي صممت على أساسه الأجهزة الأمنية وسقف إمكاناتها وتشكيلاتها يسمح لها بحماية اتفاقية أوسلو ومنع العمل المقاوم، أكثر مما يسمح لها بالدفاع عن الشعب الفلسطيني. وكانت إمكانيات الأجهزة الأمنية تكفي لضبط الناس وملاحقتهم ولكنها لا تكفي للدفاع عنهم. ثم إن شرط “السلامة الأمنية” في الانتماء للأجهزة الأمنية حصر إمكانيات التجنيد في فتح ومؤيديها، بينما استبعد شرائح واسعة يمكن أن تكون محسوبة أو قريبة من أي جهة معارضة.
تضخم الجهاز الأمني الفلسطيني ليشكل أعلى نسبة شرطة إلى عدد السكان في العالم، حيث وصل عددهم قبيل انتفاضة الأقصى إلى نحو 40 ألفا بنسبة رجل أمن لكل 84 شخصا. وارتفع العدد في مطلع 2006 إلى نحو 70 ألفا بنسبة رجل أمن واحد لكل 50 شخصا تقريبا، بينما تبلغ النسبة في لندن رجل أمن واحدا لكل 3200 شخص، وفي لوس أنجلوس رجل أمن واحد لكل 2800 شخص. وفضلا عن ذلك عانت الأجهزة الأمنية الفلسطينية من مشاكل عديدة مرتبطة بالبطالة المقنعة والترهل والفساد.
وتحت شعار “منع ازدواجية السلطة” جرت حملات أمنية كثيرة طيلة السنوات الخمس عشرة الماضية، لم يكن أولها ما يعرف “بمجزرة الجمعة الأسود” في 18/11/1994 التي أدت لاستشهاد 13 مصليا وجرح 200 آخرين، ولا “محكمة أمن الدولة” وهي محكمة عسكرية قضاتها من ضباط الأمن الذين كانوا يجرون محاكماتهم سريا بعد منتصف الليل.
ولا زال الجميع يذكر كيف قامت الأجهزة الأمنية خصوصا سنة 1996 بمحاولة اجتثاث حماس والجهاد الإسلامي وضرب بنيتهما التحتية الجهادية والسياسية والتعليمية والخيرية وسجن الكثير من قادتها. وظلت اللغة العامة في التعامل مع التيار الإسلامي وتحديدا حماس في الفترة 1996-2000 هي اللغة الأمنية باعتبار حماس حركة “مشاغبة” ولكن “تحت السيطرة”. ولولا انتفاضة الأقصى التي قلبت الكثير من الموازين وأعادت لحماس وتيار المقاومة ألقها وأضعفت من قبضة السلطة لربما استمر الوضع على حاله.
تبنت خريطة الطريق في سنة 2003 مشروع “إصلاح السلطة”، التي كان على رأس أولوياتها تحجيم صلاحيات ياسر عرفات، وإعادة تنظيم الأجهزة الأمنية في ثلاثة أجهزة، وربط نجاح المرحلة الأولى من خريطة الطريق بقدرة هذه الأجهزة على ضبط الأمن الذي يعني ضمنا إيقاف الانتفاضة ومنع المقاومة وجمع السلاح.
استحقاقات فوز حماس
أوجد فوز حماس في الانتخابات وضعا “شاذا” بالنسبة لهذه الأجهزة، التي أصبح من واجبها احترام الإرادة الشعبية وحمايتها، والاستجابة لعملية إصلاح من نوع جديد، معاكسة لمتطلبات أوسلو وخريطة الطريق وللشروط الإسرائيلية الأميركية. وكان من الواضح أن هذه الأجهزة تواجه عددا من الاستحقاقات التي تحدد مسارها:
– فهل ستتابع الأجهزة الأمنية طريقة عملها وفق اتفاقيات أوسلو واستحقاقات خريطة الطريق؟
– وهل ستظل عمليات التجنيد محصورة في فصيل معين (فتح) ومؤيديه، أو ممن حققوا شروط “السلامة الأمنية”؟ بحيث تستبعد قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني وأطيافه المختلفة.
– وإلى أي مدى يمكن ضبط التدخلات والضغوط الإسرائيلية والأميركية في عمل الأجهزة الأمنية؟
– وهل يمكن أن يتحقق إصلاح فعلي وفق أجهزة وطنية خالصة للأجهزة الأمنية بحيث تفتح للفلسطينيين حسب معايير الكفاءة المهنية؟
– وهل يمكن أن تتحقق أي عملية إصلاح حقيقي تحت الاحتلال؟
أداة انفلات وإفشال
عندما تشكلت حكومة حماس بقيادة إسماعيل هنية استخدمت بعض القوى المتنفذة في فتح الأجهزة الأمنية أداة ضغط وإفشال وإسقاط لهذه الحكومة، وكان لافتا للنظر في الكثير من الحالات أن هذه الجهات المعنية بحفظ الأمن كانت هي نفسها أداة للفوضى ونشر الانفلات الأمني. كما كان أحد الأسباب الرئيسة لإسقاط حكومة الوحدة الوطنية، التي نشأت إثر اتفاق مكة في فبراير/شباط 2007، عدم تمكن وزير الداخلية من ممارسة صلاحياته وعرقلة قيادة الأجهزة الأمنية لعمله، بل وضلوع محسوبين على هذه الأجهزة في مخطط إسقاط الحكومة بدعم أميركي.
كان عنصر التفجير الأمني هو العنصر الذي يلجأ إليه بعض المتنفذين كلما اقتربت مفاوضات فتح وحماس من الوصول إلى تفاهمات مشتركة أو الاقتراب من إعادة ترتيب البيت الفلسطيني. وتتالت الشواهد على ذلك قبيل حوار القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول 2008، وفي أجواء جولات الحوار التي عقدت مؤخرا. غير أن أحد أسوأ مظاهر العمل الأمني في الضفة هو إنكار مجرد وجود معتقلين سياسيين، رغم اعتقال المئات وتعذيبهم وإهانتهم. حتى وصل الأمر أحيانا إلى القتل تحت التعذيب كما حدث مع الشيخ مجد البرغوثي.
وعلى ذلك فما يحدث الآن في الضفة الغربية لا يمكن عزله عن الدور الوظيفي للأجهزة وفق الاتفاقات الموقعة. كما لا يجوز التركيز فقط على اتهام عناصر معينة من ضباط وجنود هذه الأجهزة… فالكثير الكثير من أبنائها عناصر وطنية…، ولذلك يبقى السؤال الأهم حول من يوجه هذه الأجهزة ويحدد فلسفة عملها.
حكومة رام الله
السلوك الأمني لحكومة فياض في الضفة الغربية أوقعها في مغامرة السعي لاجتثاث وضرب البنى التحتية لحماس التي تمثل الشرعية الشعبية وتمثل الأغلبية البرلمانية، ولو لم يكن نوابها معتقلين لدى الاحتلال الإسرائيلي لسقطت حكومة فياض في أول عشر دقائق لأول جلسة برلمانية يعقدها المجلس التشريعي الفلسطيني.
وفياض الذي لا يملك سوى نائبين (من أصل 132 نائبا) في المجلس التشريعي لا يقوم بضرب البنى التحتية للمقاومة التي قادت الانتفاضة لخمس سنوات وحسب، وإنما يستهدف أيضا بالعزل والإحالة إلى التقاعد الكثير من ضباط وعناصر الأمن الفلسطيني حتى من المحسوبين على فتح نفسها، لضمان بقاء العناصر الموالية له ولبرنامج خريطة الطريق.
ولوضع مزيد من الملح على الجروح، فقد كانت تصريحات بعض مسؤولي السلطة تجمع بين تجار المخدرات واللصوص ورجال المقاومة!! فقائد منطقة الخليل العميد سميح الصيفي صرح في خبر نشرته الشرق الأوسط في 28/10/2008 قائلا “نحن واضحون، نعمل ضد الخارجين عن القانون وتجار المخدرات واللصوص، والفئات المسلحة التابعة لأي جهة والتي تحمل أي سلاح”.
تنسيق أمني
نظر الإسرائيليون بإعجاب إلى أداء الأجهزة الأمنية للسلطة في الضفة الغربية، ونوه رئيس الإدارة المدنية بالضفة العقيد يؤاف مردخاي بالتنسيق الأمني المباشر بين الطرفين، وقال في تصريح نشرته الدستور في 13/9/2008 “إننا نخوض معركة حقيقية ضد تنظيم حركة حماس المدني والاجتماعي، ونعمل حاليا بكل طاقتنا وبقوة ضد كل مؤسسات حماس”.
محضر الاجتماع الذي عقد بين ضباط إسرائيليين وفلسطينيين، الذي كشفه كبير محللي صحيفة “يديعوت أحرونوت” ناحوم بارنياع، ونشرت ترجمته القدس العربي في 22/9/2008، يستدعي (إن صدق) الكثير من التوقف، ويؤكد الدور الوظيفي لهذه الأجهزة. إذ ينقل بارنياع من محضر الاجتماع قول أبي الفتح قائد الأمن الفلسطيني للضباط الإسرائيليين “ليس هناك خصام بيننا، لدينا عدو مشترك: حركة حماس”.
وينقل المحضر عن محمد فراج رئيس الاستخبارات العسكرية الفلسطينية قوله “نحن في معركة صعبة جدا… قررنا خوض الصراع حتى النهاية، حماس هي العدو، قررنا شن حرب عليها… أنتم توصلتم إلى هدنة معهم أما نحن فلا”!! وقال فراج “نقوم بتولي أمر كل مؤسسة حمساوية ترسلون اسمها إلينا، أعطيتمونا في الآونة الأخيرة أسماء 64 مؤسسة، وقد انتهينا من معالجة 50 منها. بعض هذه المؤسسات أغلقت، وفي بعضها الآخر استبدلنا الإدارة، كما وضعنا أيدينا على أموالهم”، وتفاخر فراج أمام الإسرائيليين بأن الأمن الفلسطيني يستطيع اقتحام المساجد والجامعات أما الإسرائيليون فلا!!
وقال تقرير لوزارة الداخلية الإسرائيلية، نشرته صحيفة الجيروزالم بوست “إن التنسيق الأمني لم يسبق له مثيل”، وإن هذا التنسيق وصل إلى مستويات عالية، حيث انعقد 247 لقاء بين ضباط إسرائيليين وفلسطينيين منذ بداية 2008، وحتى نشر التقرير في بداية ديسمبر/كانون الأول 2008.
الكتيبة الفلسطينية التي أتمت تدريبها في دولة عربية مجاورة والمكونة من 620 عنصرا ضمن خطة المنسق الأميركي لدى السلطة الجنرال دايتون عادت في 28/5/2008 إلى الضفة الغربية. وتحدث تقرير لصحيفة هآرتس عن هذه الكتيبة بأن كل المشاركين والمهتمين بها “يعلمون أن الهدف الذي وضعوه واضح للجميع وهو محاربة حماس”. وأضاف التقرير أنهم في السلطة يتحدثون عن أفراد هذه الكتيبة بأنهم “أبناء دايتون”!!
الملف الأمني والحوار الفلسطيني
وعندما يقوم “أبناء دايتون” بالواجبات الملقاة على عاتقهم سلطويا وإسرائيليا وأميركيا… يصبح حوار القاهرة بين فتح وحماس نوعا من العبث والملهاة السياسية، إذا ما كان التركيز سيتم فقط على ما يسمى إصلاح الأجهزة الأمنية في قطاع غزة. بينما الجزء الأكبر من مشروع الدولة الفلسطينية (الضفة أكثر من 16 ضعف مساحة القطاع) جاثم تحت الاحتلال الإسرائيلي ويعاني من عمليات القمع المنهجي للقوى الوطنية والإسلامية المعارضة.
ملف الأجهزة الأمنية هو أعقد من ملفات تشكيل حكومة وحدة وطنية أو إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، لأن معالجته مرتبطة بالرؤية المنهجية للدور الوظيفي لهذه الأجهزة ورسالتها ومحددات عملها وشروط تجنيد عناصرها.
وهو أمر مرتبط أساسا بالتوافق على أولويات المشروع الوطني، والموقف من اتفاق أوسلو وخريطة الطريق، والعلاقة بـ”إسرائيل”، فضلا عن وجود إرادة حقيقية لدى الأطراف المتنفذة في السلطة الفلسطينية لفتح هذه الأجهزة لكل شرائح المجتمع الفلسطيني حسب وظيفتهم وكفاءتهم، وليس حصرها بمؤيدي فصيل معين، أو وفق الضوابط الإسرائيلية والأميركية.
ولذلك قد يكون هذا الملف أحد آخر الملفات التي يمكن حلها في الحوار الفلسطيني.
المصدر: الجزيرة.نت، 5/8/2009
أضف ردا