بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
قبل عامين ونيف، عندما كان بصري مشدوداً إلى منظر مدينة طبرية وبحيرتها الساحر، وكانت كلَّ ذرة من كياني تتفاعل مع تلك اللوحة الرائعة، وبينما كنت سارحاً فيما قاله أو سيقوله “عاشق طبريا” أنيس صايغ عن مدينته، دقّ جرس الهاتف النقال ليقطع سكون المكان حيث أقف على مرتفعات أم قيس شرقي الأردن. يا الله، إنه أنيس صايغ نفسه يتصل من بيروت مهنئاً بعيد الفطر. وكأنه التقط اللحظة الأروع والأنسب، للمشاركة في حب فلسطين.
لا أدعي علاقة قديمة بأنيس، فعلاقتي لا تزيد على بضع سنوات هي فترة إقامتي في بيروت، وهناك المئات من تلامذته ومريديه ومحبيه ممن سبقوني إليه. ولكن وجوده معنا في الهيئة الاستشارية لمركز الزيتونة، ومستشاراً للتقرير الإستراتيجي الفلسطيني، ومشاركته الدائمة ودعمه الدائم لأنشطتنا الأكاديمية ومؤتمراتنا جعلتنا على قرب منه.
كان أنيس يجمع مواصفات قلما اجتمعت في رجل، فكان يجمع بين الزهد والتواضع وبين عزة النفس وكبريائها، وكان لطيفاً مؤدباً مع الجميع، لكنه كان يرفض أن يكون في “جيب” أحد أو تحت “جناح” أحد، كما كان يكره التملق والنفاق. كان جاداً يحترم الدقة والانضباط والعمل المثمر. وقبل ذلك وبعده كان ابن فلسطين كل فلسطين… دونما تنازل عن ذرة من ترابها.
كان مستعداً لدفع ثمن مواقفه، وقد فعل، وحتى يكون حرّاً صادقاً مع نفسه، فضَّل أن يعيش عيشة بسيطة في شقة مستأجرة، على الرغم من أنه خريج الدكتوراه من جامعة كمبردج، كان يملك مواهب وإمكانات وعلاقات واسعة تفتح له آفاقاً لا يحلم بها الكثيرون. فضّل أنيس أن يقدم نموذج المثقف الحر، الذي لو حذا حذوه مثقفونا المعاصرون لربما حدثت حركة نهضوية في أمتنا، تقود الجماهير، وتصوب مسيرة الأنظمة والحكومات، بدلاً من العمل أذناباً للسلاطين ومحامين عن الشياطين.
مثَّل أنيس صايغ حالة منتمية لبلاد الشام تكسر الحدود التي اصطنعتها اتفاقية سايكس بيكو، فهو ابن طبرية الفلسطينية، ووالده عبد الله يعود إلى حوران السورية، وأمه عفيفة تعود إلى البترون اللبنانية، وزوجته هيلدا شعبان إلى السلط الأردنية.
ولم يكن غريباً على أنيس الذي ولد في 3/11/1931 أن ينتمي في ريعان شبابه إلى الحزب القومي السوري، كما سبقه إليه أخواه يوسف وفايز. ولكن أنيس تبنى الفكر القومي العربي مع صعود نجم جمال عبد الناصر. ولم تكن ميوله العلمانية وانتماء عائلته المسيحي البروتستانتي لتنتقص من اعتزازه بعروبته ووعائها الحضاري وتاريخها الإسلامي، بل مثَّل حالة من التمازج والاندماج الطبيعي غير المتكلف بين الوطني والقومي وبين المسيحي والإسلامي، وترفَّع عن المشاعر الطائفية ليركز على ما يجمع الناس في نهضتهم وفي مواجهتهم المشروع الصهيوني. لذا نجده نقطة التقاء واحترام الوطنيين والقوميين والإسلاميين، والعلمانيين، واليساريين، والليبراليين.
أنيس صايغ الذي كان والده قسيساً، لم يكن متديناً بالمعايير الكنسية المسيحية، وكان في طفولته يفضّل أن يَعُدَّ في سرِّه من الواحد إلى المائة أو أن يكرر كلمة “بطاطا” بدلاً من تلاوة “أبانا والسلام”، على الرغم من أن جوّ بيته المتدين كان يفرض أن يصلي الواحد ستّ مرات يومياً، واحدة منها جماعية، وهو لم يذهب إلى كنيسة منذ سنة 1955. وقد عكس ذلك شخصية ناقدة ساخرة حرة لا يحكمها المألوف، ولكنها ظلَّت تتميز بالرقة والأدب، دون أن يمنعها ذلك عن التعبير الصريح عن مواقفها.
“ولد والقلم بين أصابعه”، هكذا وصفه أحد الكتاب العرب؛ كان ذلك شاهداً صادقاً على ارتباط حياته بالقلم والكتابة. وهو ما يؤكده قائلاً “لم أقم في حياتي بعمل أو نشاط إلا وكان القلم أداتي الأولى”. ويضيف “لم أكن إلا كاتباً، ولا أحب أو أستحق أن أوصف إلا ككاتب…”.
كتب في فترة دراسته في الجامعة الأميركية ببيروت مقالات كثيرة في مجال تخصصه في العلوم السياسية وفي التخصص الذي يحبه “التاريخ” نُشر معظمها في جريدة الحياة. وكان يُسلم مقالاته خُفية لئلا يعرف صاحب الجريدة كامل مروة عمره الحقيقي فيوقف النشر. وكان مروة يظن أن الكاتب يحمل الدكتوراه، ولا يضع حرف الدال قبل اسمه تواضعاً منه، فكان مروة يتبرع بنفسه بإضافة هذا اللقب!!
كان كتاب “لبنان الطائفي” هو أول كتاب نشره سنة 1955 لأنه بحسب تعبيره هاله التعصب الطائفي في لبنان “وأنا القادم من فلسطين لا نعرف للطائفية معنى”. ثمّ أصدر “سوريا في الأدب المصري القديم”. وأجهد نفسه لسنوات في إعداد كتاب “العلاقات السورية المصرية” وقابل عبد الناصر وحصل منه على مقدمة للكتاب، لكنه لم ينشره لأنه كان يريد أن يخرجه بشكل أفضل بعد عودته من الدراسة والتدريس في جامعة كمبردج 1959-1964، وهو ما لم يحدث لانشغاله بأمور أخرى.
وتابع نشر كتبه “جدار العار”، و”الفكرة العربية في مصر”، و”تطور المفهوم القومي عند العرب”، وفي “مفهوم الزعامة السياسية”، و”فلسطين والقومية العربية”، و”ميزان القوى بين العرب وإسرائيل”، و”بلدانية فلسطين المحتلة”، و”الجهل بالقضية الفلسطينية”، و”ملف الإرهاب الصهيوني”، و”الوصايا العشر للحركة الصهيونية”… وغيرها.
وفي أثناء وجوده في كمبردج اهتم بتاريخ العائلة الهاشمية فجمع ما استطاع من مصادر ووثائق، حيث أصدر بعد عودته لبيروت كتاب “الهاشميون وقضية فلسطين” وكتاب “الهاشميون والثورة العربية الكبرى”، وقد راجا رواجاً كبيراً، غير أنهما منعا من النشر في الأردن والعراق وسوريا، كما مُنع أنيس صايغ نفسه من دخول الأردن 16 عاماً (1966-1982).
تولى أنيس الصايغ منصب مدير عام مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية 1966-1976، حيث أعطاه كل وقته وجهده وفكره، “وذاب المركز فيّ مثلما ذبت فيه” على حد قوله. وتطور المركز خلال إدارته من شقة متواضعة إلى ستة طوابق واسعة، وأصدر أكثر من ثلاثمائة كتاب، أضيف إليها مجلة شهرية، ونشرة رصد تصدر مرتين يومياً، وارتفع عدد الباحثين من ثلاثة إلى أربعين، وعدد الإداريين من خمسة إلى عشرين، وجهاز التوثيق من أربعة إلى عشرة، وحوى مكتبة غنية بأنفس الكتب والوثائق.
أدرك الصهاينة خطورة دوره ودور مركز الأبحاث، فتعرض أنيس صايغ لثلاث محاولات اغتيال كان أبرزها في 19/7/1972 عندما انفجر طرد بريدي بيديه مما أفقده جزءاً من سمعه وبصره، كما تضررت يده. وفي 14/12/1974 أطلقت ثلاثة صواريخ باتجاه مركز الأبحاث كادت تودي بحياته وحياة من فيه.
رأس أنيس صايغ تحرير أربع مجلات هي من أفضل ما شهدته الحياة الثقافية العربية وهي شؤون فلسطينية (1971-1977)، والمستقبل العربي (1978-1979)، وشؤون عربية (1981-1982)، وقضايا عربية (1979-1981)، وكان هو الرجل المؤسس للمجلات الثلاث الأولى.
شارك أنيس صايغ في “الموسوعة الفلسطينية” مستشاراً وعضواً ومقرراً في مجلس إدارتها منذ 1978، وأشرف على طباعة القسم الأول من الموسوعة، وتولى تحرير القسم الثاني، واستلم رئاسة مجلس الإدارة منذ أوائل 1988، واستمر يعمل فيها حتى 1993. وكانت الموسوعة من أفضل ما صدر في الشأن الفلسطيني، ومن أفضل ما صدر في العالم العربي.
وكما كان أنيس صايغ مدافعاً شرساً عن القضية الفلسطينية، فقد كان باحثاً صارماً عن الحقيقة العلمية حتى لو خالفت صحتها الموروث الشعبي أو ما يتداوله الكتاب والصحفيون. كنتُ في زيارة له، فسألني بعدما عرف تخصصي في الوثائق البريطانية وتاريخ فلسطين الحديث والمعاصر، عما إذا كنت قد أطلعت على وثيقة كامبل بنرمان؛ وهي وثيقة تنسب إلى رئيس وزراء بريطانيا في سنة 1907، تتحدث عن مؤتمر برعاية حزب المحافظين قدمت توصياته لرئيس الوزراء بنرمان بعد سنتين من البحث توصي بإنشاء كيان غريب في شرق البحر المتوسط معادٍ لأهل المنطقة ومختلف عنهم في الدين واللغة والثقافة ومعتمد على الغرب، بهدف ضمان انقسام المنطقة وضعفها وتخلفها.
وقد أخبرته أن هذه الوثيقة قد أثارت اهتمامي بالفعل وأنني حاولت أن أحصل على أصلها الأجنبي في الأرشيف البريطاني، غير أنني لم أجد لها أثراً، على الرغم من أن كثيراً من المصادر العربية تذكرها. فأخذ أنيس يحدثني عن قصته مع الوثيقة إذ سبقني للبحث عن أصلها بنحو أربعين عاماً، ووجد أن الكتّاب العرب يحيلون إلى بعضهم بعضاً، فقرر الذهاب إلى لندن وصرف شهراً كاملاً في البحث عنها في المتحف البريطاني ودار الوثائق البريطانية وأوراق جامعة كمبردج. ووجدَ ما وجدتُ من حديث عن المؤتمر الإمبريالي في تلك الفترة دون أن يجد الوثيقة، وانكب على فهارس جريدة التايمز 1904-1907 دون أن يجد لها أثراً.
وعاد إلى بيروت مغموماً.. ليعلم بعد ذلك أن أول من ذكرها من العرب هو المحامي أنطوان كنعان، فسافر أنيس باحثاً عنه في مصر حتى وجده، فاعترف له أن رجلاً هندياً ركب معه في طائرة حدّثه عن شيء من هذا كان قد قرأ عنه. فلا هو ولا جاره الهندي اطلعا عليها…!! ولذلك فهي لم تثبت من الناحية العلمية. وهكذا منع أنيس صايغ في كل ما يشرف عليه وعلى نشره ذكر هذه الوثيقة كحقيقة ثابتة. وعلى النحو نفسه، تعامل أنيس مع بروتوكولات حكماء صهيون التي لم تثبت علمياً بالرغم من كل ما قيل عنها.
سوّد أنيس صايغ وبيّض عشرات الآلاف من الصفحات كاتباً ومحرراً ومشرفاً.. لكنه كان يعمل بروح صاحب الرسالة لا بروح الموظف الذي ينتظر الراتب آخر الشهر، وقد عانى في سبيل المحافظة على المعايير الأكاديمية والعمل المؤسسي الكثير، خصوصاً وهو يدير مؤسسة تتبع منظمة التحرير التي تعج بالعقليات والحسابات الفصائلية وشراء الولاءات والمحسوبيات.
وقد تسبب له ذلك بحالة من الجفاء والخصومة مع الكثير من قيادات المنظمة والفصائل وعلى رأسهم ياسر عرفات. وتمكن من الصبر والتحمل عشر سنوات متواصلة إلى أنه اضطر لتجميد عمله في ربيع 1976 ثم للاستقالة تماماً في السنة التالية. ويستطيع القارئ الكريم أن يطلع بألم وحسرة على المصاعب التي واجهها أنيس صايغ طوال إدارته لمركز الأبحاث وعمله في الموسوعة الفلسطينية (1966-1993)، وذلك في مذكراته التي نشرها سنة 2006 بعنوان “أنيس صايغ عن أنيس صايغ”؛ وفيها فصلان أحدهما عن المركز والموسوعة والآخر عن العلاقة بياسر عرفات.
في رأي أنيس صايغ كان “عرفات يريد أن يكون المركز ومنشوراته وباحثوه رجال إفتاء، يجيزون الأفكار والآراء والأحكام التي يريدها هو حسب مزاجه وفهمه للأمور”.. كان عرفات “يريده مؤسسة خاصة تابعة له شخصياً فتخوض حروبه مع الآخرين”.. كان عرفات “لا يقرأ ولكن يستمع إلى ما يرغب في سماعه من انتقادات ويتخذ موقفاً بناء على السمع”.. ويتناول أنيس في مواقف كثيرة الموقف السلبي لعرفات منه ومن المركز والموسوعة.. مما لا مجال لذكره هنا.
ويخلص إلى القول “رحمه الله عرفات وغفر له. لقد عمل على قتل المركز والمجلة والموسوعة، ونجح، لكن الخاسر كان فلسطين قضية وثقافة ونضالاً”، ويضيف “لا أزعم أني الضحية الوحيدة لعرفات. كان عرفات ضد المؤسسات المستقلة، ضد عقلية المؤسسة. لا يريد إلا أتباعاً أفراداً أو مؤسسات”.
ويحدد أنيس صايغ في ختام فصله عن عرفات عشر نقاط في خلافه معه، تضمنت فضلاً عما سبق أن عرفات “لم يكن يثمن العلم والأسلوب العلمي”، وأنه كان يسخر من النظام والانضباط في المركز، وأنه طبق نظرية “من ليس معي فهو ضدي”… وغير ذلك.
قرر أنيس منذ تقاعده من العمل الرسمي سنة 1993 أن “يتعاقد مع الحياة للموت واقفاً” حسب تعبيره، وأن يستمر على التزامه وخدمته لقضيته واستعداده للتضحية ولكن بأشكال جديدة، على أن يظل مستقلاً دون انضمام لأي جهة. وكان اتفاق أوسلو (13/9/1993) في رأيه كارثة هائلة؛ فقرر أن يوجه هجومه على أعوان العدو “والمستسلمين له ودعاة الهزيمة والردة في صفوف ثورتنا الفلسطينية والعربية” بعد أن كان منغمساً في الهجوم على العدو الصهيوني وشحن الأمة بالمعلومات والتحليلات.
قرر أن يتقدم بقصد “تحطيم الأصنام .. والهرطقة السياسية” وخاض معركته مع “اتفاق الذل والاستسلام” حسب ما وصفه، على أكثر من جهة، وأصدر كتاباً سماه “13 أيلول” ضد اتفاق أوسلو وضد السياسة التي قادت إليه.
بيد أن أنيس صايغ فُجع بممارسات عدد فصائل المعارضة كما فُجع بمؤيدي أوسلو. فقد كانت هناك استجابة لندائه من التيارات المعارضة المختلفة لعقد المؤتمر الوطني الفلسطيني لحماية الميثاق الوطني الفلسطيني والذي عُقد فعلاً سنة 1998، وقد شارك في الاجتماعات التحضيرية، واختير في جلسة الافتتاح نائباً للرئيس ومقرراً وناطقاً باسم المؤتمر ومشرفاً على لجنة الصيانة.
لكنه بصراحته المعهودة وبحزن وألم سجّل قائلاً “لم أشهد في حياتي فوضى وعبثاً ولامبالاة ولا مسؤولية مثلما شهدت في تلك الاجتماعات.. كانت الاجتماعات تجري بلا جدول أعمال ولا محاضر ولا مقررات…”.
وزاد إحباطه أن أمين عام فصيل فلسطيني عضو التقى رئيس “دولة إسرائيل” فتمّ طرده من اللجنة، ثم في الأسبوع التالي عقد رئيس اللجنة التي انتخبها المؤتمر لقاء مع التلفزيون الإسرائيلي يغازل فيه سياسة عرفات!! وهكذا، ماتت اللجنة بعد بضعة أشهر “بدون جنازة ولا حفل تأبين” حسب تعبير أنيس صايغ.
كان أنيس يشرف على إعداد كتاب تكريماً للراحل شفيق الحوت وكان قد ضرب موعداً نهائياً لاستلام المقالات نهاية سنة 2009، وكنت واحداً ممن يلملمون أوراقهم وأفكارهم لتسليم المقال في الموعد المحدد، ولكن الموت عاجله قبل الموعد بأيام.
أنيس صايغ ظل على عطائه حتى اللحظة الأخيرة كاتباً ومستشاراً وناشطاً في الجوانب الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تخدم قضية فلسطين وقضايا الأمة العربية. رحل بهدوء كما ترحل الزيتونة في الأرض المباركة تعيش واقفة مغروسة في الأرض تحفل بالعطاء… وعندما تموت لا تموت إلا واقفة.
أضف ردا