بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
أتيحت لكاتب هذه السطور الاطلاع في الشهور الماضية على فكر العلامة السيّد محمد حسين فضل الله ورؤيته تجاه القضية الفلسطينية، من خلال دراسة كان يقوم بإعدادها. ولا شك أن فضل الله كان أحد أكبر المراجع الشيعية في العالم، حيث وصل إلى رتبة “آية الله العظمى”. وقد تميزت شخصيته بالانفتاح والاعتدال والتجديد في الفكر والفقه الشيعي، وكان في الوقت نفسه أحد أكبر المنظِّرين لخط المقاومة والداعمين له.
وتظهر القراءة المتأنية لكتابات السيّد فضل الله وخطاباته، سعة اطلاعه وعمق رؤيته؛ وتجاوزه للقيود المذهبية والطائفية، وطرح أفكاره في الإطار الإسلامي الرحب، بل وفي الإطار الإنساني الواسع. وينطلق فضل الله في موقفه وتحليله للأمور من رؤية إسلامية رسالية ملتزمة، وهي رؤية تدعو لتبني الإسلام فكراً وسلوكاً ومنهج حياة. ورؤيته في الوقت نفسه رؤية حضارية منفتحة، تستوعب الآخر وتلتقي على القواسم المشتركة لخدمة الأمة ولمواجهة الأعداء.
فلسطين من منظور إسلامي
القضية الفلسطينية بالنسبة لفضل الله هي قضية إسلامية وقضية مبدئية وقضية مركزية؛ وهو ما يعطيها أهمية وأولوية تتجاوز أي قضية أخرى في عالمنا المعاصر. ويرى فضل الله أن قضية فلسطين هي القضية الأساس، وأن كل القضايا المتصلة بهذا البلد العربي أو المسلم أو ذاك، هي فرع عن القضية الفلسطينية.
ولذلك يقول إن “موقفنا من القضية الفلسطينية دين ندين به، وليس مجرد شعار سياسي نستهلكه اليوم لنتركه غداً”. ويؤكد أن فلسطين تختصر كل القرن الذي مضى، وتختصر كل آلام الأمة، وكل أحلام الأمة “لا أحلم بدون فلسطين، وتسقط كل الأحلام عندما تسقط فلسطين… ليست معركة وليست مفاوضات، وليست تفاصيل، ففلسطين قصة أن تكون الأمة أو لا تكون”.
وقد دعا فضل الله إلى تبني الإسلام باعتباره المنهج الأصح والأسلم لتحقيق النصر على الصهاينة؛ وقال “يوجد محور هو الإسلام في مواجهة “إسرائيل”… نحن أقوى من أي يوم لأننا مع الإسلام. معركة الإسلام السياسية هي الصراع مع “إسرائيل”، وليس هناك إسلام وحركة إسلامية سياسية خارج الصراع مع “إسرائيل”.
وأكد فضل الله أن “إسرائيل” وجودٌ غير شرعي، لأن “إسرائيل” دولة غاصبة… “والغصب حرام كما الخمر حرام، ولن يأتي زمان يكون الغصب فيه حلالاً”؛ وأن مرور الزمن -ولو بلغ مئات السنين- لا يعطي شرعية للغصب. ويفتي ومعه إجماع علماء الأمة الثقات بحرمة التنازل عن أي جزء من فلسطين، ويبيّن أنه إذا كان من حق الإنسان أن يتنازل عن منزله فليس من حق الشعب أن يتنازل عن وطنه، لأن الوطن ليس ملك الناس في هذه المرحلة الزمنية أو تلك، بل هو ملك الأجيال كلها. ولذلك أكد السيد أن “من واجب علماء الأمة من السنّة والشيعة أن يعملوا على استعادة فلسطين بكاملها من النهر إلى البحر، وأن يعملوا على تعبئة الوجدان العربي والإسلامي في سبيل ذلك”.
ويرى فضل الله أن العدل قيمة عليا لا تقوم الحياة إلا بها، وأن رفع الظلم وردّ الحقوق إلى أهلها، بما في ذلك حق الشعب الفلسطيني في حريته واستقلاله وأرضه ومقدساته، هو مقتضى العدل الذي تقوم عليه الأديان والرسالات. “عدلك مع الله، ومع نفسك ومع الناس والحياة، هذا الذي يختصر كل الأديان. أن تكون ظالماً يعني أنك لست مسلماً ولا مسيحياً ولا موسوياً، لأن الظلم لا دين له. العدل هو الذي يوحد الأديان”.
بالنسبة لفضل الله “نحن لا نستطيع أن نفرق في وعينا الديني والروحي بين مكة والقدس”. وينبّه إلى الأهمية الرمزية للقدس، فهي رمزٌ يعطي الأرض والمنطقة والسياسة معنى يتعدّى حدودها وحجمها…، فتصبح الأرض قضية ورسالة. ويوضح أنه لا بدّ للسياسة من أن تكون لها رسالة، ولا بدّ للوطن من أن تكون له رسالة، وكل ذلك يتجمّع في القدس… لأنها كانت مهبط الرسالات… فأراد الله سبحانه من خلال هذه البقعة الطاهرة أن تكون لإنسانية الإنسان معنى.
توسيع دائرة الصراع
يرى فضل الله أن عظمة التحدي وخطورته تفرض علينا توسيع الصراع مع العدو وتكامل دوائره الفلسطينية والعربية والإسلامية والإنسانية. كما تفرض علينا من جهة ثانية أن نستعد لمعركة تتداولها الأجيال حتى يأذن الله بالنصر والتحرير. ويقول فضل الله إن القضية الفلسطينية فلسطينيةٌ في جغرافيتها وفي شعبها، وعربيةٌ في قوميتها، وإسلاميةٌ بعمق المعاني التي تحكم شعبها.
ولذلك يرفض فضل الله أن ينغمس أصحاب الأيديولوجيات الوطنية والقومية والإسلامية واليسارية في خلافات تشغلهم عن مشروع التحرير، وتستنفد طاقتهم فيما لا طائل منه. ويرى أنه على كل الذين يؤمنون بالتحرير أن يعتبروا برنامجهم هو مساحة المعركة؛ إذ ما معنى أن نتنازع الآن عروبياً أو إسلامياً، والأرض ليست بأيدينا…؟.
ومن جهة أخرى، فقد كرر فضل الله كثيراً معنى مهماً هو أن “إسرائيل” لن تبقى قوية إلى الأبد، كما أن العرب والمسلمين لن يبقوا ضعفاء إلى الأبد؛ وبالتالي فإن معركة تحرير فلسطين هي معركة أجيال. ولذلك دعا السيّد الفلسطينيين والعرب والمسلمين إلى ألا يُقدروا المسألة بالسنين، لأن المسألة مسألة عدو عاش أجيالاً حتى اغتصب الأرض، ويجب أن نعيش أجيالاً حتى نسترجع أرضنا “إنها معادلة الحرية التي لا يفهمها إلا المجاهدون”.
بين اليهودية والصهيونية و”إسرائيل”
يرى فضل الله أن صراعنا مع “إسرائيل” واليهود الصهاينة يتخذ بُعداً دينياً ضدّ المسلمين، غير أن المسألة اليهودية ليست بالضرورة مسألة دينية في عمق السياسيين اليهود، بل اعتبروا الدين مجرد شعار، ولهذا فإنهم لا يتحركون في قوانينهم وفي سياساتهم وفي علاقاتهم من موقع التفاصيل الشرعية للدين اليهودي. ولكنهم جعلوا المسألة مسألة قومية يهودية، فأصبحت فكرا قومياً، ولهذا أخذت الكثير من الأفكار العنصرية التي تؤمن بها بعض القوميات.
وبالنسبة لفضل الله فإن الصهاينة واليهود بشكل عام لم يفرقوا بين الصهيونية واليهودية، لأن اليهودية المحرَّفة تختزن في داخلها مفهوم العنصرية ضد الآخر، لذلك استخدم هؤلاء اليهود كل مفردات اليهودية التلمودية المحرفة في تعبئة كل اليهود ضد العرب والمسلمين.
بين “إسرائيل” والاستعمار الغربي
يرى فضل الله أنّ “إسرائيل” تمثل امتداداً للحضارة الغربية، وأن “إسرائيل” أنشأت بينها وبين الاستعمار الغربي علاقة مصالح متبادلة، تخدم الطرفين على حساب الفلسطينيين والعرب والمسلمين. وأن التحالف بين “إسرائيل” وقوى الاستعمار الغربي جعل “إسرائيل” في حماية هذه القوى وخصوصاً الولايات المتحدة، وجعل هذه القوى المتحكمة في القرار الدولي ووسائل الإعلام العالمية، تسعى بكل الطرق لصيانة أمن “إسرائيل”، فأصبحت مسألة “إسرائيل” بحسب السيّد هي “مسألة الإخطبوط الذي له يد في كل العالم”.
ولذلك، فإن فضل الله يرى أنّ “المسألة بيننا وبين إسرائيل لا تقتصر على مواجهة إسرائيل العنصرية في فلسطين، بل هي باختصار معركة بين قوى الاستكبار العالمي والمستضعفين”.
ويذكر فضل الله أن مسألة الصراع مع اليهود الصهاينة ليست مجرد مسألة فلسطينية تقليدية، بل تتصل بعمق الوجود العربي والإسلامي. وأن أميركا والدول الغربية سعت بدرجات متفاوتة للبحث عن قاعدة تؤمن لها مصالحها… فأوجدت “إسرائيل”، الدولة القوية في قلب العالم العربي بحيث تمنعه من التواصل، وتربك كل أوضاعه الاقتصادية والأمنية والسياسية في حال الحرب والسلم.
ويستنتج فضل الله أن دعم أميركا لـ”إسرائيل” هو سر الكراهية العربية والإسلامية لأميركا، بالإضافة إلى السياسة الأميركية الحامية للأنظمة الرجعية. ويؤكد أن أميركا دولة منافقة في المسألة الفلسطينية، فهي تعطي المواقف الداعمة والأسلحة الفتاكة للإسرائيليين، وتعطي العرب والفلسطينيين الكلمات. وينبّه إلى أن أميركا ليست جادة في مسألة التسوية، وتريد شراء الوقت وخلط الأوراق لإيجاد حالة من اليأس، حتى تستكمل “إسرائيل” خطّتها في السيطرة على معظم فلسطين، وفي فرض شروطها للتسوية.
دعم المقاومة والانتفاضة
دعم فضل الله المقاومة والانتفاضة في فلسطين بكلّ قوة، ونبّه إلى أن عمليات الانتفاضة لا تستطيع أن تحرر فلسطين، إذا بقيت في هذه الدائرة المحدودة من الإمكانات، لكنها تستطيع أن تحرّر عقليتنا من أن الإسرائيلي إنسان لا يُهزَم.
فقد استطاعت أن تقول إن العربي ليس هو الإنسان المقتول دائماً، وإنما هو الإنسان “القاتل والمقتول”…، بما يتناسب مع الخط القرآني في قوله تعالى “فيَقتُلون ويُقتَلون”؛ وعندما تكون القاتل تارة والمقتول تارة، فإن معنى ذلك أنك تتوازن مع الآخر في حركة الحياة. ويوضح فضل الله أن التوازن قد لا يكون محفوظاً من ناحية الحجم، ولكنه محفوظ من ناحية المبدأ، وأنك إذا ثبتَّ على المبدأ، فمن الممكن أن تزيد في حجم التفصيلات من خلال حيويتك وحركتك.
وأفتى فضل الله بجواز العمليات الاستشهادية ضد العدو الإسرائيلي بحكم الاضطرار، حتى لو أدى ذلك إلى قتل ما يوصف بالمدنيين الإسرائيليين. وتحدّث عن فلسفة العملية الاستشهادية، حيث وصفها بأنها تمثل العمق المقهور في وجدان الإنسان الفلسطيني، الذي يختزن في داخله الشخصية العربية الإسلامية التي تنبض بكل عنفوانها وكل تطلعاتها وآلامها وجراحاتها، والمنفتحة على القيمة الروحية، بما فيها من معاني الجهاد والعزة والكرامة والحرية، ورضا الله والتطلّع إلى الجنة. وعند ذلك لا يكون للجسد معنى، ويكون الاستشهادي أو الاستشهادية إنساناً يختصر كل آلام الأمة في حركته، فكأن الأمة تجاهد من خلاله، وكأن الأمة تتجمع لتمنحه كل قوتها وشجاعتها، بحيث يتحرك نحو القضية وينسى الجسد.
ولذلك أفتى بأن “العمليات الاستشهادية هي عمليات جهادية من الدرجة الأولى، بل هي أعلى أنواع الجهاد”. وأوضح أنه لا فرق في العمليات الاستشهادية بين الرجل والمرأة، بل إن حركة المرأة أكثر ثواباً وفضلاً وإيثاراً من الرجل.
ويؤكد فضل الله كثيراً على رفض الاستسلام للواقع، وما يفرضه الآخرون، ويدعو إلى تبني واقعية ثورية، ترفض الواقع الحالي البئيس، وتدرسه وتغيّره بطريقة واقعية، وتدرس موازين القوى وتسعى لاستحداث موازين جديدة تصارع بها… فتغير الواقع بأدوات الواقع، وبالأدوات التي يصنعها الإنسان من أجل أن يغير الواقع.
أبدى فضل الله تقديره الكبير للدور الذي لعبته حماس وإلى جانبها الجهاد الإسلامي وفصائل المقاومة في الانتفاضة المباركة وانتفاضة الأقصى، كما لم يُخفِ سروره بفوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني. وأيّد موقف حماس وحكومتها في قطاع غزة الصامد في وجه الحصار، كما دعم جهود فك الحصار عن القطاع، واستقبل وفداً ممن تمكنوا من كسر الحصار بإحدى السفن، وحيّاهم على جهودهم.
وفي لقائه معهم قال “إن غزة تمثّل أكبر سجن في العالم، ولا تموت في هذا السجن الأعداد المتواصلة من الفلسطينيين فقط ممن لا تصل لهم حاجاتهم، بل الذي يموت هو ضمير هذا العالم المحتجز الذي لا يتطلّع إلى الآخرين إلا من زاوية المصالح المادية”.
الموقف من التسوية
نبّه فضل الله إلى أنّ التسوية تمثل مصلحة حيوية إستراتيجية إسرائيلية وأميركية، وكلاهما يضغط من أجل الحصول على أكبر قدر من المكاسب، وألا يأخذ الفلسطينيون أي شيء خارج نطاق الحكم الذاتي. وسأل كل المتحمّسين للمفاوضات “دلوني على نقطة ضوء واحدة لهذه المفاوضات”. ولذلك رأى في اتفاق غزة/أريحا (اتفاق أوسلو) اتفاقاً إسرائيلياً لا عربياً ولا فلسطينياً، وقال إنه اتفاق يمثّل “الهزيمة العربية الفلسطينية، بالضربة القاضية”، وإنه كان “اتفاق الجريمة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من إيحاءات النتائج التي تواجه القضية في المستقبل”.
وأوضح فضل الله أن أصعب مأزق تعيشه القيادة الفلسطينية المنخرطة في المفاوضات هو أنها لا تستطيع أن تترك المفاوضات، كما لا تستطيع أن تستمر فيها؛ هذا فضلاً عن افتقارها لورقة تستطيع أن تلعبها بقوة.
ظل فضل الله على تفاؤله بمستقبل المقاومة الفلسطينية قائلاً إن “المستقبل سوف يبتسم للشعب الفلسطيني من خلال الجراحات النازفة، ومن خلال نهر الدم المتدفق عطاءً وجهاداً واستشهاداً”.
لعل ذلك كان مروراً سريعاً على أبرز ملامح رؤية فضل الله للقضية الفلسطينية. ومنه يتبين أنه فكر يلتقي مع فكر رموز وعلماء السنة. وهو ما يدل على أن فلسطين قضية يمكن أن تجمع الأمة وتوحد طاقاتها في مواجهة أعدائها.
أضف ردا