تقدير استراتيجي رقم (24) – تموز/ يوليو 2010.
ملخص التقدير: بعد مرور عقدين على مؤتمر مدريد وانطلاق التسوية بإطارها الحالي، عجز الراعي الأمريكي عن جمع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على طاولة واحدة. ومع أن إدارة أوباما أعلنت بأن الدولة الفلسطينية باتت مصلحة قومية أمريكية، إلاّ أنها لم تبادر إلى تقديم ضمانات قطعية للجانب الفلسطيني بتحديد موعد قيام هذه الدولة، كما أنها لم تمارس الضغط الكافي لإلزام حكومة نتنياهو كي تنخرط مع السلطة في مفاوضات جادّة تفضي إلى الحل النهائي.
لا تملك مفاوضات التقريب فرصة جدية للنجاح؛ بمعنى التوصل إلى اتفاق سلام نهائي يتعامل مع القضايا الصعبة والحساسة والشائكة. مع العلم بأن الطرفين المعنيين، الفلسطيني والإسرائيلي، وافقا على هذه الخطوة على مضض – كلٌّ لحيثياته وأسبابه الخاصة – مراعاة للراعي الأمريكي، الذي يدفع باتجاه الانتقال إلى المفاوضات المباشرة، وهو قد يصور ذلك، في حالة حدوثه، كإنجازٍ على طريق التوصل إلى حل نهائي للصراع قبل انتهاء ولاية الرئيس باراك أوباما الأولى نهاية العام 2012.
مفاوضات التقريب
لم يمرّ أسبوعٌ على تولي الرئيس باراك أوباما السلطة حتى قام بتعيين السيناتور المخضرم جورج ميتشل مبعوثاً إلى المنطقة. بعد عامٍ تقريباً من الجولات المكوكية المتتالية، تمخضت جهود ميتشل عن التوصل إلى شكلٍ من أشكال المفاوضات غير المباشرة، التي أُطلق عليها مفاوضات التقريب أو مفاوضات عن قرب التي يقوم عبرها السيناتور الأمريكي بالتنقل بين الطرفين لتقريب المواقف، ليس من أجل التوصل إلى اتفاق وإنما للانتقال إلى المفاوضات المباشرة حول الملفات والقضايا الصعبة والحساسة الثلاثة: القدس والحدود واللاجئين.
جاء تعيين ميتشل ترجمةً لاهتمام الرئيس باراك أوباما بالصراع في المنطقة، واعتباره حل المشكلة في فلسطين ركناً محورياً ومركزياً من سياسته الخارجية، وعندما خاطب العالم الإسلامي من جامعة القاهرة، احتلت القضية الفلسطينية حيزاً مهماً في الخطاب، على أساس أن الوقت قد حان لإنهاء هذا الصراع. وطوال عامٍ تقريباً اعتبرت الإدارة الأمريكية تجميد الاستيطان شرطاً أساسياً من أجل إعادة إطلاق عملية التسوية، كما اشترطت السلطة الفلسطينية للعودة إلى المفاوضات التجميد التام للاستيطان، مع الانطلاق من النقطة التي توقفت عندها نهاية العام 2008. تقول السلطة إن وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندليزا رايس قدمت ملخصاً عن تلك النقطة إلى الوزيرة الحالية هيلاري كلينتون.
حكومة نتنياهو من جهتها، لم تخفِ رفضها المطلق للتجميد التام للاستيطان، خاصة في القدس العاصمة الأبدية والموحدة وفق التعبير الإسرائيلي. وبعد فترة من الشدِّ والجذب بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو، تراجعت الأولى عن مطلب التجميد التام لصالح التقليص أو الكبح – استخدم أوباما هذا المصطلح لأول مرّة أثناء خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر 2009 ثم أعلنت حكومة نتنياهو بدورها أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر التالي عن قرار تقليصٍ أو كبحٍ مؤقتٍ للاستيطان لمدّة عشرة أشهر، يَستثني القدس والمباني والمؤسسات الرسمية، مثل: الكُنُس، والمدارس، والمستوصفات، كذلك الوحدات الاستيطانية قيد الإنشاء التي يتراوح عددها ما بين ثلاثة آلاف وخمسمائة إلى أربعة آلاف وحدة سكنية. ورغم ذلك، سارعت إدارة أوباما إلى الترحيب بالقرار الإسرائيلي واعتبرته غير مسبوق، وباشرت الضغط على السلطة الفلسطينية للعودة إلى المفاوضات المباشرة على أساسه.
الضغوط الأمريكية المتنوعة، والوعد ببعض التعهدات أو الضمانات الشفهية والضبابية بتجميد أو تقليص البناء في المستوطنات، والغطاء العربي عبر لجنة المتابعة للمبادرة العربية، كلها أثمرت موافقة السلطة على العودة إلى المفاوضات.
إذن، كان من المفترض، وفق المعطيات السابقة، أن تنطلق المفاوضات غير المباشرة فى آذار/ مارس الماضي، غير أن إعلان بلدية القدس عن خطط لإقامة 1,600 وحدة سكنية في مستوطنة رامات شلومو شمال القدس، أثناء وجود نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن في فلسطين المحتلة، أدى إلى تشويش الجدول الزمني، وتأجيج الخلاف بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو. وبعد اللقاء العاصف وغير الودّي بين أوباما ونتنياهو أوائل نيسان/ إبريل في البيت الأبيض، وجولات أخرى خلال شهري نيسان/ إبريل وأيار/ مايو لجورج ميتشل في المنطقة، وتجديد التفويض العربي للسلطة، أثناء قمّة طرابلس، لخوض المفاوضات، انطلقت هذه المفاوضات عملياً في أيار/ مايو الماضي على أن تنتهي في أيلول/ سبتمبر القادم، وهو الشهر الذي ستنتهي خلاله أيضاً مدَّة التقليص المؤقت للاستيطان، كما أنه يشهد عادةً اجتماعات الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
لماذا الذهاب إلى مفاوضات التقريب؟
1. الإدارة الأمريكية
منذ وصولها إلى البيت الأبيض، لم تخفِ إدارة أوباما اهتمامها بالقضية الفلسطينية، ليس فقط كمدخل لتحسين العلاقات مع العالم الإسلامي، وإنما أساساً لاعتبارات متعلقة بالمصلحة الأمريكية بعدما باتت الدولة الفلسطينية مصلحة قومية أمريكية، ودخول العسكر على الخط والحديث الشهير للجنرال ديفيد باتريوس الذي اعتبر فيه أن حل الصراع، وفق حل الدولتين، يسهم في تخفيف العداء العربي – الإسلامي للولايات المتحدة، وفي حماية أرواح الجنود الأمريكيين المنتشرين في المنطقة.
واعتمدت الإدارة ما يوصف بـ”حل الدولتين” كأساس لحل الصراع؛ حيث يعني وفق الثنائي أوباما – كلينتون: دولة فلسطينية قابلة للحياة، متصلة جغرافياً على أساس حدود حزيران/ يونيو 67، مع تعديلات متفق عليها، تأخذ في الاعتبار الواقع الحالي، إلى جوار “دولة إسرائيلية” يهودية وآمنة.
بناءً على ما سبق، دعت واشنطن إلى استئناف المفاوضات وعملية التسوية على أمل التوصل إلى اتفاق نهائي خلال عامين، غير أنها اصطدمت بتطرف حكومة نتنياهو وتعنتها، خاصة فيما يتعلق بتجميد الاستيطان ومرجعية المفاوضات وهدفها النهائي. لذلك، عملت على التوصل إلى حلول وسط، كما كان دائماً المنحى العام للسياسة الأمريكية عند الخلاف مع “إسرائيل”؛ حدث هذا في الملفات التي يجب أن تركز عليها المفاوضات غير المباشرة. في المقابل، أصرت السلطة، في البداية، على حسم ملف الحدود، مما يعني تلقائياً تجاوز قضية الاستيطان من جهة، وتسهيل الانتقال نحو المفاوضات المباشرة من ناحية أخرى، إلاّ أن التعنت الإسرائيلي، من جديد، أدى إلى إضافة ملف الأمن، كما أن نتنياهو أراد الحديث عن المياه والعلاقات الاقتصادية وثقافة السلام.
على مضضٍ، وافقت الإدارة الأمريكية على مبدأ المفاوضات غير المباشرة، وتعاطت معها كخطوةٍ على طريق المفاوضات المباشرة من أجل التوصل إلى اتفاق نهائي، وتفهمت الموقف الإسرائيلي بضرورة مناقشة القضايا الصعبة والحساسة وجهاً لوجهٍ، وعملت للانتقال بأسرع وقت ممكن إلى المفاوضات المباشرة قبل أيلول/ سبتمبر القادم، أي قبل انتهاء المهلة الممنوحة من الجامعة العربية وقبل انتهاء مهلة التجميد أو التقليص المؤقت للاستيطان، علماً أن مصادر إعلاميةٍ إسرائيلية أشارت إلى ربط نتنياهو استمرار التقليص بموافقة السلطة على الانتقال إلى المفاوضات المباشرة.
2. السلطة الفلسطينية
ذهبت السلطة الفلسطينية مضطرةً أيضاً وعلى مضضٍ إلى المفاوضات غير المباشرة، لعدم قناعتها بإمكانية التوصل إلى أي اتفاق مع الحكومة الإسرائيلية الحالية، غير أن ذلك حصل، وعندما قبلت بفكرة مفاوضات التقريب طالبت بمناقشة قضية الحدود وحدها، على أن تتم مناقشة بقية القضايا عند الانتقال إلى الإطار المباشر؛ وهي الأمور التي لم تحدث بالطبع.
وافقت السلطة على الانخراط في المفاوضات غير المباشرة لعدّة أسباب: أولها الجمود الفكري وعدم امتلاك الإرادة السياسية للتخلي عن خيار المفاوضات. وثانيها الحرص على عدم توتر العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا، خاصة مع تهديدات الأخيرة بالتخلي عن دعم السلطة سياسياً واقتصادياً طالما أن العملية السياسية متوقفة. ثالثها وهو الأهم بحسب وجهة نظر السلطة، إثبات أن المشكلة عند “إسرائيل” وأنها من تقف عائقاً أمام التوصل إلى اتفاق سلام نهائي، وبالتالي دفع الولايات المتحدة إلى طرح خطتها أو تصورها لهكذا اتفاق، أو عدم استخدام حق النقض الفيتو عند توجه الجانب العربي إلى مجلس الأمن للحصول على الموافقة على إعلان دولة فلسطينية ضمن حدود حزيران/ يونيو 1967.
3. “إسرائيل”
ذهبت حكومة نتنياهو أيضاً مضطرةً وعلى مضضٍ إلى مفاوضات التقريب، حرصاً على العلاقة مع الولايات المتحدة وعدم توسيع شقة الخلاف مع إدارتها، وحاولت قدر الإمكان تحسين الشروط، فرفضت التجميد التام للاستيطان وخاصة في القدس؛ حيث قدمت تعهدات ضبابية وغير مكتوبة للولايات المتحدة بهذا الصدد، كما رفضت استئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها، ثم رفضت الاعتراف بأي تفاهماتٍ سابقةٍ غير موقعةٍ، كانت قد توصلت إليها السلطة مع حكومة أولمرت. وعندما تم التوصل إلى صيغة مفاوضات التقريب، طالبت بنقاش قضايا مثل الاقتصاد والمياه والعلاقات وثقافة السلام والأمن؛ وهي قضايا ليست جوهرية تهدف أساساً إلى إغراق المفاوضات بالتفاصيل. وحتى الآن، ترفض حكومة نتنياهو التعاطي بشكلٍ جدّيٍ مع قضية الحدود.
هذا، وتعتبر الحكومة الإسرائيلية أن المفاوضات غير المباشرة مجرد خطوة تقنية ومدخلٍ نحو المفاوضات المباشرة، التي تصرُّ على الشّّروع فيها انطلاقاً من نقاش القضايا غير الأساسية أو الجوهرية، بحجة تهيئة الظروف أمام هكذا نقاش عبر تحسين الأوضاع الاقتصادية والأمنية للفلسطينيين في الضفة الغربية.
احتمالات النجاح والفشل
في ضوء المعطيات السابقة، لا تملك مفاوضات التقريب أيّ احتمالاتٍ جدّيةً من أجل التوصل إلى اتفاق سلامٍ نهائيٍ أو الانتقال نحو المفاوضات المباشرة، خصوصاً مع ما أعلنته منظمة السلام الآن الإسرائيلية حول مسألة تجميد الاستيطان، في قولها: ليس من شيء هكذا على الأرض، كما تباهى الوزير بيني بيغن بزيادة عدد المستوطنين بمقدار عشرة آلاف مستوطن خلال فترة التجميد المزعومة. فى السياق نفسه، لا يمكن تجاهل حقيقة أن حكومة نتنياهو- بيغن – ليبرمان لا تقدم أكثر من الحل التاريخي لليمين، وهو الحكم الذاتي البلدي الموسع، علماً أن خطاب نتنياهو في بار إيلان، الذي جاء رداً على خطاب أوباما في القاهرة، اشترط للموافقة على الدولة الفلسطينية قبول السلطة بـ “يهودية إسرائيل”.
من الجدير بالذكر، أن نتنياهو يرغب في سلب أربع صلاحيات أساسية من الكيان-الدولة- الفلسطينية العتيدة وهي: حق السيطرة على الحدود، وحق السيطرة على الأجواء وموجات البث الكهرومغناطيسي، وحق امتلاك جيش، وحق إبرام معاهدات مع دول تعتبرها “إسرائيل” معادية لها.
خاتمة
المفاوضات غير المباشرة ليست سوى مولود خداج لا تملك فرص جدّية للنجاح حتى لو تحولت إلى الشكل المباشر، وإذا كان ميتشل محبطٌ من نتنياهو وحكومته، والمحادثات لم تغادر بعد المربع الأول، فكيف سيكون الحال عند الخوض في المسائل المعقدة والشائكة والصعبة؟ علماً أن نتنياهو يراهن على نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، حيث تشير المعطيات الأولية إلى تراجع حظوظ الحزب الديموقراطي، مما يعني برأي نتنياهو: تقييد أيادي الرئيس أوباما وتحوله إلى بطة عرجاء في النصف الثاني من ولايته الرئاسية.
وحتى إذا لم يحدث ذلك، فإن اليمين الإسرائيلي سيصر على تقديم تفسيره واجتهاده الخاص تجاه عبارة الدولة الفلسطينية مصلحة قومية أمريكيةً عبر عدم ممانعة قيام دولة كهذه، ولكن ضمن التصور التقليدي والتاريخي لليمين (السلام الاقتصادي، والحكم الذاتي البلدي الموسع والمحدث؛ دون القدس ودون حق العودة للاّجئين).
المقترحات
1- ضرورة تنبه السلطة الفلسطينية إلى عدم إعطاء مزيد من الوقت لـ”إسرائيل”، لفرض مزيد من الأمر الواقع على الأرض في الضفة الغربية وخاصة فى القدس ومحيطها.
2- قيام السلطة الفلسطينية وقيادة م.ت.ف بمراجعة سياسية وفكرية جادة لعملية التفاوض، وجدواها الحقيقية، حتى لا تكون تحت غطاء لممارسات الاستيطان والتهويد الإسرائيلية-عملية بناء الحقائق على الأرض.
3- إعطاء الأولوية لإعادة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني وتحقيق المصالحة والوحدة الوطنية من أجل بلورة الخيار البديل في مواجهة الخطط والمشاريع الإسرائيلية.
4- دراسة تحديد سقف زمني للذهاب إلى مجلس الأمن لإعلان قيام دولة فلسطينية بحدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس، والإعلان عن عدم جديّة إدارة أوباما لقيام دولة فلسطينية، خصوصاً في حال لجأت إلى استخدام حق النقض.
* يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ ماجد عزّام بخالص الشكر على كتابته النص الأساسي الذي اعتمد عليه هذا التقدير.
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 21/7/2010
أضف ردا