مدة القراءة: 18 دقائق

إعداد: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات

كان تشكيل حكومة سلام فياض إحدى الظواهر الملفتة في تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر، فقد كانت نتاج حالة الانقسام الفلسطيني، وظلّ أهم سبب لبقائها هو استمرار هذا الانقسام. وعلى الرغم من معاناتها من شرعية منقوصة على الساحة الفلسطينية، إلا أنها حظيت بدعم عربي ودولي وبرضا إسرائيلي مكّنها من الاستمرار. وإذا كانت هذه الحكومة قد حظيت بدعم قيادة فتح التي ترأس منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، إلا أن فياض استفاد من موقعه ومن تحويل الأموال إلى حكومته في تقوية مركزه، حتى على حساب نفوذ فتح نفسها في أجهزة السلطة وخصوصاً الأجهزة الأمنية؛ وتماهى في الوقت نفسه مع خط الرئيس محمود عباس الذي يتبنى مشروع التسوية، ويرفض المقاومة المسلحة، ويتعامل مع حماس وفصائل المقاومة المسلحة كقوى خارجة عن القانون، وينسق أمنياً مع الاحتلال، ويركز على الاقتصاد كقاعدة لبناء الدولة الفلسطينية المستقبلية.

يحاول هذا التقرير تقديم صورة عامة عن الحكومة الفلسطينية التي شكلها سلام فياض في رام الله منذ منتصف حزيران/ يونيو 2007 وحتى صيف 2010. وهو يناقش مواضيع تشكيل الحكومة ووضعها القانوني وأداءها السياسي والاقتصادي والأمني.

أولاً: تشكيل الحكومة

أدى اتفاق مكة بين فتح وحماس في 8 فبارير/ شباط 2007 إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية بقيادة إسماعيل هنية، حيث حازت ثقة المجلس التشريعي في 17 مارس/ آذار 2007. وقد شغل سلام فياض فيها منصب وزير المالية. وبعد انهيار هذه الحكومة إثر حوادث الفلتان الأمني، وسيطرة حماس على قطاع غزة في 14 يونيو/ حزيران 2007؛ سعى الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى إخراج حماس من الشرعية الفلسطينية وإلى تجاوز المجلس التشريعي الذي تمتلك غالبية أعضائه، فلجأ إلى غطاء منظمة التحرير الفلسطينية ليستند بإجراءاته الرئاسية إليها؛ على الرغم من أن المنظمة هي مرجعية للسلطة في الشؤون الكبرى، وليست أداة تنفيذية أو تشريعية ضمن إطار السلطة.

عقدت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير اجتماعاً طارئاً في 14 يونيو/ حزيران 2007 وأقرت عدة توصيات، وضعتها تحت تصرّف الرئيس عباس:

    1. إقالة حكومة إسماعيل هنية.
    2. إعلان حالة الطوارئ.
    3. تشكيل حكومة إنفاذ حالة الطوارئ.
    4. إجراء انتخابات مبكر [1].

وقد تبنى عباس هذه التوصيات وأمر بتنفيذها بموجب ثلاثة مراسيم. وكلّف عباس سلام فياض بتشكيل حكومة إنفاذ حالة الطوارئ (حكومة طوارئ)، وتمكّن فياض من تشكيلها في 17 يونيو/ حزيران2007، وأدّت اليمين الدستورية أمام الرئيس عباس في رام الله؛ وضمّت إلى جانبه 11 وزيراً واشتملت على مستقلّين وتكنوقراط، وخلت من أي وزير منتم إلى فصائل المقاومة. وكان سلام فياض قد شكل كتلة الطريق الثالث كحزب مستقل، وفاز في انتخابات المجلس التشريعي التي عقدت في 25 يناير/ كانون الثاني 2006 بمقعدين فقط من أصل 132 مقعداً.

وقبيل انتهاء مدة حكومة الطوارئ المحددة بشهر واحد، وفي يوم 13 يوليو/ تموز 2007، تم توسيع هذه الحكومة فصدر مرسوم رئاسي بإضافة أربعة وزراء إليها ليصبح مجموع أعضائها 16 وزيراً بمن فيهم سلام فياض. وفي اليوم التالي قدمت حكومة فياض استقالتها، حيث تم التعامل معها بعد ذلك باعتبارها حكومة تسيير أعمال [2].

بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 18 يناير/ كانون الثاني  2009، قام فياض بوضع حكومته تحت تصرف محمود عباس في 22 يناير/ كانون الثاني  2009. وبعد أن انطلقت جلسات الحوار الوطني في القاهرة، قام فياض بتقديم استقالة حكومته في 7 مارس/ آذار 2009 والتي قَبلها الرئيس عباس، وقال إنها جاءت بهدف تعزيز الحوار ودعمه، ودفعه للوصول إلى حكومة جديدة؛ غير أنه طلب من فياض الاستمرار في إدارة شؤون السلطة حتى تشكيل الحكومة الجديدة.

وعندما تعثر الحوار الوطني وتقرر تمديد جلساته، قرر الرئيس عباس في 8 مايو/ أيار 2009 إعادة تكليف فياض لتشكيل الحكومة. وقد تشكلت حكومته في 19 مايو/ أيار 2009، وضمت 24 وزيراً، معظمهم من التكنوقراط، وتولت حركة فتح نصف المقاعد الوزارية. وتم تمثيل الجبهة الديموقراطية، وجبهة النضال الشعبي، وحزب الشعب، وحزب فدا بوزير واحد لكل منها. أما الجبهة الشعبية فاعتذرت عن المشاركة لرغبتها في تشكيل حكومة توافق وطني.

ثانياً: الإطار القانوني

حسب النظام الأساسي (الدستور)؛ فإن إقالة حكومة الوحدة الوطنية، أي حكومة إسماعيل هنية، يُحولها فوراً إلى حكومة تسيير أعمال. ولكن الرئاسة الفلسطينية تجاوزت ذلك مستندة إلى إعلان حالة الطوارئ. غير أن خبراء القانون الفلسطينيين قالوا: إنه لا يوجد نصّ قانونيٌ يدعم شرعيةَ مرسومِ تشكيل حكومة طوارئ،. وإن النصّ القانوني يتيح للرئاسة إعلان حالة الطوارئ فقط، ولمدة 30 يوماً، ولا يتيح لها تشكيل حكومة طوارئ. ويتيح النصّ القانوني للرئيس تجديد حالة الطوارئ شهراً آخر، ولكن بعد موافقة المجلس التشريعي بأغلبية ثلثي أعضائه. وهناك نص آخر في القانون يُلزم أية حكومة أن تتقدم إلى المجلس التشريعي لتنال ثقته، ويسري هذا على حكومة سلام فياض الجديدة، إذا تمّ التسليم بشرعية تشكيلها [3].

وقد حاول الرئيس عباس تجاوز كل هذه الإشكالات من خلال الحكم بـ”المراسيم”. ولذلك تمّ بعد أيام من الأحداث في 22 يونيو/ حزيران 2007 إصدار مرسوم يلغي فقرة في القانون، تتطلب موافقة المجلس التشريعي على أية تعيينات وزارية، وأعلن تعليق العمل بالمادة 79 من القانون الأساسي المعدل لسنة 2003.

إن حكومة فياض بحسب النظام الديموقراطي الفلسطيني، تدين بشرعية تكليفها إلى الرئاسة الفلسطينية، غير أنها لم تحصل على شرعية اعتمادها واستمرارها من المجلس التشريعي الفلسطيني الذي تقوده حماس. وكان من المثير للاستغراب أن تقوم هذه الحكومة التي يفترض أن تمثل إرادة الشعب، بمحاربة الجهة التي تعبر عن إرادة غالبيته والمخولة بتمثيله! [4].

وهكذا، فإنه من الناحية العملية ظلّ المحدد الأساس والفاعل الأكبر في بقاء حكومة فياض واستمرارها، هو حرمان المجلس التشريعي من أداء مهامه، وتعطيله وبقاء غالبية أعضائه من أبناء الضفة الغربية (وتحديداً من كتلة الإصلاح والتغيير المدعومة من حماس) في السجون الإسرائيلية (اعتقلت “إسرائيل” 41 نائباً من حركة حماس من أصل 74 نائباً، في حملتها في صيف 2006، وارتفع عددهم فيما بعد إلى 44 نائباً). وبعبارة أخرى فإن المحدِّد الإسرائيلي – الأمريكي كان عاملاً فاعلاً في صناعة القرار الفلسطيني، من خلال فرض مسارات معينة تخدم طرفاً دون آخر.

قام الرئيس عباس وحكومة فياض بإعادة صياغة القوانين الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، مستفيدين من تغييب السلطة التشريعية المعارضة لإجراءاتهم. وخلال الفترة من حزيران/ يونيو 2007 وحتى حزيران/ يونيو 2008، أصدر الرئيس عباس وحكومة رام الله 406 مراسيم غطت تقريباً كل جوانب الحياة والنظام السياسي والقانوني [5]. وقد فتح هذا المجال لاتهام الرئاسة وحكومة تسيير الأعمال برئاسة فياض بأنهم في الوقت الذي يتهمون فيه حماس بالانقلاب في غزة والخروج على الشرعية، فإنهم أنفسهم ينقلبون على الشرعية التشريعية، ويقومون بمحاربة ممثليها واجتثاثهم.

ثالثاً: الدعم السياسي

لقيت حكومة فياض دعماً متواصلاً من الرئيس محمود عباس الذي ألقى بثقله خلفها كرئيس للسلطة ورئيس لمنظمة التحرير ورئيس لحركة فتح؛ وهو ما جعل حكومة فياض تتمتّع بغطاء منظمة التحرير، وغطاء حركة فتح ومعظم الفصائل الفلسطينية المنضوية تحت المنظمة.

غير أن تعيين فياض ترافق مع رغبة أمريكية غربية في التعامل معه، سواء لمواقفه السياسية أم لكفاءته الاقتصادية والإدارية. كما كان هناك رضى إسرائيلي عن التعامل معه لسعيه للالتزام بدقة باستحقاقات خريطة الطريق، ونزع أسلحة المقاومة.

فياض الذي لا يملك حزبه أكثر من مقعدين في المجلس التشريعي (1.5%) كما لا يملك فصيلاً مقاوماً، كان بحاجة إلى دعم محمود عباس والدعم الخارجي لضمان استمراره، خصوصاً وأن حكومته تولّت ملفات معقّدة كان من أبرزها محاربة حركة حماس ونزع أسلحتها مع باقي فصائل المقاومة.

ويظهر أن حركة فتح قدّمت دعمها لفياض على مضض وبسبب ضغوط الرئيس عباس، فقد ظهرت احتجاجات فتحاوية عديدة على طريقة إدارة فياض للحكومة، وخصوصاً استبعاده الكثير من عناصر فتح في الأجهزة الأمنية وفي الخدمة المدنية أو إحالتها للتقاعد، وتوظيف الكثير من المقرّبين إليه، وطريقة تحكّمه بموارد السلطة المالية، وعلاقاته مع أمريكا.

وخلال انعقاد الدورة 25 للمجلس الثوري لحركة فتح، التي اختتمت أعمالها في 26 مايو/ أيار 2008، والتي حضرها محمود عباس، تعرّض سلام فياض وحكومته لهجوم عنيف، وارتفعت الأصوات التي طالبت بتغيير عدد من الوزراء، خصوصاً وزير الخارجية رياض المالكي، ووزير الداخلية عبد الرزاق اليحيى.

واتّهم عزام الأحمد حكومة فياض بمحاولة الهيمنة على كل شيء في كل المؤسسات. وشبّه البعض فياض ببول بريمر أول حاكم أمريكي للعراق بعد احتلاله، بسبب حلّه التشكيلات العسكرية لحركة فتح، كما اعتبر البعض حكومة فياض حكومة أمريكية مفروضة على الشعب الفلسطيني [6]

وعندما شكّل فياض حكومته الجديدة في 19/5/2009، واجه معارضة من كتلة فتح البرلمانية، التي احتجّت أن فياض لم يستشرها وأنّه عيّن اثنين من أعضائها وزراء دون موافقتها. غير أن عباس أبلغ كتلة فتح أن هذه الحكومة هي حكومته ويجب عدم عرقلة عملها بأي شكل مما اضطر الكتلة للاستجابة لرغبته [7]. وبعد بضعة أسابيع قدّم القيادي الفتحاوي حاتم عبد القادر وزير شؤون القدس استقالته من حكومة فياض منتقداً تقصيرها تجاه هذا الملف [8].

رابعاً: الأداء السياسي

تابعت حكومة تسيير الأعمال برئاسة سلام فياض عملها في إدارة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية مستفيدة من الاعتراف العربي والدولي بها. وتناغمت حكومة فياض مع اتفاقات أوسلو، وتساوقت مع خريطة الطريق، ومتطلبات الدور الأمني لإدارة الحكم الذاتي.

ورأت حكومة فياض في ذلك سياسة واقعية تقتضيها طبيعة المرحلة، وضعف الوضع الفلسطيني والعربي والإسلامي، وعدم قدرة خط المقاومة عملياً، في الظروف الراهنة، من تحقيق الأهداف الوطنية.

ولذلك، فإن حكومة فياض سعت للإيفاء بالتزاماتها لدفع الطرف الإسرائيلي للإيفاء بالتزاماته، وتحصيل الحقوق الفلسطينية أو جزء منها من خلال مسار المفاوضات. وركزت توجهات حكومة فياض على تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للفلسطينيين، باعتبار أن التنمية الاقتصادية التي تعتمدها “ذات فلسفة ومنطلق سياسي مقاوم، يقوم على أساس تثبيت المواطن على أرضه” [9].

أكد سلام فياض أن حكومته ستكون حكومة انتقالية، حتى يتمّ تشكيل حكومة وفاق وطني، وحدد أولوياتها السياسية بوقف الاستيطان، ووقف الاجتياحات، ورفع الحصار [10]. كما أكد أن برنامج حكومته السياسي هو برنامج محمود عباس وبرنامج منظمة التحرير[11]

وضع فياض عنواناً لخطة حكومته، وهو “إقامة مؤسسات الدولة المستقلة” خلال عامين [12]. وانشغلت حكومته على مدى شهرين بوضع تفصيلات هذه الخطة، التي كشف النقاب عنها في 25 أغسطس/ آب 2009. وتضمنت الخطة إقامة مشاريع سيادية، مثل مطار وسكة حديد وإنشاء بنية تحتية أساسية، وتأمين موارد الطاقة والمياه، وتحسين الإسكان والتعليم والزراعة، وتشجيع الاستثمار، وتحسين أداء الأجهزة الأمنية، فضلاً عن بناء المستشفيات والعيادات الصحية وغيرها [13]. وردَّ فياض على اتهامات بأن خطته تتساوق مع ما يسمى بـ”السلام الاقتصادي” الذي يدعو إليه بنيامين نتنياهو، ومع ما يسمى “بالرفاه تحت الاحتلال”، فقال إن خطته متكاملة تنموية وطنية لإنهاء الاحتلال وليس لتكريسه [14]

أراد فياض من خلال تطبيق خطته أن يكون عملياً، بالاستفادة قدر الإمكان من الظروف المتاحة، وبالسعي لصناعة الحقائق على الأرض، التي تدعم بناء الدولة الفلسطينية، أو على الأقل تدعم صمود الشعب الفلسطيني في أرضه؛ وذلك في مواجهة الحقائق التي يفرضها الإسرائيليون على الأرض.

غير أنه كان يُواجه بطرف إسرائيلي مراوغ يجعل من عملية التفاوض عملية لانهائية، ويجعل ما يقوم به فياض ضئيلاً مقارنة بما يقوم به الإسرائيلي بشكل حثيث، من مشاريع تهويد واسعة في القدس وباقي الضفة الغربية، بينما “يستمتع” بقيام السلطة بالتزاماتها في قمع تيارات المقاومة، ودون أن تملك هذه السلطة أية أوراق ضغط حقيقية على الجانب الإسرائيلي.

خامساً: الأداء الاقتصادي

سعى فياض إلى تحسين الوضع الاقتصادي الفلسطيني خصوصاً في الضفة الغربية، واستفاد من قيام الحكومة الإسرائيلية برفع الحصار عن الضفة، وبتسليم حكومته عائدات الضرائب التي تجبيها بالنيابة عن الفلسطينيين، كما استفاد من الرضا الدولي وخصوصاً الأمريكي عنه وعن حكومته، فاستمر تدفق المساعدات والمعونات من الدول المانحة إلى السلطة، بعد أن انقطعت في فترة تولي حماس إدارة حكومة السلطة.

غير أن “إسرائيل” ظلت تمسك بخناق الاقتصاد الفلسطيني، وتتحكم في صادراته ووارداته، وتضع القيود والحواجز على حركة الأفراد والبضائع، وتستهلك معظم مصادر المياه، وتصادر الأراضي وتتوسع في برامج الاستيطان والتهويد مما جعل فرص النمو الاقتصادي مرهونة إلى حدّ كبير بالمزاج الإسرائيلي، الذي ظلّ يفضل استخدام أساليب الضغط الاقتصادي والأمني لتحقيق مكاسب سياسية ولتطويع الفلسطينيين، حتى أولئك الذين يرتبطون معه بمشروع التسوية، وينسقون معه أمنياً.

في فترة تولي فياض لرئاسة الحكومة نما الناتج المحلي الإجمالي في الضفة والقطاع بنسبة 5.4% سنة 2007، و5.9% سنة 2008، و6.8% سنة 2009، بعد أن كان قد انخفض بنسبة 5.2% سنة 2006 بسبب الحصار. غير أن هذا الناتج ظلّ متواضعاً بالنسبة للإمكانات الفلسطينية، إذ ارتفع من 4.5 ملياراً سنة 2007 إلى نحو خمسة مليارات و150 مليوناً سنة 2009، بينما كان الناتج القومي الإسرائيلي في تلك الفترة نحو 200 مليار دولار. وزاد معدل دخل الفرد الفلسطيني من 1,298 دولاراً سنة 2007 إلى 1,390 دولاراً سنة 2009 أي بنحو 92 دولاراً فقط، بينما زاد دخل الفرد الإسرائيلي للفترة نفسها من نحو 23 ألف دولار إلى 27 ألف دولار.

ظلّ الدعم الخارجي يشكل نحو 50-55% من موازنة السلطة وبلغ سنة 2008 نحو 1,763 مليون دولار منها 446 مليوناً من الدول العربية، مقابل نحو 1,415 مليون دولار سنة 2009 منها 462 مليوناً من الدول العربية. أي أن الدعم الخارجي انخفض سنة2009 بنسبة 19.7 %. وبدا أن الدعم الخارجي يستخدم كأداة ضغط سياسي على السلطة الفلسطينية عندما تأخر وصوله في النصف الأول من سنة 2009، إثر انتهاء العدوان على قطاع غزة، وبدء جلسات الحوار الوطني، واستقالة فياض من منصبه، ولم يتم تفعيل هذه المساعدات إلا بعد أن عاد فياض لتشكيل الحكومة في مايو 2009.

أما دخل السلطة من إيرادات الضرائب التي تقوم “إسرائيل” بتحصيلها بالنيابة عن الفلسطينيين فقد انخفض من 1,137 مليون دولار سنة 2008 إلى 1,090 مليوناً سنة 2009. كما تراجعت الإيرادات المحلية وهي المصدر الأساسي الثالث لموازنة السلطة من 759 مليون دولار سنة 2008 إلى 585 مليوناً سنة 2009.

وتحظى الرواتب والأجور بنحو نصف ميزانية حكومة فياض إذ بلغت سنة 2008 نحو 1,771 مليون دولار من مجموع النفقات البالغ 3,273 مليوناً أي 54.1%، بينما بلغت سنة 2009 نحو 1,423 مليوناً من مجموع النفقات البالغ 2,920 مليوناً أي 48.7%. مع العلم أن سنة 2009 اقترنت بسياسة تسعى لتقليص النفقات العامة، والحد من التعيينات الحكومية الجديدة والبدلات والترقيات، وتشجيع التقاعد المبكر. وما زال قطاع الأجهزة الأمنية يستهلك أكثر من ثلث رواتب موظفي السلطة.

أما البطالة فوصلت نسبتها في أواخر سنة 2009 إلى نحو 25% في الضفة الغربية مقارنة مع 39% في قطاع غزة الذي يعاني من الحصار، مع الإشارة إلى أن البطالة في القطاع كانت 45% آخر سنة 2008. وتبلغ نسبة الفقر 24% في الضفة الغربية مقابل 56% في قطاع غزة.

ولا تزال “إسرائيل” تهيمن على التجار الخارجية للسلطة في الضفة الغربية، إذ إن نحو 69% من واردات السلطة في رام الله التي تأتي من “إسرائيل”، كما أن أكثر من 80% من صادراتها تذهب إلى “إسرائيل”.

من الواضح أن الآمال بتحقيق حالة من الرفاه تحت الاحتلال هو أمر بعيد المنال، إذ إن الاحتلال نفسه هو سبب معاناة الفلسطينيين السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإن تحقيق تحسين أحوال الفلسطينيين مرهون أساساً بزوال الاحتلال نفسه، وليس بتكييف أوضاعهم تحته.

سادساً: الأداء الأمني

بعد أيام من سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، تمّ تسريب أنباء إلى الصحافة تقول “اتخذ قادة أجهزة الأمن في الساعات الأخيرة سلسلة من القرارات المهمة للحيلولة دون تكرار ما يسمونه تجربة غزة في الضفة، في مقدمها تفكيك الخلايا العسكرية لكتائب عز الدين القسام والقوة التنفيذية. ومنها أيضاً تجفيف مصادر تمويل حركة حماس وإغلاق مؤسساتها” [15]. ثم أصدر الرئيس عباس في 26 يونيو/ حزيران 2007 مرسوماً حظر بموجبه كل الميليشيات المسلحة والتشكيلات العسكرية غير النظامية أياً تكن تبعيتها. وطلب المرسوم من الحكومة إنهاء ظاهرة الجماعات المسلحة كافة ومصادرة أسلحتها [16]. وذلك إفساحاً في المجال أمام خطة أمنية يجري إعدادها في وزارة الداخلية، التي يرأسها اللواء عبد الرزاق اليحيى. ويشمل ذلك تنظيمات حركة فتح وحماس والجهاد الإسلامي والفصائل الأخرى. وهذا في الحقيقة كان تنفيذاً لخريطة الطريق في بندها المتعلق بتفكيك خلايا المقاومة.

وصدر في هذا السياق المرسوم الرئاسي في 22 يونيو/ حزيران 2007 الذي يعطي لوزير الداخلية صلاحيات حلّ الجمعيات المرخصة سابقاً [17]. ويتيح هذا المرسوم لوزير الداخلية إغلاق أي من مؤسسات حماس المالية أو الخيرية أو التعليمية. وبالفعل أقدمت حكومة فياض على حلّ جميع لجان الزكاة في الضفة الغربية، بحجة أنها مصدر مالي لحركة حماس [18].

وتطورت الأزمة من خلال المراسيم لتصل إلى السلطة نفسها، وذلك من خلال مرسوم آخر في 17 أغسطس/ آب 2007 يقضي بسحب كافة القرارات الرئاسية الصادرة في الفترة من 7 مارس/ آذار 2007 إلى 15 أبريل/ نيسان 2007، أي خلال فترة حكومة الوحدة الوطنية برئاسة إسماعيل هنية، والمتعلقة بالترقية والترفيع والانتقال لموظفي الوزارات والإدارات والهيئات الحكومية، وسحب جميع الصلاحيات والامتيازات الممنوحة لهم بموجب قرارات صادرة بهذا الخصوص [19].

سلام فياض قال إن السلطة “حريصة على التعددية السياسية وعدم المس بها، إلا أنها ترفض التعددية الأمنية” [20]، لكنه كشف عن سياسة تعامل حكومته مع حماس بقوله “طالما أن الوضع قائم على ما هو عليه في غزة، فإن حماس هي تنظيم مناوئ للسلطة، والحكومة تعمل وفق هذا” [21].

الجمع بين تجار المخدرات واللصوص وبين رجال المقاومة ظهر في تصريح العميد سميح الصيفي قائد منطقة الخليل، الذي قامت قواته بعد يومين من انتشارها في الخليل باعتقال 53 “مطلوباً للعدالة”، بحسب زعمها، في بلدتي السموع ويطا منهم 35 من حماس. إذ قال الصيفي “نحن واضحون ونعمل ضدّ الخارجين عن القانون وتجار المخدرات واللصوص والفئات المسلحة التابعة لأي جهة، والتي تحمل أي سلاح”، وأضاف “أي سلاح غير سلاح الأجهزة الأمنية غير شرعي” [22].

وفي إطار تأهيل وتدريب الأجهزة الأمنية للسلطة في الضفة، أتمّت كتيبة فلسطينية خاصة من 620 عنصراً تدريبات استمرت لعدة أشهر في الأردن، ضمن الخطة التي وضعها المنسق الأمني الأمريكي لدى السلطة الجنرال دايتون؛ وعادت في 28 مايو/ أيار 2008 [23]. وكان تقرير نشرته هآرتس Haaretz حول هذه الكتيبة أوضح أنه تمّ اختيار أفرادها بعناية فائقة، وأنهم تلقوا تدريباً خاصاً، وأن هذه الكتيبة ستكون ضمن خمس كتائب مكلفة بحفظ النظام في الضفة ومواجهة حماس.

وقال التقرير “إن كل المشاركين والمهتمين بهذه الفرقة سواء من السلطة أو الأمريكيين أو الأردنيين أو الإسرائيليين يعلمون أن الهدف الذي وضعوه واضح للجميع وهو محاربة حماس”، وأضاف التقرير أنهم في السلطة يتحدثون عن هذه الكتيبة بأنها “أبناء دايتون” [24].

ونشرت السلطة بموافقة إسرائيلية عناصرها الأمنية في مناطق جنين ونابلس والخليل وبيت لحم، ونجحت في تفكيك العديد من خلايا المقاومة، وفي إحباط عمليات تفجير ضدّ “إسرائيل”. وعلى الرغم من أن تركيزها كان على ضرب البنية التحتية المدنية والعسكرية لحماس، إلا أنها سعت إلى ضرب وتفكيك كل الأجنحة المسلحة لفصائل المقاومة، بما في ذلك كتائب شهداء الأقصى التابعة لفتح، وسرايا القدس التابعة للجهاد الإسلامي وغيرها [25].

وأفادت مصادر حماس في الضفة أن حماس تعرضت لألف وسبعة اعتداءات في الفترة 11/ يونيو/ حزيران إلى 31 أغسطس/ آب 2007 من عناصر الأجهزة الأمنية ومن عناصر فتح، وقد شملت 639 عملية اعتقال واختطاف، و36 عملية إطلاق نار، و175 اعتداء على مؤسسات وجمعيات، بما في ذلك دور قرآن، وجمعيات خيرية، ومؤسسات إعلامية ومكاتب صحفية، ومدارس ورياض أطفال، كما حدث 156 اعتداء على ممتلكات خاصة بأبناء حماس ومناصريها [26].

وأصدرت حماس في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2008 إحصائية بـ 616 معتقلاً سياسياً من أبنائها لدى السلطة، بينهم 94 طالباً جامعياً، و35 أسيراً محرراً، و15 إمام مسجد، و13 عضو مجلس بلدي أو قروي، وتسعة صحفيين. وقالت إن حالات الاعتقال السياسي لأفرادها في الضفة بلغت 2,921 حالة اعتقال، في الفترة من 10 يونيو/ حزيران 2007 وحتى 11 نوفمبر /تشرين الثاني 2008 [27]. كما أصدر المكتب الإعلامي لحركة حماس في آب/ أغسطس 2008 كتاباً بعنوان “الكتاب الأسود” من 369 صفحة، يتحدث عن مئات الممارسات والاعتداءات، التي تقول حماس إنها وتيارات المقاومة قد تعرضت لها من أجهزة السلطة في رام الله.

وقد أكدت مؤسسات حقوقية فلسطينية على وجود اعتقال سياسي في الضفة والقطاع، وقال شعوان جبارين، مدير مؤسسة الحق للدفاع عن حقوق الإنسان، ومقرها في رام الله أن عدد المعتقلين في الضفة هو نحو 270 معتقلاً، كما قال إن كل الأجهزة الأمنية تمارس التعذيب في كل مناطق الضفة، وأنه أصبح ظاهرة واسعة الانتشار. وقد رصدت الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق المواطن (التي أسسها ياسر عرفات) 28 شكوى من حالات تعذيب وسوء معاملة في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2008 فقط [28].

وبينما كان الجميع يتحدث عن معتقلي حماس لدى السلطة في رام الله، ويذكر أسماءهم وأعدادهم، ويطالب بتوفير مناخات مناسبة لبدء الحوار الفلسطيني، كان المالكي وزير الخارجية والإعلام في حكومة فياض، يصرح بأنه “لا يوجد لدينا أي معتقل سياسي” [29]، وهو ما أكده أيضاً محمود عباس [30].

السلطات الأمنية في الضفة الغربية تعاملت بشكل صارم مع المظاهرات والاحتجاجات التي حاولت الخروج تعبيراً عن غضبها على العدوان الإسرائيلي في قطاع غزة، وحصرتها في أطر ضيقة، ومنعتها من رفع شعارات مؤيدة لحماس (التي كانت تقود الحرب في القطاع)، كما منعتها من الاحتكاك بقوات الاحتلال الإسرائيلي. وقامت باعتقال العديد من النشطاء الذين شاركوا في المظاهرات من حماس والجبهة الشعبية والجبهة الديموقراطية وغيرها [31].

حماس اتهمت الأجهزة الأمنية في رام الله بأنها لم تتوقف للحظة في حملتها الإقصائية ضدّها، لا بل إن الحملة “تواصلت وازدادت” في أثناء الحرب على غزة [32].

وحتى بعد انتهاء الحرب مباشرة اتهمت حماس الأجهزة الأمنية في رام الله بتنفيذ حملة اعتقالات واسعة في حق أنصارها [33].

وقد لاحظ النائب الثاني لرئيس المجلس التشريعي حسن خريشة، قبيل انطلاق جلسات الحوار، أن الاعتقالات السياسية تزداد في الضفة الغربية، وأن المتحاورين من حركتي فتح وحماس ليسوا أصحاب قرار في هذه القضية، وأن من يقود عملية الاعتقال السياسي هي “حكومة فياض وأطراف أخرى” [34].

وقد كان ذلك مثار نقاش في سنة 2009، إذ تحدث عديدون عن أن حكومة فياض تقوم بإجراءاتها الأمنية بغطاء أمريكي، ولا تأبه كثيراً بفتح وعناصرها، وأن الكثير من رجال فتح يتمّ استبعادهم أو إحالتهم على التقاعد ما لم يتوافقوا مع الخط الأمني المطلوب.

غير أن آخرين كانوا يرون أن فتح كانت تتستر بفياض وحكومته، لتنفيذ المهام التي لا ترغب أن تُشَوّه صورتها الشعبية بسببها، وأن فتح توفر الغطاء لحكومة فياض وتشارك فيها بفعالية. ولو لم تكن فتح راضية عنها (ولو لمتطلبات المرحلة)، لما استمرت هذه الحكومة يوماً واحداً.

بينما كانت تنعقد جلسات المصالحة، قامت الأجهزة الأمنية في حزيران/ يونيو 2009 بحملة اعتقالات ضدّ أنصار حماس. وقد فسر مراقبون ذلك بأنه محاولة تقديم ورقة “اعتماد سياسي” لتأكيد الالتزام بمسار التسوية وخريطة الطريق؛ بينما هي من وجهة نظر حماس محاولة لاجتثاثها، وإفشال عملية المصالحة [35]. وبحسب حماس فإن أجهزة السلطة اعتقلت في حزيران/ يونيو 474 شخصاً من أنصارها، ونفذت 555 عملية دهم وتفتيش، واستدعت المئات للتحقيق [36]. وفي النصف الأول من كانون الأول/ ديسمبر 2009 (قبيل احتفالات حماس بذكرى انطلاقتها) قامت أجهزة السلطة باعتقال 550 من أنصار حماس [37].

نواب حماس في المجلس التشريعي اشتكوا من التضييق والملاحقة، وكان من مظاهر ذلك منع عزيز الدويك، رئيس المجلس التشريعي، من ممارسة عمله أو الذهاب إلى مكتبه، وربط ذلك بإنجاز عملية المصالحة [38].

سابعاً: التنسيق الأمني مع الاحتلال

نظر الإسرائيليون بإعجاب إلى نشاط الأجهزة الأمنية للسلطة، وأشاد تقرير لجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) Shabak، نُشر في أوائل سنة 2008، بجدية عمل هذه الأجهزة [39]. وتحدث العقيد يوآف مردخاي Yoav Mordechai، رئيس الإدارة المدنية بالضفة الغربية، عن طبيعة التنسيق مع السلطة قائلاً “إننا نخوض معركة حقيقية ضدّ تنظيم حركة حماس المدني والاجتماعي، ونعمل حالياً بكل طاقتنا وبقوة ضدّ كل مؤسسات حماس على اختلافها: المدنية والعسكرية في الضفة الغربية”؛ مؤكداً أن التنسيق هو تنسيق مباشر إسرائيلي – فلسطيني [40].

وقد أوضح يوفال ديسكين Yuval Diskin، رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلية، في اجتماع للحكومة الإسرائيلية أن “التعاون الأمني مع السلطة الفلسطينية في الضفة جيد جداً، خاصة في محاربة الإرهاب وإغلاق المؤسسات”. ولم ينفِ رياض المالكي ذلك، وأكد على أنه “لا يوجد سبب يمنع التعاون الأمني، والذي هو مهم جداً” على حد قوله [41].

وفي مطلع كانون الأول/ ديسمبر 2008، أظهر تقرير لوزارة الداخلية الإسرائلية، نشرته جريدة جيروزاليم بوست The Jerusalem Post مدى الرضا الإسرائيلي عن التعاون الأمني مع السلطة في رام الله. وجاء في التقرير “إن التنسيق الأمني لم يسبق له مثيل من خلال جهد صادق من جانب السلطة الفلسطينية”. وأشار إلى أن التنسيق وصل إلى مستويات عالية حيث انعقد 247 لقاء منذ بداية 2008 وحتى نشر التقرير بين ضباط إسرائيليين وفلسطينيين [42]

تواصل الدعم الأمريكي لأجهزة الأمن الفلسطيني في رام الله تمويلاً وتدريباً وتأهيلاً. وقررت أمريكا زيادة دعمها في سنة 2009 بنسبة تزيد عن 70% ليصل إلى 130 مليون دولار، بعد أن كان 75 مليون دولار سنة 2008. وتمّ تدريب أربع كتائب فلسطينية (نحو 1,600 رجل) في قاعدة في الأردن بإشراف ضباط أمريكيين وأردنيين وفلسطينيين، وفي إطار الإشراف العام لكيث دايتون، وانتشر الكثير منهم في مدن جنين ونابلس والخليل [43]. بينما كان يتمّ في سنة 2009 العمل على إعداد ست كتائب أخرى، يُتوقع تخريجها خلال سنتين، لتتكون بذلك فرقة من عشر كتائب. مع ملاحظة أن تفاصيل التدريبات وطبيعتها، تتمّ بالتنسيق مع الجيش الإسرائيلي والأردن [44].

ثامناً: العلاقة مع حكومة غزة

بعد سيطرة حماس على غزة، والقطيعة السياسية مع حكومة رام الله؛ قامت الدول الغربية، وكذلك “إسرائيل”، بفكّ الحصار عن حكومة رام الله، وبمواصلة الحصار على قطاع غزة. وقد سادت لدى أوساط الرئاسة الفلسطينية وحكومة سلام فياض، توقعات بأنه سيتمّ بناء تجربة متطورة ونامية في الضفة الغربية، تقابلها تجربة فاشلة وعاجزة عن حلّ مشكلات المعيشة في قطاع غزة، وأن ذلك سيؤدي إلى سقوط حماس في غزة.

تغلبت الرؤية التي تقول بأن على حكومة سلام فياض أن تواصل تحمل مسؤولياتها المالية تجاه القطاع، وأن تحصر عملها في حجب الأموال عن حركة حماس فقط. وذلك حتى لا تواجه حكومة فياض اتهامات بمشاركتها في الحصار والعقاب الجماعي لسكان القطاع، وبأنها تتلقى مساعدات مالية، ولكنها تحجبها عنهم، في الوقت الذي تؤكد أنها حكومة للشعب كله.

وفي الوقت نفسه، بادرت حكومة فياض، باتخاذ سلسلة من الإجراءات تخدم شعار تجفيف مصادر أموال حركة حماس ، إضافة إلى قرارات إدارية تعرقل إمكانية سيطرة حماس على الوضع في القطاع، ومن هذه الإجراءات:

استنكاف حكومة سلام فياض عن دفع رواتب الموظفين المستمرين في أعمالهم في غزة، وتمييزها بين موظف يتبع لحكومة رام الله وآخر يتبع لحكومة غزة [45].

إصدار قرار بإعفاء جميع سكان قطاع غزة من الضرائب والرسوم الحكومية، وبهدف منع الحكومة المُقالة من مصدر تمويل أساسي لها، ولأية حكومة أخرى [46].

إقرار قانون خاص لمنع غسل الأموال، وبهدف “تقليص قنوات حماس المالية” [47].

وقد أسفرت هذه الحرب الإدارية والمالية من قبل حكومة سلام فياض، كما أسفرت حرب الحصار من قبل “إسرائيل”، عن حالة اقتصادية صعبة في القطاع.

حكومة فياض تناغمت مع الرئيس عباس في شكل التعامل مع قطاع غزة وحكومة إسماعيل هنية المقالة فيها. وقال فياض إن إعادة سيطرة السلطة في رام الله على قطاع غزة هو “هدف رئيسي للسياسة، ونسعى إليه بشدة على الدوام”. ولذلك دعا فياض إلى نشر قوات أمن عربية بصورة مؤقتة في قطاع غزة من أجل المساعدة على توحيده مع الضفة [48]. وكان هذا يعني توريط البلاد العربية بشكل مباشر في الشأن الداخلي الفلسطيني، ولمصلحة طرف ضدّ آخر، وبعملية غير مضمونة النتائج، خصوصاً مع رفض حماس لهكذا تدخل. وكان رأي حماس أنه إذا كان ثمة حاجة لتدخل عربي فليذهب إلى الضفة حيث الاحتلال الإسرائيلي المباشر، وحيث إن حاجة الفلسطينيين الحقيقية هي لحمايتهم من العدوان الإسرائيلي، وليس من رجال المقاومة.

وقد دعت حكومة فياض لتكثيف الجهود لإنجاح الحوار الوطني وتشكيل حكومة انتقالية تمهيداً لانتخابات رئاسية وتشريعية [49]. واستعدت حكومة فياض لإدارة معابر قطاع غزة بما يكفل رفع الحصار، ولكنها رفضت وجود إدارة مشتركة مع حكومة هنية؛ وهو ما كانت حكومة هنية قد وافقت عليه [50].

استمرت حكومة فياض في إرسال تحويلات مالية لتغطية تكاليف رواتب عدد من قطاعات العمل كالتعليم والصحة، وتسديد مستحقات خدمات أساسية كالكهرباء والماء. وقالت الحكومة إنها تحول إلى قطاع غزة 120 مليون دولار شهرياً، وهو ما يساوي نصف موازنة السلطة [51].

غير ان التعليمات التي أصدرتها الرئاسة الفلسطينية وحكومة فياض بشأن موظفي السلطة في قطاع غزة أوجدت وضعاً شاذاً، إذ أمرت الموظفين بعدم الذهاب إلى العمل، باستثناء بعض الوزارات والمؤسسات التي تمس حياة المواطنين بصورة مباشرة، مثل وزارات الصحة والتعليم والمحافظات والجهاز المركزي للإحصاء. وقد أدى ذلك إلى أن السلطة في رام الله أخذت تدفع الرواتب لمن يجلس في بيته، وتوقف الرواتب عمن يذهب للعمل إلا ضمن الاستثناءات التي حددتها.

وحسب إحصائية للمجلس الاقتصادي الفلسطيني (بكدار)، الذي يتبع السلطة في رام الله، فإن عدد موظفي قطاع غزة يبلغ 78 ألفاً منهم 31,350 عسكرياً و45,650 مدنياً، وأن عدد الذين يذهبون إلى أعمالهم من بين هؤلاء هو 17,750 موظفاً بنسبة 22.7%، معظمهم في وزارة التربية (12,300 موظفاً)، ووزارة الصحة (5,000 موظف). وتمثل الأجور والرواتب المدفوعة للموظفين على رؤوس أعمالهم نسبة 14.2% من إجمالي الأجور والرواتب التي تدفع لموظفي السلطة في قطاع غزة، أي أن نحو 86% من إجمالي الرواتب التي تحولها السلطة في رام الله للجالسين في بيوتهم، ممن التزموا أو اضطروا للالتزام بقراراتها، وهو ما يساوي 386 مليون دولار يتمّ دفعها دون أي مردود إنتاجي أو خدماتي [52].

الأخبار وتقارير مؤسسات حقوق الإنسان أشارت إلى أنه يوجد كثير من الموظفين لم يسلموا من قطع رواتبهم على خلفيات سياسية، بما في ذلك الكثير من موظفي وزارتي الصحة والتعليم [53]. وحسب تقرير لمركز الميزان لحقوق الإنسان نشر في نيسان/ أبريل 2008، فقد قطعت رواتب 3,615 موظفاً، منهم 1,549 من وزارة الصحة، و693 من وزارة التربية [54].

أدت سياسة الرئاسة والحكومة في رام الله مع الوظائف العمومية إلى إضعاف قطاع العمل الحكومي في قطاع غزة، وإلى توظيفه سياسياً في عملية الصراع بين فتح وحماس، وإلى إيجاد بطالة مقنَّعة من نوع جديد. كما كشفت حالة التناقض والارتباك الفلسطيني في تعريف السلوك الوطني حين يصبح عمل الفلسطينيين في المؤسسات الإسرائيلية أمراً عادياً، والعمل في المؤسسات الفلسطينية التي تخدم المواطن الفلسطيني عملاً يعاقب عليه؛ بينما تتمّ مكافأة من يقاطعه ويجلس في بيته.

تبنت حكومة فياض موضوع التنسيق والإشراف المباشر على إعادة إعمار قطاع غزة، على اعتبار أنها السلطة الشرعية، ورفضت التعاون أو التنسيق المباشر مع حكومة هنية. وجهزت حكومة فياض خطة لإعادة الإعمار، قامت بتقديمها إلى مؤتمر المانحين في شرم الشيخ في 2/3/2009، حيث حصلت على تعهدات بنحو 4.5 مليارات دولار[55]. لكن استمرار الانقسام الفلسطيني، وانعدام التنسيق بين الحكومتين، وظروف استمرار الحصار، حرم أبناء غزة من معظم ما تمّ رصده للإعمار.

خاتمة

من الواضح أن بقاء حكومة فياض مشروط إلى حد كبير باستمرار حالة الانقسام الفلسطيني، وأن الرضا الإسرائيلي والأمريكي عنها مرتبط بمدى التزامها بسقف اتفاقيات أوسلو، وبالمستلزمات الأمنية لخريطة الطريق.

استطاع فياض تقوية وضعه في الضفة الغربية السنوات الثلاث الماضية من خلال رئاسته للحكومة وتحكّمه بالأموال التي تأتي من الدول المانحة. وكما عانت حماس من الملاحقات الأمنية وإغلاق المؤسسات وضرب بناها التنظيمية والمقاوِمة، فإن حركة فتح نفسها عانت أيضاً من إنهاء الخدمات والتقاعد المبكر لآلاف من عناصرها في الأجهزة الأمنية، ووزارات السلطة، فضلاً عن تفكيك وضرب كتائب شهداء الأقصى. كما عانت باقي الفلسطينية الفلسطينية من السياسات نفسها. واستطاع فياض ملأ الشواغر بعناصر أكثر ولاء وأكثر قرباً منه، وأكثر استعداداً للتعامل مع مسار التسوية.

وفرت سياسات فياض هدوءاً أمنياً، غير أنه كان هدوءاً مربوطاً بضرب مشروع المقاومة، أي المشروع البديل المقابل لمشروع التسوية، وبضرب أحد أهم عناصر قوة المجتمع الفلسطيني في وجه الاحتلال، وبالتالي كان هدوءاً يغري الاحتلال بمزيد من الاستمرار في احتلاله.

كما وفرت سياسات فياض تحسناً اقتصادياً نسبياً، غير أنه كان في جوهره مرتبطاً بتبرعات الدول المانحة ودعمها، دون أن يحقق عملية تنمية حقيقية، بينما ظلّ الاحتلال يمسك بخناق مصادر الإنتاج وعمليات الاستيراد والتصدير وتحويل الأموال، وتابع استخدامها كأدوات ابتزاز سياسي واقتصادي لتحقيق مكاسب جديدة.

إن حلّ مشكلة الشعب الفلسطيني تكمن في التخلص من الاحتلال، وليس في تحسين الأوضاع تحت الاحتلال. وإن المدخل الحقيقي لذلك هو تحقيق الوحدة الوطنية، وتقديم الأولويات الوطنية على ما سواها، وإعادة الحيوية للمؤسسات التشريعية والتنفيذية الفلسطينية، واستخدام كافة الإمكانات المذخورة للشعب الفلسطيني.


إحالات:

[1] جريدة الحياة، لندن، 15/6/2007.

[2] جريدة الشرق الأوسط، لندن، 14/7/2007.

[3] انظر: رويترز، 8/7/2007.

[4] مع تأكيدنا على وحدة الوطن ورفض الانقسام، فإنه من باب العلم فإن هناك 47 عضواً من أعضاء المجلس من أبناء الضفة الغربية من حماس و29 من فتح. أما رئيس الحكومة فياض نفسه فهو يمثل كتلة لا يزيد عدد ممثيلها في المجلس التشريعي عن عضوين اثنين (1.5%).

[5] جريدة السفير، بيروت، 30/8/2008.

[6] انظر: الشرق الأوسط، 27/5/2008؛ وجريدة القدس العربي، لندن؛ وجريدة الوطن، أبها (السعودية)، 28/5/2008.

[7] انظر: الحياة، 20/5/2009؛ والقدس العربي، 21/5/2009.

[8] القدس العربي، 9/7/2009.

[9] من تصريح لسلام فياض نشرته جريدة الحياة الجديدة، رام الله، 11/11/2008.

[10] الحياة، 21/5/2009.
[11] القدس العربي، 21/5/2009.

[12] الحياة، 23/6/2009.
[13] انظر: وكالة رويترز للأنباء، 24/8/2009؛ والحياة، 26/8/2009.

[14] انظر: الشرق الأوسط، 27/8/2009، و1/9/2009.

[15] الحياة، 20/6/2007.
[16] وكالة وفا، ووكالة معاً، 26/6/2007.

[17] رويترز، 22/6/2007؛ والحياة، 23/6/2007.

[18] المركز الفلسطيني للإعلام، 17/10/2007؛ والاتحاد، والشرق الأوسط، 19/10/2007؛ وانظر أيضاً: الشرق الأوسط، والخليج، 4/12/2007.
[19] الأيام، رام الله، نقلاً عن وكالة وفا، والخليج، 18/8/2007.

[20] الخليج، 23/4/2008.
[21] الدستور، 8/8/2008.
[22] الشرق الأوسط، 28/10/2008.

[23] القدس العربي، والبيان، 28/5/2008.
[24] جريدة فلسطين، 8/4/2008.
[25] انظر: القدس العربي، 8/1/2008، و28/10/2008؛ والدستور، 8 و24/10/2008؛ والشرق الأوسط، 28/10/2008.
[26] انظر حول إجراءات السلطة ضدّ حماس في الضفة الغربية: المكتب الإعلامي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، اعتداءات فتح والأجهزة الأمنية الفلسطينية بحق حركة “حماس” في الضفة المحتلة، المركز الفلسطيني للإعلام، 4/9/2007، وتقرير صادر عن حركة حماس، اعتداءات فتح والأجهزة الأمنية الفلسطينية بحقّ حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في الضفة المحتلة خلال شهر رمضان المبارك، 17/10/2007.

[27] موقع مركز البيان للإعلام، 13/11/2008

[28] رويترز، 4/12/2008؛ والقدس العربي، 5/12/2008.
[29] الخليج، 16/10/2008؛ وانظر أيضاً تصريح نمر حماد، الجزيرة.نت، 30/10/2008؛ وتصريح سعدي الكرنز، أمين عام مجلس الوزراء، القدس العربي، 2/8/2008.
[30] الشرق الأوسط، 8/11/2008.

[31] انظر مثلاً: الحياة، 3/1/2009؛ والشرق الأوسط، 8 و10/1/2009.
[32] تصريح رأفت ناصيف، فلسطين، 22/1/2009.

[33] تصريح رأفت ناصيف، الشرق الأوسط، 25/1/2009.
[34] فلسطين، 20/2/2009.
[35] انظر: القدس العربي، والحياة، 13/6/2009.
[36] فلسطين، 3/7/2009.
[37] انظر: فلسطين، 16 و17/12/2009.

[38] القدس العربي، 25/7/2009.
[39] الحياة، والقدس العربي، 8/1/2008.
[40] الدستور، 13/9/2008.
[41] أحمد بديري، ازدياد الاعتقالات من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة، هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، 19/10/2008، اضغط هنا
[42] وكالة معاً، 2/12/2008.
[43] انظر: الخليج، 6/3/2009؛ والقدس العربي، 7/7/2009.
[44]القدس العربي، 9/6/2009، و7/7/2009.
[45] انظر: القدس العربي، 3/7/2007.
[46]الشرق الأوسط، 28/6/2007.
[47] السفير، 27/10/2007.
[48] وكالة رويترز للأنباء، 7/7/2008، وجريدة الحياة، لندن، 2/8/2008.

[49] الحياة، 2/8/2008؛ والخليج، 8/8/2008؛ وجريدة النهار، بيروت، 10/8/2008.
[50] الخليج، 14/3/2008؛ وجريدة الغد، عمّان، 31/8/2008.
[51] الحياة، 21/5/2009.
[52] انظر حول دراسة المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار (بكدار) حول الوضع المالي في غزة.
[53] انظر تقرير أمد للإعلام، 18/6/2008.

[54] انظر: المرجع نفسه؛ وانظر الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، 7/4/2008
[55] الحياة، 2/3/2009.


المصدر: مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2010/11/14