بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
هل يمكن القيام بإصلاح حقيقي للسلطة الفلسطينية؟ أم أن الأمر لا يتعدى كونه “رقصاً على أنغام الاحتلال”؟ وهل يمكن تصنيف وتجزئة أشكال العملية الإصلاحية بحيث يتم تحقيق قدر من الإصلاحات الإدارية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية، مع إدراك أن الأمر يغدو أكثر صعوبة واستحالة إذا تعلق الأمر بإصلاحات سياسية أو أمنية؟ أم أن الأمر في النهاية لن يعدو كونه تحسيناً لوجه الاحتلال وإطالة لأمده، وانصرافاً عن الوجهة الأساسية التي نشأت على أساسها السلطة، وهي إنهاء الاحتلال، وليس مجرد تحسين الأوضاع تحت هيمنته؟!
إشكالية السلطة والإصلاح
تكمن إشكالية السلطة الفلسطينية في أنها بنيت على اتفاق أوسلو سنة 1993، وهو اتفاق فضلاً عن أنه تنازل عن فلسطين المحتلة سنة 1948، فإنه وقع في عثرات جوهرية أبرزها:
– تأجيل حلّ القضايا الأساسية كعودة اللاجئين والقدس والمستوطنات وسيادة الفلسطينيين على أرضهم والحدود النهائية للكيان الفلسطيني.
– لا توجد أي آلية ملزمة أو أي سقف نهائي ملزم لـ”إسرائيل” بالانسحاب من فلسطين المحتلة سنة 1967، أو بحل أي من القضايا الأساسية.
– أوقفت منظمة التحرير (والسلطة الفلسطينية) حقّ الشعب الفلسطيني في المقاومة ونبذت “الإرهاب”، وألزمت نفسها بحل مشاكلها مع “إسرائيل” بالطرق السلمية فقط.
– بُنيت على اتفاق أوسلو اتفاقيات وترتيبات أخرى سياسية واقتصادية وأمنية كرّست الهيمنة الإسرائيلية، ولم توفر أية أسس حقيقية باتجاه الاستقلال، كما لم توفر أية أسس لبيئة آمنة ومستقرة لتطوّر السلطة نفسها ومؤسساتها باتجاه الدولة.
– وفي الوقت نفسه، فإن “الوظائف القذرة” المرتبطة بقمع قوى المقاومة المسلحة، وبجمع الضرائب والخدمات البلدية والمعيشية وُضعت على ظهر السلطة، مع قدرة الطرف الإسرائيلي على معاقبتها إن قصّرت فيما يراه من التزامات.
وباختصار فإن الطريقة التي تشكلت من خلالها السلطة أخذت شكل “المصيدة”، أكثر من شكل المخرج أو الحل، وأخذت شكل لعبة “المتاهة” أكثر مما أخذت شكل المسار المنطقي الطبيعي باتجاه الاستقلال. ولم يكن غربياً على مفكر وكاتب كبير مثل إدوارد سعيد أن يعلق على اتفاق أوسلو بقوله إن أبا عمار قد “ورط شعبه بمصيدة لا مخرج منها”.
المشكلة إذن هي في “شروط اللعبة” التي يتحكم الطرف الإسرائيلي بمدخلاتها ومخرجاتها، أما الطرف الفلسطيني فعليه أن يتدبر أموره المعيشية وأوضاعه الاقتصادية وصادراته ووارداته وعلاقاته الخارجية من خلال النافذة الإسرائيلية. وأصبح الأمر أقرب إلى مجموعة من السجناء الذين أوكل إليهم السجّان إدارة أمورهم الحياتية، مع قدرته على جعل حياتهم أكثر بؤساً، إن لم يلتزموا بشروطه.
تفاقم المشكلة وضرورة الإصلاح
اعتبرت منظمة التحرير أن إنشاء السلطة الفلسطينية فرصة لإقامة الدولة الفلسطينية في الأرض المحتلة سنة 1967. وبدا ذلك منطقياً لدى المنظمة، التي فهمت أن قضايا الحل النهائي ستحسم في غضون خمس سنوات، في الوقت الذي ستتمكن فيه من إنشاء البنى التحتية للدولة، غير أن الأمور سارت بشكل يفسد حلم الدولة، كما يُعقِّد بشكل أكبر أية عملية إصلاح حقيقية محتملة، وكان من أبرز المعطيات:
1- أن الكيان الإسرائيلي هو الذي سارع في فرض الحقائق على الأرض، والتوسع في مشاريع الاستيطان والتهويد؛ مع تبني إستراتيجية تجعل من المفاوضات عملية لا نهائية. وعلى سبيل المثال، فقد تضاعف عدد المستوطنين اليهود في الضفة من 180 ألفاً سنة 1993 إلى نحو 540 ألفاً مطلع سنة 2010، وجرت وتجري عمليات حثيثة وواسعة لتهويد القدس وإلغاء وجهها العربي، في الوقت الذي بني فيه جدار الفصل العنصري، بكل ما يحمله من مصادرات للأراضي وتمزيق للبنى الاجتماعية والسكانية الفلسطينية وغيرها.
2- أن حركة فتح التي قادت المنظمة والسلطة ومسار التسوية وجدت نفسها لوحدها تقريباً في وجه معارضة فلسطينية واسعة من عشرة فصائل، أبرزها حماس. وأنشأت السلطة قبل أن تتم عملية حقيقية لترتيب البيت الداخلي الفلسطيني؛ فامتلأت أجهزة السلطة بأعضاء فتح وأنصارها، فضلاً عن المنتفعين والمتسلقين.
و”تورَّمت” وزارات السلطة مؤسساتها بعمليات تنفيع وشراء ولاءات، وفساد إداري ومالي، وظهور طبقة من البيروقراطيين الجدد والثوريين القدماء والـ V.I.P.S، استفادت من الوضع الجديد لتحسين أحوالها الخاصة؛ بينما وُضعت ضوابط سياسية وأمنية وإدارية لاستبعاد الكفاءات والطاقات المحسوبة على الفصائل المعارضة (وخصوصاً الإسلاميين) مهما كانت إمكاناتها.
3- حدث تضخّم و”تورّم” كبير في الأجهزة الأمنية الفلسطينية، ففضلاً عن أن قياداتها ومجنديها كان أغلبهم محسوبين على فصيل فلسطيني واحد هو فتح، فقد جرى تجنيد أعداد هائلة حتى أصبحت نسبتها هي الأعلى في العالم مقابل عدد السكان (رجل أمن لكل 84 شخصاً، مقابل رجل أمن لكل 3200 شخص في لندن مثلاً). غير أن المشكلة الأكبر كانت في الدور الذي كان عليها أن تلعبه راضية أو مرغمة، في تنفيذ استحقاقات اتفاق أوسلو في قمع المقاومة المسلحة ومطاردة العناصر المعارضة.
4- عانى الاقتصاد في مناطق السلطة الفلسطينية من مشاكل جوهرية وبنيوية، تكمن أساساً في بقاء الاحتلال وقدرته على فرض الحصارات والإغلاقات، وتدمير البنى التحتية، ومصادرة الأراضي واقتلاع المزروعات وإقامة الحواجز الثابتة والمتحركة، ومنع استيراد أو تصدير المنتجات، وحرمان المصانع من المواد الأولية أو من تصريف منتجاتها، وتدميرها إذا ارتأى المزاج الإسرائيلي ذلك؛ بالإضافة إلى السيطرة على حركة الأموال، وتنقُّل العمال والخبرات البشرية… وغيرها.
أما ميزانية السلطة فيأتي ما معدله 50-55% منها من الدول المانحة وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بينما فرضت الاتفاقيات أن تقوم “إسرائيل” بنفسها بتحصيل ضرائب الجمارك الفلسطينية ثم تقوم بتسليمها للسلطة بعد القيام بما يعرف بعملية “المقاصّة”، ويُشكّل هذا المصدر نحو 30-35% من ميزانية السلطة، أي أن أكثر من 80% من ميزانية السلطة يرتبط بالمزاج السياسي الإسرائيلي والغربي، الذي يفرض استحقاقات سياسية وأمنية صارمة على من يريد إدارة السلطة.
وتمكنت “إسرائيل” من إلحاق الاقتصاد الفلسطيني باقتصادها حيث يذهب أكثر من 85% من صادرات مناطق السلطة إلى “إسرائيل”، بينما يأتي نحو 70% من وارداتها من “إسرائيل”. ومن جهة أخرى، فإن السلطة نفسها عانت من فساد واسع في وزاراتها ومؤسساتها، وتكرست علاقة “زبائنية” بين السلطة والمواطنين قائمة على الولاء والواسطة.
وقد كُتب في ذلك الكثير، ولكن يكفي أن نشير مثلاً إلى أن تقرير لجنة المراقبة في المجلس التشريعي الفلسطيني (الذي كانت تقوده فتح) الصادر في مايو 1997 قال إن الفساد المالي قد طال 326 مليون دولار أميركي من أصل ميزانية السلطة التي لا تزيد على 1500 مليون دولار. وقد صوّت المجلس بحجب الثقة عن حكومة عرفات (56 صوتاً مقابل صوت واحد) بسبب ذلك.
وعندما أثيرت مسألة إصلاح السلطة سنة 2003، ولقيت دعماً أميركياً إسرائيلياً، فقد جرى التركيز على تقليص صلاحيات الرئيس عرفات بسبب دعمه للانتفاضة، واستحداث منصب رئيس الوزراء، كما تم التركيز على إصلاح الأجهزة الأمنية بحيث تكون في وضع يؤهلها لتنفيذ استحقاقات التسوية وضرب قوى المقاومة.
أما الإصلاح الاقتصادي فقد استهدف تحسين الأداء وتحقيق حدّ معقول من الخدمات، بعد أن تجاوز الفساد والترهل الحدود “المقبولة”، ولكنه لم يعالج أياً من المشاكل البنيوية المرتبطة أساساً بمشكلة الاحتلال.
حكومة سلام فياض والإصلاح
حصل سلام فياض على فرصة أكبر ليطبق رؤيته الإصلاحية، منذ توليه رئاسة الحكومة في رام الله في منتصف يونيو/ حزيران 2007 وحتى الآن. وبنى رؤيته على أساس التطبيق الصارم لخريطة الطريق واستحقاقات التسوية، وعلى رأسها الجوانب الأمنية، في سبيل الوصول إلى تعاون إسرائيلي، يُسهِّل الطريق نحو إقامة الدولة. وفي أغسطس/ آب 2009 كشف عن خطة حكومته لإقامة مؤسسات الدولة المستقلة خلال عامين. وتضمنت الخطة إقامة مشاريع سيادية مثل مطار وسكة حديد، وتأمين موارد الطاقة والمياه، وتحسين الإسكان والتعليم والزراعة، وتشجيع الاستثمار، وتحسين أداء الأجهزة الأمنية.
وردّ فياض على الاتهامات التي وجّهت إليه بأن خططته تتساوق مع “السلام الاقتصادي” الذي دعا إليه نتنياهو، ومع ما يسمى بـ”الرفاه تحت الاحتلال”، وبأن خطته متكاملة وتنموية وتهدف لإنهاء الاحتلال وليس لتكريسه. غير أن مشكلة فياض تمثلت في أنه يتعامل مع طرف إسرائيلي يطالبه بـ100% من الاستحقاقات دون أن يلتزم بشيء، وكان الإحباط واضحاً لدى قيادة السلطة وحكومتها من استمرار برامج التهويد والاستيطان، وانتشار مئات الحواجز، ومن القيود المفروضة على الصادرات والواردات وحركة المال وغيرها.
كما أُثقلت حكومة فياض بأثمان سياسية هائلة نتيجة مواجهتها ومطاردتها لحركة حماس وفصائل المقاومة، وعدم إتاحة المجال لعمل المجلس التشريعي، ثم إن بقاءها ظلّ مرهوناً بحالة الانقسام السياسي، وعدم التوافق على برنامج وطني فلسطيني موحّد.
حماس والإصلاح والتغيير
لم تكن حماس في السنوات الأولى من عمر السلطة مقتنعة بجدوى العمل التشريعي أو السياسي من خلال السلطة، ولذلك قاطعت انتخابات سنة 1996. غير أن حماس وجدت نفسها في وضع جديد مع انتهاء انتفاضة الأقصى ووفاة عرفات وانتخاب محمود عباس رئيساً للسلطة، وتوقيع اتفاق القاهرة الذي فتح المجال لإصلاح منظمة التحرير وإقامة انتخابات بلدية وتشريعية.
وشعرت حماس التي تصاعدت شعبيتها، أن الاستحقاق القادم هو استهداف تيار المقاومة وتهميشه، وأن دخولها في الانتخابات سيوفر منبراً مهماً لتعويق هذا الاستهداف وتصليب الموقف تجاه التسوية. كما قدّرت أن الدفاع عن مصالح المواطنين في مواجهة الفساد الإداري والمالي يصب في مجمل الأهداف المرحلية للحركة.
وعلى الرغم من أن المشاركة في الانتخابات لم تمثل حالة إجماع في صفوف حماس، إلا أنها شاركت تحت شعار “الإصلاح والتغيير”. وبعد الفوز الكبير الذي حققته، وقيادتها للحكومتين العاشرة والحادية عشرة، بدا لها كم هو صعب، أو مستحيل، تحقيق عملية إصلاح أو تغيير دونما دفع استحقاقات هائلة. وأن إدخالها العملية السياسية لم يستهدف إتاحة الفرصة لها للإصلاح بقدر ما أراد تطويعها تحت سقف اتفاق أوسلو. وأنها لا يمكن أن تقوم بإصلاح اقتصادي وإداري وأمني… ، قبل أن تدفع فاتورة سياسية (شروط الرباعية) تنزع نتيجتها جلدها وهويتها وأهدافها. وأنها عندما أرادت أن تُغيّر شروط اللعبة أوالخروج من تحت عباءة أوسلو، ووجهت بالحصار الخانق، وباعتقال ممثليها في المجلس التشريعي، وبتعطيل برامجها وأعمالها.
كان واضحاً من خلال تجربة السنوات الخمس الماضية (بعد فوز حماس في الانتخابات) أن من يرغب في الإصلاح تحت الاحتلال، فعليه أن يرقص على أنغامه؛ وأن عملية الإصلاح على الرغم من الهامش الضئيل لنجاحها، مقرونة باستحقاقات سياسية لا تستطيع قوى المقاومة دفع أثمانها.
ربما كان الأمر الذي نجحت فيه حماس هو انتزاع الشرعية الشعبية، بعد انتزاعها للشرعية الثورية في انتفاضة الأقصى، ونجحت في كشف أحد الوجوه الكالحة لاتفاق أوسلو، وتمكنت من إدارة قطاع غزة وفق شروطها، ودون دفع الاستحقاقات الإسرائيلية والغربية المطلوبة. ولكن حالة الحصار الحالي المفروض، وحالة الانقسام السياسي والجغرافي، والمعاناة الهائلة التي يشهدها التيار المؤيد للمقاومة في الضفة…، كلها تبدو أثماناً لم يكن حجمها واضحاً عندما خاضت حماس تجربتها وقادت حكومة السلطة.
وإذا كان ثمة مشروع مصالحة وطنية قريب المنال، فعلى حماس أن تجيب قبل غيرها عن برنامجها في ظل انتخابات تشريعية جديدة، وعن كيفية مواجهتها للاستحقاقات المتوقعة في حال فوزها أو خسارتها، وعن كيفية تنفيذها للإصلاح والتغيير الذي ترفع شعاره، خصوصاً في الضفة الغربية، حيث لا إصلاح ولا تغيير في هذه المرحلة إلا تحت سقف الاحتلال أو أوسلو. أم أن الأمر لا يتعدى تأكيد شرعيتها الشعبية؟
ما هو مهم أن يتم ترتيب البيت الفلسطيني، وتحديد أولوياته وفق مصالحه العليا، ويتم بناء على ذلك إعادة النظر في الدور الذي يجب أن تلعبه السلطة، هذا إن كان فيها ما يستحق الاستمرار!
أضف ردا