بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
ربما لم يُجمع الفلسطينيون في التاريخ الحديث والمعاصر على شخصية كما أجمعوا على الشيخ الشهيد عز الدين عبد القادر مصطفى القسام، الذي مرت يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي الذكرى الخامسة والسبعون لاستشهاده.
ومع أنه لم يكن فلسطينيا وفق أعراف الخرائط الجغرافية التي نتجت عن اتفاقيات سايكس بيكو والاحتلالين البريطاني والفرنسي للمنطقة، لأنه من أبناء جبلة قضاء اللاذقية في سوريا، إلا أنه كان شخصية إجماع وطني بين كافة التيارات الفلسطينية الإسلامية والقومية والوطنية وحتى اليسارية، لدرجة أنه أُطلق عليه لقب “أبو الوطنية”. كما سمّت حماس جناحها العسكري باسمه.
القسام الذي يعدّ أحد رواد مدرسة التجديد الإسلامي ورائد “الإسلام الحركي” في فلسطين، أخذ حظا وافرا من الدراسة بشأن ثورته واستشهاده، ولكن معظم الدراسات لا تتناول رؤاه الفكرية ولا التنظيم الجهادي الذي أنشأه، كما لا تتناول الدور الكبير لرفاقه القساميين في الثورة الكبرى في فلسطين في الفترة بين 1936 و1939. بينما حظيت المدارس الإسلامية الحركية لمعاصريه أمثال محمد رشيد رضا وحسن البنا وبن باديس وعمر المختار والمودودي.. وغيرهم، بما يليق بها من اهتمام.
ومن الأبحاث المحدودة التي حاولت إنصافه في هذا المجال دراسات سميح حمودة، وعبد الله شليفر، ورودلف بيترز.. وكذلك الدراسة التي تناوله بها كاتب هذه السطور في كتابه “التيار الإسلامي في فلسطين 1917-1948”.
لن تستطيع سطور هذا المقال، الذي نخطّه وفاء لهذا الشيخ الجليل، تغطية كل الجوانب ولكنها قد تضع بعض النقاط على الحروف.
أولى هذه النقاط مرتبطة بتكوينه الشخصي، فالقسام جمع إلى جانب قوة إيمانه فقها وفهما شاملاً للإسلام، وذكاء وقدرة على التنظيم، وشجاعة واستيعابا للواقع، وشخصية اجتماعية شعبية محبوبة، ورصيدا كبيراً في العمل الجهادي والدعوي. ولعل أقرب الدعاة إلى شخصه وفهمه كان الشيخ حسن البنا، وإن كان مشروع القسام تمحور حول العمل الجهادي المقاوم بسبب مواجهته المباشرة للمشروع الصهيوني في فلسطين.
الشيخ القسام الذي ولد سنة 1882، والذي درس في الأزهر وتعلم على يد الشيخ محمد عبده، كان سلفيّ العقيدة، محاربا للبدع والانحرافات والتقليد الأعمى. غير أنه استفاد من البيئة الصوفية التي نشأ فيها، ومن علاقته فيما بعد مع الشيخ الجزائري محمد بن عبد الملك العلمي، المقدّم للطريقة التيجانية، في إعداد نفسه وإخوانه إعداداً إيمانيا صلباً.
فهم القسام الإسلامَ دين عزة وكرامة وجهاد ودين عدالة ومساواة. وعاش مع الناس وهمومهم وجالسهم في المساجد والمقاهي والأفراح والمآتم والمضافات. عاش متواضعاً في مأكله وملبسه ومسكنه، وكان يملك شخصية نشطة مؤثرة لبقة جذابة وقوية الحجة. علّم الأطفال في الصباح، وفتح صفوف تعليم الكبار في المساء، وكان إذا خطب الجمعة أقفرت الشوارع، وتوافد الناس للاستماع إلى خطابه البارع حتى من القرى المجاورة.
وكان القسام نموذجاً للشجاعة والجرأة، وكان أكثر الشيوخ تطرقاً للجهاد، وكان يطلب من الناس جهراً شراء السلاح والتدرب عليه. خطب مرة على المنبر قائلاً “رأيت شبانا يحملون المكانس لكنس الشوارع، هؤلاء مدعوون لحمل البنادق، ورأيت شبانا يحملون الفرشاة لمسح أحذية الأجانب، هؤلاء مدعوون لحمل المسدسات لقتل هؤلاء الأجانب” (يقصد قوى الاحتلال البريطاني).
قدّم القسام من نفسه نموذجاً لما يدعو إليه، فمثلاً عندما أعلن الثورة على الفرنسيين في شمال غربي سوريا سنة 1918 باع بيته (وهو كلّ ما يملك) واشترى بثمنه 24 بندقية. وعندما أعلن الثورة على البريطانيين سنة 1935 باع بيته الوحيد في حيفا، كما باع أصحابه حليّ زوجاتهم وبعض أثاثهم، واشتروا بثمنها رصاصاً وبنادق.
والنقطة الثانية مرتبطة برؤيته ومنهجه في العمل، فقد تبنى القسام الإسلام بشموله منهجا للتحرك والعمل والتربية والتعبئة والجهاد، واعتبر الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني انتهاكا لدار الإسلام، بحيث أصبح الجهاد فرض عين على كلّ المسلمين. وأنه إذا نجحت حركته في طرد الاحتلال فسيكون “قانون دولتنا مصدره القرآن” بحسب تعبيره.
وفي التنظيم الذي أنشأه تبنى منهجاً للتربية والثقافة الإسلامية يركز على الجهاد ومعانيه المختلفة. والمجاهد في تصوره يجب أن تتكامل تربيته لأن الله اختاره، لقوله تعالى “وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم”. والجهاد الصحيح يتطلب الإحسان، والمجاهد الحقيقي يساعد الفقير ويطعم الجائع ويعين المريض ويزور الأقارب، ويداوم على الصلاة، ويحسن الصلة بالله.
وبرأي القسام فالروح الإيمانية مقدمة على القوة الجسدية في الجهاد، وموت الشهيد هو وقود لإشعال الجهاد وحفظ الإسلام. وقد تعلّم إخوان القسام كيف يتعاملون مع القرآن منهجَ حياة، واعتاد كلّ واحد منهم أن يحمل معه نسخة من القرآن، ليكون رفيقه وسلوته في حلّه وترحاله.
كان القسام يرى أن طاقات الأمة يجب أن تعبأ للجهاد ومقاومة الاحتلال، وكان يرى أن إعداد الشعب للجهاد مقدمٌ على تشييد المساجد والمباني وتزيينها، حتى لو كان ذلك المسجد الأقصى نفسه. قال القسام “يجب أن تتحول الجواهر والزينة في المساجد إلى أسلحة، فإذا خسرتم أرضكم، كيف ستنفعكم الزينة وهي على الجدران”. بل إن القسام دعا مرةً إلى تأجيل الحج وتحويل نفقاته إلى شراء الأسلحة، لأن الجهاد أولى من أداء فريضة الحج في هذه الظروف.
وقد رأى القسام أن الجهاد يجب أن يتركز ضدّ الاحتلال البريطاني الذي هو السبب الحقيقي للمشكلة، والذي يعطي الرعاية والحماية للمشروع الصهيوني. ولذلك أسهمت ثورته في إعادة توجيه بوصلة العمل الوطني، وتركيز الثورة الكبرى سنة 1936 ضدّ البريطانيين، بعد أن كان العداء يستهدف اليهود وحدهم.
والنقطة الثالثة مرتبطة بتنظيم القسام، إذ أسس القسام حركة جهادية تستمد فهمها من الإسلام وتتبنى منهجه في العمل وتتبنى الجهاد طريقا وحيداً لتحرير فلسطين. بنى القسام تنظيما سرياً حركيا جهادياً، سابقا الكثير من رواد العمل الإسلامي في مثل هذا الشكل من أشكال العمل، بل إن أميل الغوري (أحد قادة الحركة الوطنية الفلسطينية) اعتبر تنظيم القسام “أخطر منظمة سرية، وأعظم حركة فدائية عرفها تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، بل تاريخ الجهاد العربي الحديث”.
كانت بدايات تنظيم القسام الذي أطلق عليه “الجهادية” سنة 1925 واستمر عمله سرياً حتى إعلان القسام ثورته سنة 1935، وكان شعاره “هذا جهاد، نصر أو استشهاد”. وتمكن القسام من تجنيد نحو 200 منتظم ومعهم نحو 800 من الأنصار، وكان الأفراد الجدد يؤدون البيعة على خنجر أو مسدس موضوع بجانبه مصحف، واعتمد نظام الحلقات السرية المنفصلة عن بعضها تماماً، والتي يرأس كلّ منها نقيب. وانتشر تنظيمه خصوصاً في مناطق شمال فلسطين.
ومن أكثر ما يلفت النظر في تنظيم القسام سريّته العالية، وروح الاحتساب لله التي كانت سائدة بين الأفراد. ولم يتمكن البريطانيون من كشف منفذي العمليات القسامية في الكثير من الأحيان، بل إن جانباً من الظلم التاريخي بعدم إعطاء القساميين حقهم في تاريخ فلسطين الحديث، كان سببه أنهم كانوا يرفضون الحديث عن أعمالهم وجهادهم حتى بعد ثلاثين أو أربعين سنة من حرب 1948 ومن تفكك تنظيمهم، ويعتبرون ذلك جزءاً من بيعتهم وعهدهم مع الله.
ولولا أن بعضهم قرر الحديث في أواخر ستينيات القرن العشرين أمثال صبحي ياسين وأبو إبراهيم الكبير وإبراهيم الشيخ خليل.. لربما كنا ما نزال عاجزين عن معرفة هذه الصفحة المضيئة من تاريخ الجهاد في فلسطين. وقد اطلع كاتب هذه السطور في الأرشيف البريطاني على بعض الوثائق التي تكشف عجز المخابرات البريطانية عن معرفة منفذي عدد من العمليات القسامية حتى بعد سنوات من تنفيذها.
ومن جهة ثانية فقد تميز هذا التنظيم، الذي بدأ في مدينة حيفا، بتجنيده عناصر من كافة طبقات المجتمع، وخصوصاً الفلاحين والعمال والبدو. وكان لافتاً للنظر أن تضمّ قيادته الأولى التي تشكلت سنة 1928 أربعة أشخاص إلى جانب القسام، وهم العبد قاسم، ومحمود زعرورة، ومحمد الصالح، وأبو إبراهيم الكبير، وكلُّهم فلاحون. ثم اتسعت القيادة لتضمّ 12 عضوا وظلت تعمل حتى سنة 1948.
ومن جهة ثالثة فقد كان مما يثير الإعجاب أن العضو العامل في التنظيم كان يدفع اشتراكاً محدداً (عشرة قروش)، غير أنه كلما ارتقى في المسؤولية ازداد المبلغ الذي يدفعه، لدرجة أن العديد من رفاق القسام كانوا يتبرعون بكل دخلهم بعد سدِّ حاجاتهم اليومية. ولم تقبل حركة القسام إلا مالاً حلالاً، كما لم ترهن نفسها لأي جهة أجنبية.
وبحسب أحد القساميين (صبحي ياسين) فقد شكل القسام خمس وحدات متخصصة شملت: شراء الأسلحة، والتدريب، والتجسس، والدعاية للثورة، والاتصالات السياسية. وعند إعلان الثورة كان التنظيم يملك ألف قطعة من السلاح.
أما النقطة الرابعة فهي أن إعلان القسام للجهاد ضدّ الاحتلال البريطاني واستشهاده مع اثنين من رفاقه (يوسف الزيباوي ومحمد حنفي المصري) في معركة أحراش يعبد في 20/11/1935 قد كان علامة فارقة في التاريخ الفلسطيني الحديث.
فقد اهتزت فلسطين كلها لاستشهاده، وكانت جنازته يوماً مشهوداً في تاريخها. ولعلك تُذهل من تعليقات المؤرخين المعاصرين لاستشهاده أمثال محمد عزة دروزة، وأكرم زعيتر، وعمر أبو النصر… حتى إن عجاج نويهض قال إن فلسطين أيام استشهاد القسام “كانت تولد روحيا ولادة ثانية، صارت صورة القسام وحوارييه كأنها آية، نجوم سماوية تضيء لا فلسطين وحدها بل الرقعة العربية كلها. اكتسحت نفوس الناس موجة كلها عواصف وزعازع وزفير كزفير النار… النساء أصبحن يحملن الروح القسامية أشد من الرجال”!!.
القسام قدَّم نموذجا فريداً لمن أعلن الثورة وكان في مقدمة شهدائها. وكان القسام محقًا عندما قال قبل ابتداء المعركة إنه وإخوانه عبارة عن عود ثقاب سيشعل الثورة في البلاد، فاستشهاده لم يكن نهاية حركته بل بداية الثورة. ولعل الشهداء الثلاثة (القسام “السوري”، والزيباوي “الفلسطيني”، ومحمد حنفي “المصري”) قدموا رسالة بأن المعركة في فلسطين هي معركة عربية إسلامية غير محصورة في الدائرة الفلسطينية.
النقطة الخامسة والأخيرة التي نقف عندها هي أن العديد من المؤرخين يتوقفون بعد الحديث عن استشهاده، فلا يذكرون شيئاً عن تنظيمه وما قام به من أدوار مهمة في الثورة الكبرى في فلسطين، بل وفي حرب 1948.
والحقيقة أن تنظيم القسام “الجهادية” هو الذي فجر الثورة الكبرى في فلسطين عندما نفذ عملية في 15/4/1936 بقيادة خليفة القسام في قيادة التنظيم الشيخ فرحان السعدي، والتي أدت إلى مقتل اثنين من اليهود. كما أن تنظيم القسام نفسه هو الذي فجر المرحلة الثانية من هذه الثورة في 26/9/1937، عندما قام اثنان من أعضائه، هما الشيخ محمد أبو جعب والشيخ محمود ديراوي، باغتيال أندروز الحاكم البريطاني لمنطقة الجليل.
وخلال الثورة قاد القساميون مناطق شمال فلسطين، كما قادوا أجزاء من مناطق لواء نابلس. وهذه المناطق هي التي كانت أنشط المناطق الثائرة وجرت فيها أقوى العمليات.
وبرز من قيادات القساميين قائد الثورة في الشمال أبو إبراهيم الكبير، تساعده مجموعة قيادات ميدانية قسامية من أمثال محمد الصفوري، وسليمان عبد الجبار، وعبد الله الأصبح، وعبد الله الشاعر، وتوفيق الإبراهيم، ومحمود سالم وغيرهم.
وفي لواء نابلس قاد الثورة في منطقة جنين الغربية الشيخ عطية أحمد عوض، وخلفه بعد استشهاده الشيخ يوسف أبو درة، وفي جنين الشرقية قاد الثورة محمد الصالح الحمد، وخلفه بعد استشهاده عبد الفتاح محمد.. وكلهم قساميون. وفي دراسة قام بها كاتب هذه السطور لوثائق الثورة الكبرى في مرحلتها الثانية (1937-1939) تبيّن أن نحو ثلثي العمليات الجهادية تمت في مناطق النفوذ والعمل القسامي.
وشارك القساميون في حرب 1948 ضمن جيش الجهاد المقدس أو مع جيش الإنقاذ بحسب المناطق التي كانوا يقيمون فيها، دون أن تكون لديهم القدرة على القيادة العليا أو التوجيه، غير أن قادة أمثال أبو إبراهيم الكبير وأبو إبراهيم الصغير ومحمد الصفوري وسرور برهم، أبلوا بلاء حسنا في المناطق التي عملوا فيها.
هذه إضاءات سريعة على تجربة تستحق أن تكتب بأحرف من نور، ولعل هناك وقفات وعبرا أخرى كثيرة لم يكن من الممكن حشرها في هذا المقال، غير أننا نؤكد أن أرض فلسطين وشعبها زاخر بالعطاء والبطولات، وأن التيار الإسلامي المقاوم العامل لفلسطين كان موجودا منذ البداية وكان في المقدمة، ولم يكن طارئا ولم يأت متأخرا، ولكنه أصيل أصالة هذه الأمة.
المصدر: الجزيرة نت، 16/12/2010
أضف ردا