بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
من حق حركة فتح أن تفخر بأنها قادت المشروع الوطني الفلسطيني طوال أكثر من أربعين عاماً، وأنها سارت في مواجهة أمواج عاتية، وقدمت تضحيات جساماً حفاظاً على القرار الوطني المستقل، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وتحقيق حلم العودة والتحرير.
وعبر عقود خلت نجحت حركة فتح في التعبير إلى حدّ كبير عن هموم الإنسان الفلسطيني العادي غير المؤدلج (يسارياً أو قومياً أو إسلامياً…) والذي يقدّم الهمَّ الفلسطيني على ما سواه.
كما نجحت في أن تحافظ على شعبية حقيقية في الداخل والخارج، على الرغم من مشاكلها الداخلية التي أنهكتها. وتمتعت فتح بمرونة عالية مكنتها من استيعاب الكثير من تناقضات المشهد الفلسطيني، ومن التعامل مع الواقع العربي والدولي بحيث ظلت الطرف المقبول للتمثيل الفلسطيني.
فتح رصيد وطني وعربي وإسلامي ومن حقنا كأكاديميين أو مهمومين بالشأن الفلسطيني أن نشارك في تقييم تجربتها ونقدها. وأكتفي هنا بوقفتين.
ليست الرصاصة الأولى
في هذه الأيام تحتفل فتح بذكرى 46 عاماً على إطلاق رصاصتها الأولى (1/1/1965). وعلى الرغم من أن البيان الأول لانطلاقة ذراعها العسكري “العاصفة” وُزِّع ذلك اليوم، إلا أنَّ العملية نفسها لم تُنفَّذ وانطلقت الرصاصة متأخرة قليلاً.
تمتلئ أدبيات حركة فتح بأنها أطلقت الرصاصة الأولى في الثورة الفلسطينية، بحيث أصبح ذلك أقرب إلى الحقيقة غير القابلة للنقاش. ولكن هذه المقولة غير صحيحة، أو على الأقل تحتاج إلى “ضبط” في المصطلحات.
كان أول تنظيم عسكري فلسطيني سرِّي هو “جمعية الفدائية” التي نشأت أوائل سنة 1919 (قبل 38 عاماً من نشأة فتح سنة 1957)، بعد بضعة أشهر من استكمال الاحتلال البريطاني لفلسطين. وكان لهذه الجمعية فروع في يافا والقدس وغزة ونابلس وطولكرم والرملة والخليل.
وتولى زعامتها في البداية محمد الدباغ، ثم محمود عزيز الخالدي. وكان يوجهها في الخفاء الحاج أمين الحسيني والشيخ سعيد الخطيب والشيخ حسن أبو السعود والشيخ محمد يوسف العلمي؛ واستمرت الجمعية بأشكال مختلفة حتى سنة 1923.
وإذا أردنا أن نتحدث عن الرصاصة الأولى، فلعل ذلك كان في أول انتفاضة فلسطينية والمعروفة بثورة أو انتفاضة موسم النبي موسى في القدس في أبريل/نيسان 1920، وقبل إطلاق فتح رصاصتها الأولى بنحو 45 عاماً. وقد أدَّت هذه الانتفاضة التي استمرت أسبوعاً إلى مقتل خمسة يهود وجرح 211 آخرين وإلى استشهاد أربعة فلسطينيين وجرح 24 آخرين.
وقد تتابعت الثورات والرصاصات الفلسطينية في ثورات وانتفاضات يافا 1921، والبراق 1929، والكف الأخضر 1929-1930، وأحداث أكتوبر 1933، والثورة الفلسطينية 1936-1939… وغيرها.
وقد سبق فتح العديد من التنظيمات الفلسطينية المسلحة التي أطلقت رصاصاتها الأولى، فالشيخ عز الدين القسام الذي أنشأ تنظيم “الجهادية” أطلق رصاصته الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني 1935 بعد عدَّة سنوات على إنشاء حركته، وهناك حركة “الجهاد المقدس” التي قادها عبد القادر الحسيني والتي شاركت في الثورة الفلسطينية سنة 1936، وهناك الإخوان المسلمون الذين شاركوا في حرب 1948… وغيرهم.
قد يجادل إخواننا في فتح أن المقصود بالرصاصة الأولى هو الثورة الفلسطينية المعاصرة التي تلت كارثة 1948. وعلى الرغم من أن هذا المقصود غير واضح ممن نسمع منهم هذه المقولة، إلا أن الجدل يظلُّ قائماً، فمن أوائل التنظيمات الفلسطينية المسلَّحة التي قامت بعمليات فدائية بعد حرب 1948 التنظيم الخاص للإخوان المسلمين الفلسطينيين في قطاع غزة، والذي كان أبو جهاد خليل الوزير (أحد مؤسسي فتح والرجل الثاني فيها حتى استشهاده 1988) أحد أبرز أعضائه، وكان معه في عضوية هذا التنظيم ممن انتمى إلى فتح بعد ذلك محمد يوسف النجار وكمال عدوان ومعاذ عابد… وغيرهم. وقام هذا التنظيم بعمليات في الفترة 1953-1954.
وحتى إذا كان المقصود بالرصاصة الأولى فترة الستينيات، فقد كانت هناك تنظيمات فدائية قائمة، انشغلت بالعمل الفدائي أو التجهيز له، مثل فرع فلسطين في حركة القوميين العرب، الذي شكّل في مايو/آيار 1964 “الجبهة القومية لتحرير فلسطين” ومارس العمل الفدائي، وقدم أول شهدائه “خالد أبو عيشة” في 2/11/ 1964 قبل انطلاقة الجناح العسكري لفتح (العاصفة) بشهرين.
وللعلم، فبعد بضعة أشهر من انطلاقة العاصفة، أطلقت “جبهة تحرير فلسطين” عملها العسكري في منتصف 1965 بعد أن تمكنت من توفير ثلاث مجموعات مقاتلة وسقط أول شهيد لها “خالد الأمين” في هجوم على مستعمرة ديشوم في الجليل الأعلى.
ليست مناقشة مقولة “الرصاصة الأولى” مجرد جدل أو مماحكة، وإنما هو مرتبط بمعرفة الحقائق التاريخية من ناحية، وبالانتباه من ناحية ثانية إلى حالة التوظيف السياسي لهذه المقولة بشكل يلغي أو يقلل من دور الآخرين في ذلك الوقت أو قبله، ويحاول أن يعطي الشرعية لمن أطلق هذه الرصاصة للتحدث باسم الفلسطينيين وتمثيلهم أو لإسكات الخصوم والناقدين.
من جهة أخرى، فلن تخسر فتح كثيراً إذا لم يثبت تماماً أنها أطلقت الرصاصة الأولى، فما هو أهم من ذلك أن فتح عندما أطلقت رصاصتها استمرت دونما توقف، وعملت في أجواء عربية غير مواتية تتهمها بالعمالة أو بالشيوعية أو بالانتماء إلى الإخوان.
ثم إن فتح هي التي قادت معركة الكرامة في مارس/آذار 1968، كما نفذت نحو ألفي عملية مسلحة في الفترة 1968-1970 بحسب مصادرها. وحتى مطلع ثمانينيات القرن العشرين كانت إحصاءات مؤسسة الشؤون الاجتماعية ورعاية أسر الشهداء في منظمة التحرير الفلسطينية تشير إلى أن عدد شهداء فتح يبلغ 56% من مجموع شهداء الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وإلى أن نسبة الأسرى من فتح في الأرض المحتلة هي من 70% إلى 80% من مجموع الأسرى.
وعلى الرغم من دعم فتح مسار التسوية، إلا أنه كان لكتائب شهداء الأقصى التي تنتمي إلى فتح دور أساسي في انتفاضة الأقصى إلى جانب حماس وباقي الفصائل. وما زال لها نحو 3500 معتقل في سجون الاحتلال.
التسوية الأولى
التسوية السلمية الأولى التي وُقِّعت باسم الشعب الفلسطيني (اتفاقية أوسلو) وقعتها قيادة فتح، ووفرت حركة فتح التي تمسك بزمام منظمة التحرير، الغطاء السياسي والقانوني للتسوية، ومتطلبات التطبيق فلسطينياًَ على الأرض. وسواء اعترضت بعض قيادات فتح على اتفاقية أوسلو أم لا، فإن القوة الدافعة كانت فتحاوية.
هناك بون شاسع بين إطلاق الرصاصة لتحرير فلسطين من نهرها إلى بحرها، وشعار “وما بنتخلى عن حبة رملة، إن كنا بنحب اللد وبنحب الرملة”، وتثوير منظمة التحرير، وما بين اتفاقية أوسلو، والاعتراف بـ”إسرائيل”، والتنازل عن 78% من أرض فلسطين.
وهناك بون شاسع بين “ديمقراطية غابة البنادق” وكل البنادق باتجاه العدو، وتخوين الموافقين على القرار 242، والموقّعين على كامب ديفد، والمتصلين بالإسرائيليين، وبين ديمقراطية بشروط الرباعية وعلى إيقاعات دايتون، والتنسيق الأمني مع الإسرائيليين، ومطاردة عناصر المقاومة، والالتزام بالسلام ونبذ “الإرهاب والعنف”.
كما أن هناك بوناً شاسعاً بين رجال فتح الذين كانوا يلومون بعضهم في معسكر الهامة في سوريا إذا أريق كوب شاي باعتباره إسرافاً، وبين أولئك الذين أهدروا ويهدرون مئات الملايين في الفساد المالي والإداري المستشري، ليس بدءاً بموازنات السلطة ومشاريعها، وليس انتهاء بشحنات البترول والإسمنت والنوكيا.
لماذا السير في مسار التسوية، مع استمرار التغنّّي بالرصاصة الأولى؟ هل هي واقعية فتح وقيادتها؟ والتعامل الديناميكي مع الأحداث ومساراتها؟ وتحصيل ما يمكن تحصيله بعد أن خذل الآخرون شعب فلسطين وقضيتهم؟ أم إنها روح المسؤولية التي تضع فتح باعتبارها الحركة الرائدة القائدة أمام استحقاقات وقرارات صعبة لا يدركها إلا من يكون في مثل موضعها؟ أم إن القيادة كانت ترغب في البقاء في واجهة التمثيل الفلسطيني بأي ثمن؟ أم إنها كانت قابلة للانضغاط والسير في مسارات لا تؤدي في النهاية إلا إلى تجاوز الخطوط الحمر؟ ومن أعطى القيادة حق التنازل عن معظم فلسطين؟ أهو مجلس وطني غير منتخب؟ أم شعب لم تتم استشارته؟
حركة فتح بحاجة إلى مراجعة جادة للمسار الأيديولوجي والسياسي الذي نقل قيادتها من تحرير كل فلسطين، إلى الدولة الواحدة التي يعيش فيها اليهود (بمن فيهم الصهاينة المهاجرون والمستوطنون) والمسلمون والمسيحيون بمساواة تامة (سنة 1968)، إلى برنامج النقاط العشر بإقامة الدولة الفلسطينية على أي جزء يتم تحريره (سنة 1974)، إلى إعلان استقلال فلسطين وفق قرار التقسيم رقم 181 لسنة 1949 والاعتراف بقرار 242 الذي يتعامل مع قضية فلسطين كقضية لاجئين (سنة 1988)، إلى اتفاقيات الحكم الذاتي في أوسلو سنة 1993، دونما أفق محدد للدولة الفلسطينية، ودونما حل لكل القضايا النهائية من لاجئين وقدس ومستوطنات وحدود وسيادة… وغيرها.
اتفاقيات أوسلو كانت مصيدة أوقعت قيادةُ المنظمة الشعبَ الفلسطيني بها، وبحسب تعبير المفكر الفلسطيني المعروف إدوارد سعيد فإن “عرفات ورط شعبه بمصيدة لا مخرج منها”، وإنه ألقى بنفسه بين الإسرائيليين والأميركان، أما هشام شرابي فقد علق بأن القيادة الفلسطينية “لا تعرف كيف يؤخذ القرار، وكيف يتم تقرير المصير… وإنها تقريباً على مستوى درجة صفر بقدرتها على مجابهة الكفاءات الإسرائيلية والتعامل معها”.
وخلال نحو 17 عاماً من الاتفاقيات، تشكلت سلطة حكم ذاتي تاه مسارها نحو الدولة والاستقلال، وانشغلت بالاستحقاقات الأمنية المطلوبة منها في ضرب المقاومة وملاحقتها، ودخلت في مفاوضات عبثية لا نهائية، وأفسدتها المناصب والشكليات والفرص الفردية الصغيرة. وبينما نفض الإسرائيليون أيديهم كقوة احتلال وألقوا بالمسؤولية على السلطة، أخذوا يمارسون استعماراً “نظيفاً” من خلال الفلسطينيين.
واستشرى الاستيطان وعمليات التهويد ليزيد المستوطنون في الضفة من 180 ألفاً إلى 540 ألفاً، وأصبحت مدن الضفة وقراها جزراً معزولة في بحر المستوطنات الـ190، والنقاط الاستيطانية الـ220، والحواجز الـ600، والطرق الالتفافية، والجدار العازل، وأخذت القدس تفقد وجهها العربي والإسلامي في وجه حملات التهويد الشرسة. وهكذا، ظهر للكثير من القيادات الفتحاوية كم كان اتفاق أوسلو غطاء للتهويد وفرضاً للحقائق على الأرض.
لعل نجاح فتح في عقد مؤتمرها السادس في أغسطس/آب 2009 كان فرصة لإعادة ترتيب البيت الفتحاوي. ولسنا بصدد تقييم الشكل والظروف التي أقيم فيها المؤتمر ولا النتائج التي تمخض عنها. إلا أن فتح مطالبة بأن تجيب بكل جدية على الكثير من الأسئلة، ولعل من أبرزها:
-هل لدى فتح استعداد حقيقي لمراجعة مسار التسوية، والانتقال إلى إستراتيجيات أخرى؟
-هل لدى فتح الاستعداد الحقيقي لإعادة بناء منظمة التحرير، وتفعيل مؤسساتها بعد أن وضعتها في “موت سريري” منذ نحو عشرين عاماً؟
-هل لدى فتح الاستعداد الحقيقي للتداول السلمي للسلطة بكل ما يعنيه ذلك من استحقاقات؟
-ما هي قدرة فتح على محاسبة العناصر المتهمة بالفساد المالي والإداري والتنظيمي لديها، خصوصاً ممن يحتلون مناصب متقدمة؟
ومهما يكن من أمر، فإن الرصاصة الأولى لا تعطي الشرعية أبداً للتسوية الأولى. ولا ينبغي أن يكون ذلك حجة لمنع الآخرين من إطلاق الرصاص أو متابعة المقاومة. وإذا ملّ من أطلق الرصاصة أولاً، أو اختار طريقاً آخر، فلا ينبغي أن يجبر الآخرين على القعود معه.
لا ينكر إلا جاحد الدور التاريخي لحركة فتح، ولكن هناك من يسيء إلى فتح من داخلها، عندما يتجاوز الثوابت التي قامت عليها، ويمارس الفلتان الأمني، والفساد المالي، ثم لا يجد من يوقفه أو يصوبه.
أضف ردا