عقد مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات في مقره في بيروت حلقة نقاش حول التغيرات العربية وأثرها على الوضع الفلسطيني، وذلك يوم الخميس 10/3/2011، وقد ضمت الحلقة نخبة من المفكرين والمتخصصين في الشأنين العربي والفلسطيني، هم مدير عام مركز الزيتونة الدكتور محسن صالح، والنائب العميد وليد سكرية، والدكتور عبد الله عبد الله، والأستاذ أسامة حمدان، والعميد الدكتور أمين حطيط، والأستاذ أنيس النقاش، والدكتور حسين أبو النمل، والأستاذ حلمي موسى، والأستاذ سهيل الناطور، والأستاذ صقر أبو فخر، والأستاذ علي بركة، والدكتور محمد نور الدين، والأستاذ مروان عبد العال، والأستاذ وليد محمد علي.
وقد انقسمت الحلقة إلى جلستين، ركزت الأولى على عرض المعلومات وتحليل الوضع القائم، أما الجلسة الثانية فتناولت السيناريوهات المستقبلية لتأثيرات الأحداث على الصعيدين الفلسطيني والإسرائيلي.
عرض تحليلي للوقائع
استهل مدير عام مركز الزيتونة الدكتور محسن صالح الحلقة بالقول إن التغيرات التي تحصل لم تشهد شبيهاً لها من حيث الضخامة والتتابع في أكثر من دولة عربية منذ عشرات السنوات، مضيفاً أنها بعثت بارقة أمل كسرت حاجز الخوف في نفوس الشعوب، وهو ما سيفرض نفسه على الواقع السياسي، وعلى إدارة الدولة وعلى استعادة الإنسان لكرامته، وهذا عامل أساسي في تحريك الأحداث، وسيفرض نفسه على المستقبل، ويفترض في مثل هذه الأوضاع غير التقليدية أن يخرج الموضوع عن التفكير التقليدي وأن نكسر سقفنا المعتاد وإن كنا ما زلنا في وسط العاصفة، وما تزال حركة “أحجار الدومينو” لم تنته بشكل أو بآخر.
بدوره أكد النائب العميد وليد سكرية على أننا أمام جيل ثالث من الثورات العربية بعد ثورات الاستقلال وحركات التحرر، هو جيل ثورات الشعوب، ومن سماتها أنها ليست انقلابات عسكرية، وليست صنيعة أحزاب، بل إن الشعب انقلب على واقعه والأحزاب تبعته، غير أنه لفت إلى غياب مشروع سياسي بعيد المدى لهذه الثورات،
وأنها أمام تحدٍّ مفاده: ماذا تستطيع أن تحقق لشعوبها؟ مؤكداً أن هذه الثورات لن تستطيع تحقيق أهدافها إلا عن طريق الخروج من القطرية نحو انفتاح عربي وإقليمي بعيداً عن “إسرائيل”. ورأى أنه من المبكر أن نقرر ما إذا كانت هذه الثورات ستؤدي إلى تعاون عسكري لمواجهة إسرائيل، مؤكداً أن مصر لن تستطيع الانفكاك من كامب ديفيد، لأن الجيش المصري غير مهيأ لخوض حرب مع إسرائيل، ولأن إلغاء المعاهدة سيعني قيام إسرائيل بإعادة احتلال سيناء. وأشار إلى أن قدرة قوى المواجهة على الصمود ستساعد مصر على مواجهة إسرائيل في المستقبل.
وقال إنه لا حل فلسطينياً حالياً بوجود التعنت الإسرائيلي والتحولات العربية، حيث أن حل الدولتين نفسه قد سقط الآن. ورأى أن النظام الجديد في مصر لن يكون مثل نظام مبارك أداة أمريكية إسرائيلية لمحاربة قوى المقاومة في العالم العربي.
أما الدكتور عبد الله عبد الله، فقد دعا الفلسطينيين إلى “الاستفادة من التغيرات الحاصلة من أجل وضع حد للجدل السائد بيننا لأنه لم يكن جدلاً قائماً على تحليل سياسي، بل هو قائم على عصبيات”. وأضاف أن الفلسطينيين بحاجة إلى توحيد الجبهة الداخلية وتوحيد الخطاب والانطلاق نحو ذلك دون ذرائع أو مواربة.
بدوره قال الأستاذ أسامة حمدان إن التأثير الأمريكي سيتراجع في المنطقة لأن الشعوب غاضبة على تحالف الأنظمة مع الولايات المتحدة. ورأى أن ما حدث أسقط حل الدولتين مع اهتزاز محور الاعتدال، داعياً إلى استعادة الحل الأساسي وهو دولة فلسطينية من البحر إلى النهر، والبدء بحل الأمور الفلسطينية داخلياً من منظور آخر قائم على إعادة بناء منظمة التحرير على أساس المقاومة والتحرير والعودة. وأضاف أن “إسرائيل” لن تبقى في الوضع ذاته نتيجة تغير الفضاء الاستراتيجي، حيث إن “إسرائيل” ستعيش في مأزق بسبب قدرة الشعوب وإصرارها على المقاومة، مشدداً على أن سرعة ترتيب المشهد الفلسطيني تقصر عمر “إسرائيل”.
ثم تحدث الأستاذ مروان عبد العال فقال إن تداعيات الثورات القائمة حالياً ستكون تداعيات قيمية بالدرجة الأولى، داعياً إلى التركيز على الإصلاح على الصعيد الفلسطيني لأنه أهم من المصالحة، مؤكداً أن خطاب الصمود في غزة، والحديث عن وقف المفاوضات في الضفة لا يكفيان، لأن الشعب الفلسطيني يشعر أنه أهين وأنه خاضع للاستبداد. وأكد أنه يجب أن لا نكتفي بالاندهاش مما يحصل.
أما الأستاذ حلمي موسى فرأى أن “إسرائيل” تعيش اليوم واحدة من أهم فترات القلق، حيث إنها تتصور أن المنطقة العربية تتجه نحو الديموقراطية، وهي سوقت نفسها لفترة طويلة على أنها الديموقراطية الوحيدة في العالم، ومع سقوط النظام في مصر خسرت “إسرائيل” أمرين: الدعم المالي، لأن النظام المصري يدعمها بـ1.7 مليار دولار كانت تضخ للخزينة الإسرائيلية بسبب عملية السلام ونجاحها في تحييد مصر لمدة 25 عاماً والذي وفّر بدوره على إسرائيل ميزانيات عسكرية ضخمة. وأضاف: نحن اليوم لا نأمل بأن تلغي مصر كامب ديفيد، ولكن أن تحفظ كرامتها.
أما العميد أمين حطيط فرأى أن الثورات تتحرك بدافعين، الدافع الذاتي للشعب القطري، والدافع القومي الذي يحرك هذا الشعب. وأضاف أنه لم يعد يمكن للشعوب أن تتجاوز حال الفساد والأقصاء وكم الأفواه وقوانين الطوارئ. ومن ضمن الشعور بالظلم القومي تأتي القضية الفلسطينية التي ما زالت الأساس في الوعي الباطن.
وأضاف لقد سمعنا شعار “الشعب يريد إسقاط” ولكن لم نسمع بعد شعار “الشعب يريد بناء” ورأى أن هذا الشعار الأخير سيلقى محاولات إعاقة من المجتمع الغربي لأن فيه مقتل للغرب. وأضاف إذا ما طورنا هذه الثورات، فسوف تكون فلسطين هي التاج.
وعدّ موضوع الخجل بالإسلام في هذه الثورات مسألة خطيرة وأضاف أن الفلسطينيين محكومون اليوم بمسلك واحد ممكن، هو التوحد بضغط من الإرادة الشعبية تحت عنوان المقاومة لأنه لن يكون لهم بديل غيرها، وإن لم يسلكوا هذا السلوك تكون فلسطين قد ضاعت. ودعا إلى السعي نحو المقاومة وتحرير الأرض من البحر إلى النهر لأن الفرصة الآن هي الأفضل منذ 40 عاماً، خصوصاً وأن السلطة الفلسطينية خسرت الداعم العربي الرئيسي ودخلت في مرحلة انتقالية هي مرحلة انعدام الوزن، وهي مرحلة معطوفة على علامة استفهام كبيرة حول معاهدة كامب ديفيد، التي قال إن مصر لن تستطيع إلغاءها، ولكنها في الوقت نفسه لن تستطيع أن تطبقها بالطريقة التي طبقها بها حسني مبارك.
ثم تحدث الأستاذ صقر أبو فخر، معرباً عن خشيته من أن تعود قضية فلسطين شأناً مصرياً كما كانت في عهد مبارك، لأن الراجح أن هذا ما تريده “إسرائيل” لكي تضمن أمنها في الجنوب وتضمن استمرار تدفق الغاز المصري. ولذلك، فإن “إسرائيل” برأيه سوف تسعى إلى تقليص الأضرار الناجمة عن الثورة المصرية. ومن ناحية أخرى،
أشار أبو فخر إلى أن ورقة المصالحات انتهت، متسائلاً عن مدى قدرة الشعب الفلسطيني على ابتداع طريقه إلى المصالحة. وتوقّع من ناحية أخرى أن يكون النظام المصري الجديد أفضل مما سبق، وأن يميت عملية السلام بتحويل ورقة كامب ديفيد إلى سلام ميت، وأن يوقف ضخ الغاز لـ”إسرائيل” ويسقط ورقة الحصار.
من ناحيته قال الأستاذ سهيل الناطور إن الشباب الفلسطيني هو الأقدر على التغيير حالياً، وبالتالي فإن الدعوة السياسية لتغيير الواقع الفلسطيني بدأت تشتد أكثر من ذي قبل، مبدياً تخوفه من أن تقدم السلطتان الفلسطينيتان في غزة والضفة على تفتيت قوة الشباب الفلسطيني ومنعه من أن يصبح قوة جماهيرية.
ثم تحدث الدكتور محمد نور الدين فقال إن ما جرى في مصر سيكون له تأثير على فلسطين من زاوية العلاقات المصرية التركية، فتركيا كانت الحاضر الأكبر في الملف الفلسطيني، فكانت المنتقدة الأساسية للسياسات الإسرائيلية، وعلاقتها بحماس قوية، وقد حاولت كسسر الحصرا، وكانت سياساتها سبباً في انهيار علاقاتها مع تركيا؛ غير أنها كانت تصطدم بسد مصري بحجة أن السياسة التركية كانت تحرج مصر مع شعبها، وكون العلاقة مع حماس تهدد الأمن القومي المصري خصوصاً مع ارتباط حماس بالإخوان. وأضاف أن موقف أردوجان من الثورة يوضح أنه كانت هناك مصلحة تركية قومية وخارجية بأن يطاح بنظام مبارك.
وأضاف أن هناك انتقالاً في العلاقات التركية المصرية من حقبة الحساسيات إلى مرحلة التعاون، وهكذا نوع من التعاون الوطيد سيكون له انعكاسات إيجابية على الواقع الفلسطيني على الأقل لجهة فك الحصار عن غزة. وأيضاً محاولة الدفع قدماً بالمصالحة الفلسطينية الفلسطينية، ومحاولة إدخال حماس في المعادلة السلمية والضغط على واشنطن من أجل إطلاق عملية سلام مختلفة، من خلال الضغط على حماس من جهة، والحصول على تنازلات إسرائيلية في بعض النقاط، والانتقال إلى عملية تسوية سقفها الشرعية الدولية أكثر من السعي إلى استنهاض الشارع الفلسطيني وتعزيز المقاومة.
ثم تحدث الأستاذ علي بركة فقال: نحن أمام فرصة تاريخية ينبغي أن لا نضيعها وأن لا نخشى من التغيير الذي يحصل في المنطقة العربية، المنطقة العربية أمام مرحلة جديدة، بعد خروج مصر من الصراع بعد كامب ديفيد الآن مصر عادت وإن كان علينا أن ننتظر قليلا لحين ترتيب أوضاعهم الداخلية. وأضاف مطلوب أن يكون هناك انعكاس وتغيير على واقعنا وسلوكنا وأدواتنا في الصراع حتى نكون صادقين؛ ومطلوب أيضاً أن نستعد لهذا التغيير، بورش عمل، بمراجعة شاملة،
لأن ما حصل سيكون له تداعيات على الصراع العربية الصهيوني؛ لا بد من انعكاسه على ملف المصالحة وعلى ملف إعادة منظمة التحرير، وملف حصار غزة وملف المقاومة والسلطة وتبادل الأسرى، واللاجئين بشكل عام. ولفت إلى أن الثورة في مصر لم تتصالح مع نظام حسني مبارك، لذلك ليس بالضرورة أن يكون مصالحة بين نهج مقاومة ونهج فساد.
أما الأستاذ وليد محمد علي فقال إن ما يحدث الآن يهدد المصالح الأمريكية، موضحاً أن ما يحدث هو إعادة لسيطرة الشعوب على مقاليدها وعلى نفسها، وتساءل ما إذا كانت إرادات الشعوب يمكن أن تقبل اتفاقية كامب ديفيد والتعامل مع أمريكا، وإسقاط كرامتها الوطنية والإنسانية؟
أما الدكتور حسين أبو النمل فقال: كفلسطيني، وبعد حصيلة خمسين سنة في العمل السياسي، أقول إننا لم نكن نقرأ شيئاً إلا بعيون فلسطينية، وقد آن الأوان أن نقرأ التاريخ من مدخل سايكس بيكو، فالقاعدة التي تقول بأنه إذا كانت فلسطين بخير كل شيء بخير أتت بالاستبداد، القاعدة الآن يجب أن تصبح: حين يكون العرب والمسلمون بخير تكون فلسطين بخير.
السيناريوهات المستقبلية
وفي إطار الحديث عن السيناريوهات المستقبلية شدد الأستاذ أنيس النقاش على أنه يعارض بشدة أن ينتظر الفلسطينيون اتضاح الأوضاع في مصر وغيرها من الدول التي تحدث فيها التغييرات، داعياً الفلسطينيين وعموم المناضلين أن يدفعوا بالعملية النضالية كي يؤثروا على ما يمكن أن يؤول إليه الوضع في العالم العربي مستقبلاً.
من جهته قال الدكتور محسن صالح أن التغيرات الحاصلة إذا ما استمرت بالاتجاه الحالي فإنها ستهز المشروع الصهيوني،
إذ إنه قائم على فكرة أن “إسرائيل” لا يمكن أن تكون قوية إلا إذا كان ما حولها ضعيفاً ومتخلفاً.
وأضاف إن أمامنا شكلين من السيناريوهات، أحدهما إيجابي يستكمل عملية التغيير في المنطقة والآخر سلبي بأن تأخذ هذه التغييرات شكلها المؤقت الذي قد يتم امتصاصه وتغييره بحيث يعيد إنتاج أنظمة فاسدة، وهي نقطة يستخدمها الغرب حالياً خصوصاً وأن لديه قوى وأدوات لإحداث فتن في المنطقة.
وفيما يتعلق بالسيناريوهات المستقبلية، فقد رأى أن “إسرائيل” أمام واحد من أربعة سيناريوهات: أولها أن تتجه نحو حسم القضايا النهائية المرتبطة بعملية التسوية بمنطق القوة والأمر الواقع، أو أن تكون أكثر جبناً فتقدم تنازلات من أجل تحصيل المزيد من المكاسب،
أو أن تنغلق على ذاتها وتنفيذ تراجعات أحادية الجانب، أو أن تقوم بضربة استباقية سواء في غزة أو لبنان أو في البلدان التي تحدث فيها تغيرات من أجل إشغال الناس بنتائج الضربة، وكيّ وعي البلدان التي تحدث فيها تغيرات بأنها لا تستطيع تقديم مساعدة للمقاومة،
وقد تنتهج مزيجاً من جميع هذه السيناريوهات.
أما العميد أمين حطيط فرجّح أن تؤدي الثورات الأخيرة إلى تغييرات جدية في الشأن الداخلي للدول التي شهدت تلك الثورات، مع تلطيف لمواقفها الخارجية في الشأن الإقليمي، دون إحداث تغيير جذري.
بدوره وضع الدكتور محمد نور الدين ثلاثة سنياريوهات مستقبلية محتملة: أولها أن يتم الدفع بعملية التسوية قدماً في إطار حل شامل يحقق الأهداف الإسرائيلية مع تقديم بعض الفتات للسلطة الفلسطينية، وبالتالي تكون التسوية خطوة استباقية لتفريغ أي تحولات في هذه الثورات، وثانيها نقل مركز الثقل في الأحداث من الساحة الفلسطينية للعمق العربي من خلال تسعير الصراعات والفتن في الدول العربية وبالتالي تفريغ هذه الثورات من أهدافها النبيلة وإلهاء المجتمعات العربية بالصراعات الداخلية، وثالثها شن حرب كرسالة استباقية بأن “إسرائيل” ما تزال قوية، وبالتالي الإيحاء بأنه لا يمكن للعرب أن يستعيدوا خطاب المقاومة والمواجهة ضدها.
أما الأستاذ حلمي موسى فقد رأى أن تبلور السيناريوهات يعتمد أساساً على تداخل وتفاعل العوامل الدولية والإسرائيلية والمحلية مع بعضها البعض، وأن الأهم هنا هو التفاعل الفعال بين العاملين الإسرائيلي والدولي وكيفية صياغة سياستهما تجاه ما يحدث في المنطقة، لأن العامل العربي سيكون مشغولاً خلال عقد من الزمان بإعادة بناء نفسه، مستبعداً حدوث أي تحول سريع في المنطقة.
أما الأستاذ أسامة حمدان فرأى أن السيناريوهات المستقبلية محكومة بأربعة عوامل هي: أولاً مدى نجاح الثورات وبنائها لعقد اجتماعي جديد في إطار رؤية ذات بعد قومي عربي. وثانياً ردة الفعل الإسرائيلية، متوقعاً أن تحاول “إسرائيل” ضرب مصر في قضيتين أساسيتين: موضوع المياه والقمح. وثالثاً الوضع الدولي الذي ما زال ينظر إلى المنطقة على أنها منطقة استعمار وبالتالي سيحاول كبح جماح الثورات بكل طريقة ممكنة. وأخيراً الوضع الذاتي الفلسطيني الذي لا علاج له إلا بمشروع وطني فلسطيني جديد. ودعا في نهاية كلامه إلى التريث باستنتاج شكل السيناريوهات القادمة دون أن يعني ذلك التريث بالعمل، لأن العمل بحد ذاته سيسهم في بلورة السيناريوهات القادمة. داعياً الفلسطينيين إلى عدم الوقوف موقف المنتظر، بل إلى المبادرة لبلورة مشروع وطني فلسطيني اسمه التحرير والعودة.
أضف ردا