بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
يقوم المشروع الصهيوني على أساس معادلة جوهرها أن شرط بقائه هو ضعف ما حوله. وبعبارة أخرى فإن شرط صعود المشروع النهضوي العربي الإسلامي هو إنهاء المشروع الصهيوني، الذي يجثم كالسرطان في قلب الأمة العربية والإسلامية.
جوهر المعادلة الصهيونية:
ولذلك، فإن المشروع الصهيوني يلتقي مع المشروع الإمبريالي الغربي في إبقاء المنطقة المحيطة به ضعيفة أولاً، ومفككة ومنقسمة ثانياً، ومتخلفة مادياً معنوياً وحضارياً ثالثاً؛ وهو ما سيؤدي من جهة رابعة إلى إبقاء المنطقة تحت الهيمنة الأجنبية، ومصدراً للمواد الخام وسوقاً للمنتجات الغربية.
وبالفعل، فمنذ أكثر من ستين عاماً والمنطقة العربية المحيطة بفلسطين المحتلة تعاني من عوامل التخلف والانقسام والضعف. ولذلك، فإن التغيرات الحاصلة في المنطقة، إذا ما استمرت في الاتجاه الصحيح، فإنها قد تُشكِّل اختراقاً في معادلة الصراع، قد يتطور ليمسَّ جوهر المشروع الصهيوني.
المشروع الصهيوني قام واستمر على أساس الاختلال الهائل في موازين القوى مع الفلسطينيين والأنظمة العربية. وفرضت غطرسة القوة الإسرائيلية والأميركية حالة الهدوء في الجبهات العربية، وتحوُّل الأنظمة العربية نحو مسار التسوية السلمية؛ ولم يكن ذلك نتيجة قناعات شعوب المنطقة (المحكومة بأنظمة دكتاتورية فاسدة) بجدوى التسوية أو بما يعرف “بحق إسرائيل في الوجود”.
ولذلك، فإن تحرر الشعوب من أنظمتها العاجزة المستبدة، وقيام أنظمة تعبر عن كرامة الأمة وحريتها وعزتها، سيؤدي إلى نظرة مختلفة في إدارة الصراع مع الكيان الصهيوني، لا تقوم على قاعدة الأنانية القـُطرية أو التبعية الغربية، وإنما على قاعدة نهضوية ترفض الدنية في دينها ودنياها، ولا تقبل بأقل من تحرير الأرض والإنسان واستعادة كافة الحقوق المغتصبة.
مخاطر إستراتيجية تواجه إسرائيل:
منذ سنوات تحدث الخبراء والإستراتيجيون الصهاينة عن ثلاثة مخاطر إستراتيجية تواجه الكيان الإسرائيلي:
1- تصاعد القوى والتيارات الإسلامية “المتطرفة” في داخل فلسطين المحتلة. وما قد ينتج عنه من نمو قوى المقاومة في “حِجر فرعون”، وتوليها القيادة الفلسطينية، وتعطّل مسار التسوية، وعدم قدرة “إسرائيل” على فرض شروطها على الفلسطينيين.
2- ضعف وفساد الأنظمة العربية في المنطقة مع تصاعد القوى والتيارات “المتطرفة”، التي قد تحل محلَّ هذه الأنظمة، مما يشكل بيئة محيطة معادية لـ”إسرائيل”.
3- التنامي السكاني الفلسطيني في فلسطين المحتلة، مع نضوب الهجرة اليهودية، بحيث سيتجاوز عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية عدد اليهود في بضع سنين (حوالي سنة 2015).
ما زلنا في وسط موجة الثورات العربية، وما زلنا في وسط عاصفة لم تكتمل معالمها. فإذا ما أخذت التغيرات شكلها الإيجابي وتم استكمالها لإنتاج أنظمة سياسية جديدة قادرة على التعبير عن إرادة شعوبها؛ فإن الخطر الإستراتيجي الذي تحدث عنه الإسرائيليون سيصبح أمراً محققاً.
أما إذا اتخذت التغيرات شكلاً مؤقتاً يجري امتصاصه واستيعابه وإعادة توجيهه، بحيث يعيد إنتاج أنظمة فاسدة مستبدة، فإن الكيان الإسرائيلي قد ينجو من هذه الموجة؛ ربما بانتظار موجة أخرى تتعلم من سابقتها كيفية فرض إرادة الشعوب.
انعكاسات المشهد العربي:
المشهد العربي إذا ما استكمل عملية تغييره الإيجابية، خصوصاً في المنطقة المحيطة بفلسطين المحتلة، فسيفتح المجال أمام التغييرات التالية التي ستتعلق بشكل مباشر وغير مباشر بالكيان الإسرائيلي:
1- تشكيل فضاء إستراتيجي رسمي وشعبي أكثر تأييداً للمقاومة، وأكثر عداءً للكيان الإسرائيلي.
2- تفعيل البُعد العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية.
3- انفتاح الباب أمام قيام مشروع عربي إسلامي نهضوي، قد يقلب معادلة الصراع وموازين القوى مع الكيان الإسرائيلي على المدى المتوسط والبعيد.
4- إضعاف الهيمنة الأميركية والغربية على أنظمة المنطقة، وإنهاء حالة التبعية، وصناعة الأنظمة لقرارها المستقل، وفق مصالحها وأولوياتها دونما إملاءات خارجية.
5- صناعة “إنسان” جديد في المنطقة، يملك القوة والإرادة والحرية والكرامة، ويكسر حاجز الخوف، ولا يقود عملية التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري فقط، وإنما لا يرضى لأرضه ومقدساته أن تبقى تحت الاحتلال، ولا يعطي الدنية في دينه ودنياه.
6- تراجع مشروع التسوية السلمية مع الأنظمة العربية، وإلغاء أو تجميد أو تعطيل اتفاقيتيْ كامب ديفد ووادي عربة؛ وكذلك تراجع وتعطُّل عملية التطبيع بين الأنظمة العربية و”إسرائيل”.
7- استغلال أمثل لمقدرات وثروات الأمة، مما قد يتيح فرص تحقيق تكافؤ أو تفوّق مستقبلي في مواجهة الكيان الإسرائيلي.
المشهد الإسرائيلي:
المشهد الإسرائيلي يُظهر الكثير من الارتباك والقلق في الأوساط السياسية الإسرائيلية، إذ إن “إسرائيل” القائمة على أساس فرضية منطقة محيطة ضعيفة مفككة متخلفة، ترى كابوساً حقيقياً في تحول المنطقة إلى حالة قوية متماسكة متقدمة.
فشل الإسرائيليون في تقديم مشروع تسوية يمكن أن يوافق عليه العرب، حتى وهم في أضعف وأسوأ حالاتهم، وتعمّد الإسرائيليون أسلوب إدارة الصراع وليس حلّ الصراع. وأغراهم الضعف العربي بمزيد من العنجهية وإجراءات التهويد وبناء الحقائق على الأرض.
غير أن تبدُّل الأوضاع قد يُظهر أن الإسرائيليين قد خسروا “فرصتهم الذهبية”، بعد أن فقدت عملية التسوية معناها كما فقدت “زبائنها”. ليس هذا فحسب، وإنما سيزيد الأمر تعقيداً بالنسبة للإسرائيليين أن مجتمعهم الصهيوني في فلسطين المحتلة يزداد ميولاً نحو الاتجاهات الدينية واليمينية، كما أن الإسرائيليين يفتقدون رؤية موحدة لكيفية حلّ الصراع مع الفلسطينيين والعرب.
هذا فضلاً عن أن غرور القوة العسكرية ما زال يسهم في إفساد الحسابات السياسية الحالية والمستقبلية للإسرائيليين.
السلوك الإسرائيلي المحتمل:
1- من المرجح أن يميل السلوك الإسرائيلي إلى مزيد من الانغلاق والانعزال؛ ذلك أن الكيان الإسرائيلي يعيش في جوهره أزمة الخوف على الذات والخوف من المستقبل، كما يعيش أزمة اللامشروعية واللاقبول في المحيط الذي أوجد نفسه فيه. ولعل التغيرات ستزيد من هذه المخاوف، مما قد يدفعه إلى التمسك أكثر بإحدى مواصفاته القديمة الجديدة وهي “العقلية الغيتوية”.
2- لا يظهر أن التغيرات الحالية ستدفع الإسرائيليين إلى تقديم تنازلات حقيقية مرتبطة بمشروع التسوية، كالموافقة على المبادرة العربية أو ما شابه؛ وإن كان من الممكن أن تتحدث عن بعض العروض الشكلية، التي تَعرف مسبقاً أنها مرفوضة فلسطينياً وعربياً، كما ستحاول استغلال الأوضاع للتحدث عن حرصها على “السلام” في الوقت الذي يزداد فيه العرب “تطرفاً”.
3- ستسعى “إسرائيل” للاعتماد بشكل أكبر على القوة العسكرية، وستتهيأ لاحتمالات المواجهة مع أيٍّ من بلدان الطوق، وخصوصاً مصر. فمع سقوط حسني مبارك قامت الحكومة الإسرائيلية بزيادة ميزانيتها الأمنية العسكرية بنحو 700 مليون دولار. وتحدث وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك -يوم 8/3/2011 في مقابلة مع صحيفة وول ستريت جورنال- عن أن “إسرائيل” قد تطلب مساعدة عسكرية أميركية إضافية بقيمة عشرين مليار دولار.
4- ستسعى “إسرائيل” إلى إعادة تأكيد دورها الوظيفي بالنسبة لأميركا والعالم الغربي، باعتبارها حليفاً إستراتيجياً مستقراً يمكن الوثوق به ويمكن الاعتماد عليه في هذه المنطقة. وهو ما ذكره باراك في مقابلته المشار إليها أعلاه مع وول ستريت جورنال، عندما أكّد أن “إسرائيل قوية ومسؤولة ستكون عنصر استقرار في هذه المنطقة المضطربة”!!.
5- ستسعى “إسرائيل” إلى الحفاظ على رصيدها العالمي الذي يتآكل مع الزمن حتى في أوروبا وأميركا. كما ستسعى لإيجاد حلفاء جدد كاليونان وبلغاريا ومقدونيا وأوكرانيا، فضلاً عن الهند والصين.
6- ستحاول “إسرائيل” وحلفاؤها استغلال حالة الاضطراب وعدم الاستقرار الناشئة عن الثورات والاحتكاكات والصدامات بين الشعوب وأنظمتها، ثم تلك الاختلافات والاختلالات الناشئة عن تعدد اجتهادات مكونات الثورة وعناصرها، لحرف مسارات التغيير عن وجهتها الحقيقية.
ولعل من أخطر الجوانب السعي لإثارة العداوات والنعرات العرقية والطائفية، بشكل يؤدي إلى مزيد من التفتيت والانقسام في المنطقة العربية. وهي توجهات لم تعد سرا في العديد من الأوساط.
وكان برنارد لويس (وهو مفكر يهودي صهيوني أميركي، وأحد أشهر المستشرقين في العالم) قد نشر مقالاً في مجلة تصدرها وزارة الدفاع الأميركية Executive Intelligence Research Project في يونيو/حزيران 2003، اقترح فيه إعادة تقسيم المنطقة بتقسيم العراق إلى ثلاث دول (كردية، وسنية، وشيعية)، وسوريا إلى ثلاث دول (علوية، ودرزية، وسنية)، والأردن إلى دولتين إحداهما للفلسطينيين والثانية لمن أسماهم البدو، ولبنان إلى خمس دويلات (مسيحية، وشيعية، وسنية، ودرزية، وعلوية)، والسعودية لعدة دويلات، كما كان الوضع قبل أن يوحدها الملك عبد العزيز بن سعود، ومصر إلى دولتين (إسلامية، وقبطية)، والسودان إلى دولتين جنوبية زنجية وشمالية عربية، وموريتانيا إلى دولتين عربية وزنجية، كما اقترح إنشاء دولة خاصة بالبربر، واقترح تقسيم إيران إلى أربع دول.
وقد علّق برنارد لويس بقوله إن ذلك سيخدم الإسرائيليين، لأن تلك الدول والكيانات لن تكون فقط غير قادرة على ألا تتحد، ولكن سوف تشلُّها الخلافات التي لا تنتهي…، ولأنها ستكون أضعف من “إسرائيل”، فإن هذا سيضمن تفوّق “إسرائيل” لمدة خمسين سنة قادمة على الأقل.
ويظهر أن المحلل الإسرائيلي المعروف ألوف بن تابع فكرة برنارد لويس، وكتب في جريدة هآرتس في 25/3/2011 أن الثورات العربية ستعيد صياغة المنطقة، وأن الوضع يبشر بنهاية الحدود والترتيبات الناشئة عن اتفاقية سايكس/بيكو، على اعتبار أن سايكس/بيكو لم تمزق المشرق العربي بما فيه الكفاية، وأن السنوات المقبلة ستشهد دولاً جديدة.
وتوقع ألوف بن انفصال إمارات الخليج عن اتحاد دولة الإمارات، وتقسيم السعودية، وسوريا، وليبيا، والسودان، واليمن، وظهور كردستان، وانفصال الصحراء الغربية. وأكد أن هذا الانقسام سيُسهل الأمر على “إسرائيل”.
إن المطلوب من شباب الثورة وحكمائها، ومن كل من تعنيهم عملية الإصلاح والتغيير، أن يتنبهوا وأن يكونوا على حذر من أي دعاوى عنصرية أو طائفية أو قبلية، وأن يفوتوا الفرصة على أولئك الذين يحاولون النفخ في نار الفتنة، كما أن عليهم أن يضعوا على أيدي قصيري النظر والمتهورين (بغض النظر عن حماسهم وإخلاصهم)، ممن يمكن أن ينجرّ إلى وسائل وأساليب تؤدي لتأجيج المشاعر العنصرية والمذهبية وإلى تمزيق نسيج المجتمع الواحد.
وبشكل عام، فلن تقف “إسرائيل” مكتوفة الأيدي وهي ترى تحولات إستراتيجية كبرى في المنطقة المحيطة بها؛ ولن تتوقف عن محاولة البقاء كقوة كبرى في المنطقة، وعن السعي إلى أن تظل هي من يفرض شروط اللعبة، وأن تبقى في مأمن من أي مخاطر محتملة.
لكن “إسرائيل” تعرف في قرارة نفسها أنها تسير عكس حركة التاريخ، وألا ضمان لقوتها إلى ما لا نهاية، كما لا ضمان لضعف المنطقة إلى ما لا نهاية، وأن الظلم والاحتلال لا بد أن تكون له نهاية.
أضف ردا