بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
فرضت الثورات والتغيرات التي يشهدها العالم العربي واقعًا جديدًا، أخذ يقلب الحسابات الإقليمية، وينعكس على الأوضاع الدولية. ووجد الكيان الإسرائيلي نفسه في وسط عاصفة لم يعتدها، وفي بيئة إقليمية، يجري تشكيلها، لم تكن في حساباته. وهي بيئة تنعكس بشكل مباشر على الملف الفلسطيني، بل على مستقبل الوجود الصهيوني في فلسطين.
رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق وزير الدفاع الحالي إيهود باراك قال إن “إسرائيل تواجه تسونامي سياسي”. وعندما قال رئيس الوزراء الحالي نتنياهو إن “إسرائيل” هي “واحة الاستقرار في بحر هائج” علَّق عليه رئيس الكيان الإسرائيلي نفسه شمعون بيريز قائلاً “إنها حتى لو كانت كذلك، فإنه يُفضًّل أن يهدأ البحر، لأن البحر هو الذي يؤثر على الواحة، وليس العكس”!! أما شاؤول موفاز رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكنيست، فرأى أن ما حدث في مصر وتونس هو “إنذار إستراتيجي لإسرائيل”، بينما وصف الوزير موشيه يعلون ما يحدث بأنه “زلزال تاريخي”.
المتابع للشؤون الإسرائيلية يلاحظ حالة القلق والارتباك التي تسود الأوساط السياسية والأمنية. ولعل المحللة الإسرائيلية أمونة آلون قدًّمت وصفًا مُعبرًا عندما قالت “إن العالم العربي ينقلب رأسًا على عقب، وهكذا إسرائيل أيضا، فالأرض التي تهتز تحت الدول المجاورة تهتز تحت إسرائيل أيضا، ويكفي النظر فيما يحصل الآن في الشرق الأوسط كي نفهم أننا لا نفهم شيئًا”!! وأكدت أن عصر التعالي الإسرائيلي على العرب قد انتهى.
وكانت هناك مشاعر لدى الكثير من الإسرائيليين بأن الحكومة الإسرائيلية لا تتفاعل ولا تتعامل بشكل صحيح مع الوضع، حتى إن جريدة هآرتس اتهمت حكومة نتنياهو بأنها تدير الظهر للعالم، وأن سياستها تلحق ضررًا جسيمًا بمصالح الدولة. ودعت هآرتس في مقال آخر إلى “انقلاب سياسي” على غرار ما يحدث في العالم العربي.
التعامل مع الملف الفلسطيني
إن الكثير من الإسرائيليين ممن تحدثوا عن التغيرات في العالم العربي، ركزوا على ضرورة التعامل مع الملف الفلسطيني، بمزيد من السرعة والانفتاح، بل وتقديم مبادرات سياسية و”تنازلات”، تعجّل بعقد تسوية سلمية مع أبي مازن وقيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية في رام الله. وقد أكد على هذه الفكرة من القيادات الإسرائيلية شمعون بيريز، وإيهود باراك، وتسيبي ليفني، وشاؤول موفاز، وبنيامين بن إليعازر… وغيرهم.
ووافق العديد من التحليلات ما ذهب إليه إيهود باراك من أن هناك حركة دولية للاعتراف بدولة فلسطين، ولنزع الشرعية عن “إسرائيل”، ووضع “إسرائيل” في حالة العزلة التي وجدت جنوب أفريقيا نفسها فيها، قُبيل إنهاء نظامها العنصري، وأن حالة الجمود الحالية تلحق أضرارًا بالغة، وذات طبيعة إستراتيجية بـ”إسرائيل”.
وأشارت إلى أن وضع “إسرائيل” في العالم سيئ للغاية، وأن عدد الدول المناوئة لـ”إسرائيل” سيتزايد. لذلك دعت إلى تحريك عملية التسوية، وإعادة بناء الثقة مع السلطة الفلسطينية، من خلال برنامج يرى الفلسطينيون أنه ذو جدوى، لأن الوصول إلى وضع متأزم مع السلطة الفلسطينية، سيقود المنطقة إلى توتر كبير. وقد نبه بنيامين بن إليعازر إلى أنه لا بد من إجراء سياسي “لنجد أنفسنا في وضع يمكن التعامل معه، لأن البديل أن نجد أنفسنا في عالم مختلف، ونظام آخر يتسم بالأصولية”.
غير أن الملفت للنظر أن معظم (إن لم يكن كل) أصحاب الكتابات والدعوات لتحريك العملية السلمية، وخصوصًا من المعنيين بصناعة القرار في “إسرائيل”، لم يُقدِّم أية رؤية جادة تصل إلى الحد الأدنى الذي يمكن أن يقبله أكثر الفلسطينيين “اعتدالاً” بما في ذلك محمود عباس ومساعديه وقيادة السلطة وحركة فتح. وما زال هؤلاء القلقين على مسار التسوية، يتحدثون عن “مغريات وحوافز” لدفع عجلة المفاوضات، دون أن يقدموا أية حلول حقيقية.
أي أن هؤلاء ما زالوا يحاولون “إدارة المشكلة” وليس “حل المشكلة”. ولكنهم قد يختلفون في حجم الحوافز التي ينبغي تقديمها للفلسطينيين كوقف البناء في المستوطنات، أو رفع بعض الحواجز، أو تخفيف الحصار، أو تحسين الاقتصاد الفلسطيني…
وقد تحدثت بعض الكتابات عن أن الشريكين الإستراتيجيين المتبقيين في المنطقة (بعد سقوط النظام المصري) هما السلطة الفلسطينية والأردن، وأنهما يضمنان الضفة الغربية والجبهة الشرقية.
وطالبت بتعزيز علاقة هذا المحور مع “إسرائيل”. غير أنها نبهت إلى تعقيدات العلاقة مع هذين الطرفين، خصوصا في خضم التغييرات والتحديات التي يشهدها الطرفان، فضلاً عن مشاكل العلاقة معهما في ضوء تعطل مسار التسوية وحالات الإحباط من الإسرائيليين، ودعوات العديد من الإسرائيليين إلى تبني “الخيار الأردنى” وفكرة “الوطن البديل” لحل القضية الفلسطينية، وهو ما يمكن أن يفجر العلاقة مع الأردن ومع السلطة الفلسطينية.
البدائل والخيارات المحتملة
إن تعرض الإسرائيليين إلى ضغوط كبيرة لا يؤدي بالضرورة إلى استجابات متشابهة، فقد يتحولون إلى تفاعل أكثر انغلاقًا وأكثر عدوانية، ويعودون إلى عقلية “الجيتو” وعقلية “السور والقلعة”، وقد تجبرهم هذه الضغوط على أوضاع يضطرون فيها إلى أن يكونوا، أكثر استعدادًا للمساومة ولتقديم التنازلات التكتيكية والإستراتيجية. والأمر مرتبط إلى حدٍّ كبير بموازين القوى على الأرض، وبتقدير المصالح والمخاطر الحقيقية المحتملة، وبالبيئة الإقليمية والدولية.
ولذلك ربما يتعامل الإسرائيليون مع عدد من الخيارات والبدائل والمسارات، ويفاضلون بينها، وهي ليست كلها بالضرورة بدائل متعارضة، كما قد يتم المزج بين اثنين منها أو أكثر، وبدرجات متفاوتة. وأبرز هذه المسارات والبدائل:
1-الدولة المؤقتة: ويستند هذا البديل إلى جوهر السياسة الإسرائيلية المبنية على إدارة الأزمة، وليس حلها. وإلى تأجيل البت في القضايا النهائية وخصوصا مصير القدس واللاجئين ما أمكن، بينما يتم فرض الحقائق على الأرض بالشكل الذي تريد “إسرائيل” الوصول إليه في نهاية المطاف. كما يسعى صانعو السياسة الإسرائيلية من خلاله إلى الالتفاف على استحقاق إعلان الدولة الفلسطينية، الذي قد يواجهونه في سبتمبر/أيلول القادم في الأمم المتحدة.
وتستند خطة نتنياهو التي كُشف عنها في 7/3/2011 إلى الفكرة نفسها، إذ تدعو إلى الاعتراف بدولة فلسطينية بحدود مؤقتة، وإلى اتفاق مرحلي طويل الأمد، يرافقه مسار مفاوضات حول الحل الدائم، وإطلاق سراح أسرى، وإزالة حواجز عسكرية، وإبقاء قوات إسرائيلية في غور الأردن من دون سيادة إسرائيلية عليه، وتجميد البناء الاستيطاني في المستوطنات المعزولة، وتوسيع الاستيطان في الكتل الاستيطانية وفي شرقي القدس.
مشكلة هذا المسار أن الفلسطينيين رفضوه مسبقًا، لأنه قد يشكل وصفة الحل النهائي بالأمر الواقع، وهو مراوغة إسرائيلية للهروب من الاستحقاقات النهائية لمشروع التسوية. ولذلك اعترفت بعض الشخصيات الإسرائيلية بعدم جدواه، فذكر الوزير السابق يوسي سريد أن مبادرة نتنياهو ليست سوى مولود ميت.
2-الانسحاب الأحادي الجانب: وهو سيناريو يعتمد على البرنامج الذي سبق أن تبناه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أريل شارون، ونفذه في قطاع غزة في خريف 2005، على أمل أن ينفذه في الضفة الغربية لاحقًا.
تكمن مزايا هذا البديل في تخلي “إسرائيل” عن مسؤولياتها تجاه الفلسطينيين، وفي أنها ستنسحب من أقل قدر من الأرض في الوقت الذي ستتخلى فيه عن عبء العدد الأكبر من سكان الضفة الغربية (فيما عدا شرقي القدس).
وسُتظهر الأمر وكأنها انسحبت من الأراضي المحتلة، وأن ما تبقى لا يتعدى كونه مشكلة حدودية بين بلدين، في حين ستُبقي على القدس وعلى الأراضي خلف جدار الفصل العنصري وعلى الكتل الاستيطانية.
عاد هذا البديل للطرح مجددًا، مع انعدام فرص تحقيق تسوية متفق عليها مع الفلسطينيين، حتى يتم فرضه كواقع جديد، وبحيث يبدو وكأنه مكسبٌ للفلسطينيين وتضحية من الإسرائيليين.
أما ما يجعل الإسرائيليين في حالة تردد في التعامل معه فهو أنه قد يؤدي إلى سيطرة حماس أو تيارات المقاومة على الأراضي التي يتم الانسحاب منها.
3-الوصول إلى إطار حقيقي للتسوية: وهو خيار يعتمد على فكرة أن الوقت لا يعمل لصالح “إسرائيل”، وأنها لن تجد مستقبلاً أفضل من “ظروف كهذه”، وأفضل من “قيادات كهذه” لعقد تسوية سلمية، وأن الثمن الذي ستدفعه مستقبلاً هو أعلى بكثير مما قد تدفعه الآن.
ولعل الوصول إلى إطار حقيقي تقبله القيادة الحالية لمنظمة التحرير والسلطة في رام الله، كما تقبله العديد من القيادات الإسرائيلية، يتمحور حول مبادرة جنيف التي أطلقها سنة 2003 فلسطينيون مقربون من السلطة ومن فتح، وإسرائيليون من حزب العمل وميريتس واليسار الإسرائيلي… وتتلخص في دولة فلسطينية على الضفة وقطاع غزة، مع تبادل محدود في الأراضي يؤدي لاحتفاظ “إسرائيل” بالكتل الاستيطانية، وتنازل الفلسطينيين عن حق العودة إلى الأرض المحتلة سنة 1948، وترتيبات خاصة بالقدس مبنية على سيادة الفلسطينيين على الأحياء العربية، والإسرائيليين على الأحياء والمواقع اليهودية.
ويبدو هذا الخيار مستبعدًا في هذه المرحلة في ظل ضعف اليسار الإسرائيلي وتراجعه وتفتته، وفي ظل تصاعد التيارات اليمينية والدينية الإسرائيلية، مع عدم وجود رغبة أميركية في الضغط الحقيقي على “إسرائيل”. ثم إن الفلسطينيين أنفسهم ما زالوا رافضين للتنازل عن حق العودة، هذا بالإضافة إلى اعتراضاتهم الأخرى على المبادرة.
4-تفعيل مشاريع التهويد: ويستهدف هذا المسار تسريع وتنشيط عملية حسم هوية المناطق التي ترغب “إسرائيل” في ضمها، قبل الانتهاء من أية مفاوضات، وقبل أن تتعرض لأية ضغوط شديدة مغايرة لتوجهاتها. ويقتضي المسار السعي لحسم هوية القدس يهوديًّا وإسرائيليًّا، وتهويد المناطق خلف الجدار العنصري. وقد يصل في ذروته إلى السيطرة على المسجد الأقصى.
وقد ينجح هذا المسار مؤقتًا في فرض ما يريد ضمن المعادلات الحالية، التي تجعل الأوضاع الفلسطينية والعربية غير قادرة على تحدي المشروع الصهيوني. لكن هذا المسار سيحسم خيارات الشعب الفلسطيني باتجاه المقاومة، وينهي مشروع التسوية، وسيساعد على إيجاد بيئة معادية أكبر للكيان الإسرائيلي، في حين تصب التغيرات في العالم العربي في تأجيج عملية الصراع ضد “إسرائيل”.
5-الضربات الاستباقية أو الوقائية: تعالت بعض الصيحات الإسرائيلية المنادية بالقيام بضربات عسكرية موجعة لحماس في غزة ولحزب الله وسوريا (قبل تطور مشاكلها الداخلية). وقد دعت رئيسة حزب كاديما تسيبي ليفني إلى تدمير حماس في غزة قبل أن يتغير المحيط العربي، في الوقت الذي دعت فيه إلى بدء التفاوض مع عباس “قبل فوات الأوان”.
كما قال قادة مخابرات إسرائيليون إنه لا يمكن لجم صيحات القدس وفلسطين في ميادين التظاهر العربية إلا بتوجيه ضربات عسكرية موجعة لحماس وحزب لله وسوريا لأن من شأن ذلك تغيير البيئة الإستراتيجية، وإرغام مصر على التأكيد على التزامها بالسلام، والحؤول دون انهيار السلطة الفلسطينية.
يسعى داعمو هذا المسار إلى التأكيد، في غمرة التغيرات الهائلة، أن “إسرائيل” ما زالت اللاعب الرئيسي في المنطقة، وأنها هي من يفرض شروط اللعبة، وأنها لن تسمح بتغيير موازين القوى لصالح التيارات النهضوية المعادية لـ”إسرائيل” وتيارات المقاومة، كما تحاول “إسرائيل” أن تستبق الأمور لدعم شركائها في مشروع التسوية.
وتريد أن تذكر الجميع بالأثمان الهائلة التي يمكن أن يدفعها أي نظام جديد يرغب في الخروج عن “بيت الطاعة” الأميركي الإسرائيلي.
غير أن مؤيدي هذا المسار ربما لم يدركوا أن كل ما يفعلونه هو مزيد من استعداء الشعوب والأنظمة ضد “إسرائيل”، ومزيد من تسريع الدعم لقوى المقاومة الفلسطينية، وأن الذين خرجوا طلبًا للحرية والكرامة في بلادهم، لن يسمحوا لكرامتهم وكرامة إخوانهم في فلسطين أن تهان، وهو ما يعني أن “إسرائيل” ستعود لتحاط بفضاءات إستراتيجية معادية، وبحسابات جديدة طالما حاولت “إسرائيل” تجنبها.
أيًّا تكن خيارات الجانب الإسرائيلي، ومهما “فكّر وقدّر”، فإنه مقبل على أزمة حقيقية إن عاجلاً أو آجلاً. ذلك أنه موجود في بيئة ترفضه وتعاديه، وأي تغير حقيقي في موازين القوى لن ينعكس فقط على حجم المساحات التي يحتلها، وإنما على مستقبله ووجوده.
أضف ردا