بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
آن لسلام فياض -بعد أربع سنوات على رئاسته لحكومة السلطة الفلسطينية في رام الله- أن يرحل. وألا يتم ترشيحه لرئاسة وزراء حكومة المصالحة الوطنية أو التكنوقراط القادمة. ليس الأمر شخصياً، ولا مرتبطاً بكفاءاته أو إمكاناته الذاتية؛ ولكن مشكلته هي في أدائه، وفي المشروع الذي يحمله.
سلام فياض كان عنواناً أساسياً لحالة الانقسام الفلسطيني، وكان رجل إدارة الأزمة مع حماس وقوى المقاومة؛ وظل بقاؤه مرهوناً باستمرار الاختلاف بين فتح وحماس، ورضي لنفسه أن يتعامل مع القوى التي تمثّل الشعب الفلسطيني -في انتخابات حرة نزيهة- كقوى خارجة عن القانون، بينما كان هو في الوقت نفسه يعاني من شرعية منقوصة، لا تجرؤ أن تجمع المجلس التشريعي الفلسطيني ولو في جلسة واحدة، لأن الشرعية الحقيقية كانت ستنزع الثقة عنه.
ورضي لنفسه أن ينسق أمنياً مع الاحتلال الإسرائيلي، ليطارد رجال المقاومة ورموز العمل السياسي والعمل الاجتماعي والخيري، ورؤساء البلديات التي تخالفه أو تعارضه. وباختصار فإن فياض كان عنواناً للمشكلة، ولم يكن عنواناً للحل.
إن إصرار محمود عباس على ترشيح فياض يضع علامات استفهام كبيرة على مدى جديته في تحقيق المصالحة الوطنية، وتحقيق شراكة حقيقية في إدارة وصناعة القرار الوطني الفلسطيني لكافة القوى الفلسطينية.
الاحتجاج بضرورة تحصيل الرضا الأميركي والإسرائيلي على شخص رئيس الوزراء هو احتجاج لا قيمة له لمن يريدون الدخول في مصالحة وطنية فلسطينية جادة، وهو يعني أن أصحاب هذه الحجة قبلوا أن يكون الأميركان والإسرائيليون هم فاعلا رئيسيا ومحددا أساسيا في صناعة القرار الفلسطيني.
وعند ذلك فإن إعادة ترتيب البيت الفلسطيني تفقد جوهرها ومعناها…؛ فإذا كان مقبولاً التدخل الأميركي الإسرائيلي في أهون الأمور (تشكيل الحكومة)، فمعنى ذلك أنهم سيتدخلون بقوة أكبر لمنع إعادة بناء وإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، كما سيتدخلون بقوة أكثر عنفاً وشدة لمنع إعادة ترتيب وتشكيل الأجهزة الأمنية، وسيتمكنون من تعطيل المصالحة ما لم تدخل حماس وأخواتها في “بيت الطاعة” الإسرائيلي الأميركي…
في مرحلة التحرر الوطني والتخلص من الاحتلال، لسنا معنيين بما يطلبه المحتلون، وإنما بما يطلبه الفلسطينيون، ولسنا معنيين بمتطلبات الاحتلال، وإنما بمتطلبات التخلص منه.
وفي مرحلة المصالحة، لا نريد رمزاً مهموماً برضا “إسرائيل” ورضا أميركا، وإنما نريد رمزاً يسعى لرضا الله (أولاً وأخيراً)، ويحظى برضا شعبه؛ حتى لو أغضب ذلك أعداء المشروع الوطني الفلسطيني.
إذ إن انزعاج أميركا و”إسرائيل” وغضبهما هما شهادات حسن سلوك فلسطينية. وبشكل عام، فلن تكون هناك مصالحة حقيقية جادة، ما لم يتم تنفيذ أجندة وطنية خالصة حتى لو كانت ضدّ اعتبارات الخصوم والأعداد. والرضا الإسرائيلي والأميركي ليس هو جسر العبور إلى المصالحة الوطنية.
يدرك عباس قبل غيره أن فياض ليس شخصية الإجماع التي تحتاجها المرحلة. ويدرك عباس قبل غيره أن فياض مرفوض من حماس وباقي فصائل المقاومة.
فهل يريد عباس تقطيع الأشهر القادمة في جدل حول شخص رئيس الوزراء وصولاً إلى شهر سبتمبر/أيلول، للتصويت على إعلان الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، وقبل أن يغضب الأميركان وحلفاء “إسرائيل” بشأن تشكيل الحكومة الفلسطينية واستحقاقاتها؟.
عند ذلك ستشعر الفصائل الفلسطينية الأخرى، أن الأمر لم يكن بالنسبة لعباس أكثر من تحصيل مصالحة مؤقتة، اعترفت له بشرعيته الرئاسية، وتمثيله للشعب الفلسطيني، ليقدم نفسه بشكل أفضل وأقوى في الأمم المتحدة؟ وبالتالي فإن الأمر كان عملاً تكتيكياً مرحلياً.
وإذا كانت المرحلة القادمة يفترض فيها أن تكون مرحلة بناء الثقة، فلماذا بدأها عباس بما يزيد الشكوك والمخاوف؟ وإذا كان مجرد تحديد اسم رئيس الوزراء أخذ حتى الآن بضعة أسابيع فكيف يمكن معالجة مشاكل أكثر تعقيداً وحساسية كملفات الأمن الفلسطيني، وملفات منظمة التحرير الفلسطينية، وملفات الأسرى والإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي ومكافحة الفساد والانتخابات… وغيرها؟.
أربع سنوات عجاف مضت على حكومة سلام فياض، كان كشفُ إنجازاتها في أداء الاستحقاقات الإسرائيلية أكبر من كشف إنجازاتها في أداء الاستحقاقات الوطنية.
سلام فياض -الذي فاز هو وحزبه “الطريق الثالث” بمقعدين فقط من أصل 132 مقعداً- شكّل بطلب من الرئيس عباس حكومة طوارئ في 17/6/2007، ثم تحولت “بقدرة قادر” بعد نحو شهر إلى حكومة تسيير أعمال.
بالرغم من أن النظام الأساسي الفلسطيني (الدستور) يتيح للرئاسة إعلان حالة الطوارئ فقط، دون أن يتيح لها تشكيل حكومة طوارئ، كما أن النظام الأساسي يحول الحكومة القائمة في ذلك الوقت (حكومة إسماعيل هنية) إلى حكومة تسيير أعمال.
وحتى لو سلمنا جدلاً بشرعية حكومة فياض، فإن الدستور الفلسطيني يلزمها بنيل ثقة المجلس التشريعي وهو ما لم تحصل عليه مطلقاً. وما كان لشخص يريد أن يلقى الإجماع وثقة الشعب ألا يحترم دستوره وأن يلتف على إرادته.
ومن الناحية العملية فقد رضي فياض أن يكون المحدد الفاعل والأساس في بقائه فلسطينياً، هو تعطيل المجلس التشريعي وحرمانه من أداء مهامه، ومستعيناً بدلاً من ذلك بترسانة من القوانين المؤقتة التي أصدرها محمود عباس والتي بلغت 406 مراسيم خلال سنة واحدة فقط!!
فياض لم يكن محلَّ اعتراض حماس وعدد من فصائل المعارضة الفلسطينية فقط، وإنما كان محلَّ اعتراض الكثير من كوادر فتح وقياداتها، التي كانت تحتج عليه بقوة لكنها تضطر للسكوت على مضض بسبب إصرار عباس (والإسرائيليين والأميركان عليه).
وخلال دورة المجلس الثوري الـ25 لحركة فتح (26/5/2008) تعرض فياض لهجوم عنيف، وشبهه البعض ببول بريمر أول حاكم أميركي للعراق، واعتبر آخرون حكومته حكومة أميركية مفروضة على الفلسطينيين.
وعندما شكل فياض حكومته في 19/5/2009، واجه معارضة من كتلة فتح البرلمانية، التي ضغط عليها عباس للسكوت. ثمّ إن القائد الفتحاوي حاتم عبد القادر قدم استقالته من الوزارة بعد بضعة أسابيع، لاتهامه فياض بالتقصير تجاه ملف القدس.
الأداء الأمني لفياض وحكومته لا يُشرِّف أحداً، ففضلاً عن أنه أحال المئات من الكوادر الوطنية (بما فيها الكثير من العناصر الفتحاوية) في الأجهزة الأمنية إلى التقاعد، واستقدم الأتباع والموالين، فإنه فتح المجال أمام الخبراء الأميركيين وخصوصاً كيث دايتون ومن بعده مايكل مولر، لإعداد الأجهزة الأمنية بما يتوافق واستحقاقات التسوية وملاحقة قوى المقاومة.
وفي عهد فياض وصل التعاون الأمني مع “إسرائيل” إلى قمته، من تبادل معلومات، وكشف شبكات المقاومة والقبض على رجالها، وقمع المظاهرات، ومنع الاحتكاك بالإسرائيليين، وإعادة إسرائيليين دخلوا إلى مناطق السلطة.
سعت السلطة تحت قيادة فياض إلى تجنيد عناصر شرطة لا تملك وعياً ولا ماضياً وطنياً ولا روحاً وطنية، وتتعامل مع قوى المقاومة كما تتعامل مع اللصوص وتجار المخدرات باعتبارهم خارجين عن القانون. وكانت النتيجة عدة كتائب جرى إعدادها بإشراف دايتون، وكان يتم الحديث عنها بحسب جريدة هآرتس (أبريل/نيسان 2008) على أنهم “أبناء دايتون”.
وبحسب المصادر الإسرائيلية فقد وصل التنسيق مع السلطة الفلسطينية إلى مستويات غير مسبوقة، إلى درجة جعلت جهاز الأمن الإسرائيلي (الشاباك) يعلن في سنة 2010 لأول مرة منذ أكثر من عشرين عاماً خلو قائمته من المطلوبين الفلسطينيين.
وقد كشفت الحكومة الإسرائيلية في تقريرها المقدم إلى “لجنة ارتباط الدول المانحة” في بروكسل، والذي نُشر في 14/3/2011، أنه في سنة 2010 قامت أجهزة الاحتلال بـ2,968 عملية مشتركة مع قوات الأمن الفلسطينية في الضفة الغربية، كما عقدت 686 اجتماعاً مشتركاً معها.
أما الجانب الاقتصادي -الذي يفخر فياض بأدائه، والذي يحتج به عباس ومناصروه لتعيين فياض- فقد جرى تضخيمه بأكثر مما يستحق. وهو اقتصاد يبقى أسير الاحتلال وأسير الحصار وأسير المساعدات الأجنبية.
فقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي تحت حكومة فياض من نحو 4.6 مليارات إلى 5.7 مليارات دولار تقريباً في الفترة 2007-2010، مقارنة بارتفاع الناتج المحلي الإسرائيلي للفترة نفسها من 168 ملياراً إلى 217 مليار دولار للفترة نفسها.
وبعبارة أخرى، فإن نصيب الفرد الفلسطيني من الناتج المحلي الإجمالي ارتفع من 1,298 دولار إلى 1,502 دولار في الفترة 2007-2010 أي زاد خلال حكم فياض بمبلغ 204 دولارات في ثلاث سنوات بمعدل 68 دولاراً سنوياً؛ بينما زاد دخل الفرد الإسرائيلي السنوي للفترة نفسها من 23,300 دولارا إلى 28,500 دولارا أي بمعدل زيادة مقداره 1,733 دولار سنوياً.
إن مشكلة اقتصاد السلطة الفلسطينية أنه تمّ تصميمه بحيث يكون تحت رحمة الاحتلال الإسرائيلي، وتحت رحمة استحقاقات عملية التسوية، ليصبح الضغط الاقتصادي نوعاً من الابتزاز السياسي. خاصة إذا علمنا أن نحو 50-55% من ميزانية السلطة تأتي من مساعدات الدول المانحة، وأن حوالي ثلث الميزانية يأتي من مستحقات الضرائب الفلسطينية التي تقوم “إسرائيل” بتحصيلها.
وعند ذلك تأتي “إسرائيل” والجهات الأجنبية لتفرض على الفلسطينيين من يستلم هذه الأموال، وشكل التعامل معها، وليكون فياض هو المرشح المفضل الموثوق لضمان التنفيذ، بما لا يتعارض مع سياساتها. وهنا فإن الأمر ليس مرتبطاً بالكفاءة والشفافية فقط، وإنما بالأداء السياسي والأمني.
وقد استفاد فياض من وجود المال بين يديه، وتوظيفه سياسياً وأمنياً، ومن ملء الشواغر والمواقع بالداعمين له ولسياساته، والتخلص من الكثير من العناصر المخالفة.
وفي الوقت الذي أغلق فيه الباب أمام مؤيدي حماس وتيارات المقاومة دون العمل في مؤسسات السلطة ووزاراتها، فإنه وضع الآلاف من كوادر فتح تحت سيف الولاء والمُرتَّب. ووجدت فتح وفصائل المنظمة أن ميزانيتها، أو جزءاً منها، تأخذه من فياض، مما خفض سقف اعتراضاتها واحتجاجاتها إلى حدّ كبير.
فياض -الذي كان يفتخر بأن حكومته تنفق أكثر من مائة مليون دولار شهرياً على قطاع غزة- كان يقدم صورة منقوصة عن الحقيقة. فالصحيح أن مبلغاً ضخماً كان يذهب للموظفين الذين لا يذهبون للعمل، فمنذ الانقسام الفلسطيني والسلطة في رام الله تدفع الرواتب لمن يجلس في بيته، وتوقف الرواتب عمن يذهب إلى العمل إلا ضمن استثناءات محددة كالصحة والتعليم.
فكانت حكومة فياض تنفق على نحو ستين ألف موظف (من أصل 78 ألفاً) شرط أن يبقوا في بيوتهم، وهؤلاء كانوا يحصلون على 86% من الرواتب التي تحولها السلطة في رام الله إلى القطاع.
وبمعنى آخر، فإن الأموال المرسلة إلى غزة استخدمها فياض (ومن خلفه قيادة السلطة) في التوظيف السياسي؛ وأوجدت وضعاً شاذاً كانت نتيجته مكافأة المتغيب المستنكف عن العمل، ومعاقبة أولئك الذين التزموا بأعمالهم وخدمة شعبهم.
مشروع سلام فياض لإنشاء البنى التحتية للدولة الفلسطينية خلال سنتين (2009-2011) لم يتحقق منه إنجاز ذو بال، مع أنه لم يتبقَ على إنهائه إلا شهران (أغسطس 2011).
وإذا كان من السهل الحديث عن المعوقات التي يعرفها الجميع، والتي كان يعرفها فياض قبل طرح مشروعه وفي أثنائه، فلماذا جرى التغاضي عنها في مقابل دفع أثمان هائلة أدت إلى ضرب النسيج الوطني الفلسطيني، وتمزيق وحدته الوطنية، وضرب البنى التحتية للعمل الخيري وللعمل المقاوم؟، وهل بعض المظاهر المتواضعة هنا وهناك تستحق الضجيج المفتعل حول الدولة؟، وأين هذا مما حققه الإسرائيليون من عمليات تهويد، خصوصاً في القدس، وسرقة أراضٍ وسرقة مياه، وإذلال للإنسان الفلسطيني.
لا يمكن وضع كل اللوم على سلام فياض، فمحمود عباس هو المسؤول الأساسي عن اختياره وعن تحديد المسار. ولكن ما دام فياض رضي لنفسه أن يكون رمز تلك المرحلة بكل ما فيها من سوءات، فعليه أن يرحل حتى يتمكن الفلسطينيون من فتح صفحة جديدة.
أضف ردا