بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
في الحسابات الجيوإستراتيجية، فإن التغيير في مصر يعني الكثير, ليس ذلك فقط لعراقتها وعراقة شعبها، وإنما لأن مصر تتمتع أيضاً بخمس مزايا لا تكاد تجتمع في بلد آخر في عالمنا العربي والإسلامي:
– فهي أولاً مركز العالم العربي، وصلة الوصل بين جناحيه الآسيوي والأفريقي، وهي عمقه البشري.
– ثانياً تتمتع بوضع مركزي في العالم الإسلامي، حيث تتوسط أيضاً جناحيه الآسيوي والأفريقي، وتتمتع بثقل معنوي هائل كحاضنة للأزهر ومنارة للعلم والعلماء.
– ثالثاً تتمتع بوضع مركزي في الصراع مع الكيان الإسرائيلي، فهي كنانة العروبة والإسلام، ومن الصعب تخيّل مشروع حقيقي للمواجهة المتكافئة مع العدو، وللمقاومة والتحرير دون مصر.
– رابعاً ذات وزن كبير في القارة الأفريقية، ومؤهلة للعب دور رائد وأساسي في قيادة هذه القارة.
– وهي خامساً ذات قيمة إستراتيجية كبرى، باعتبارها تحتضن قناة السويس أحد أهم ممرات التجارة الدولية في العالم.
ولذلك، فإن التغيير في مصر له أهميته الكبيرة، كما أن له انعكاساته وتداعياته الواسعة محلياً وإقليمياً وعالمياً. وإذا ما تمكنت من استعادة مكانتها وحيويتها وحالتها النهضوية، ومضت بثورتها إلى غاياتها المنشودة، فإنها قد تتمكن من فرض معادلات جديدة في المنطقة.
غير أن مصر الغنية بتاريخها وبإمكاناتها وبمواردها البشرية، هي مثقلةٌ أيضاً بميراث من الدكتاتوريات والفساد وسوء استغلال الثروات، وتراجع مكانتها الإقليمية والدولية. ولذلك فإن مصر الثورة والتغيير تقف أمام مجموعة كبيرة من التحديات، لعل أبرزها يتجلى في النقاط العشر التالية:
التحدي الأول: تحديد الهوية والانتماء فيما يتعلق بالدولة وطبيعتها ومرجعيتها. وهو أمر يشغل بال المصريين كثيراً، والنقاشات الواسعة التي تشهدها الساحة المصرية حول الدولة المدنية، والمرجعية الإسلامية، والنظام العلماني، والانتماء العربي والإسلامي..، كلها تدخل في هذا الإطار.
لقد حدد المصريون -من خلال الاستفتاء الذي صوتوا فيه على التعديلات الدستورية- المسار الذي من خلاله يمكن الوصول بشكل ديمقراطي شفاف إلى حسم هذه الأمور. فالشعب سيختار مجلسه النيابي الذي سيختار بدوره الهيئة المعنية بكتابة الدستور، الذي سيعرض بعد ذلك على استفتاء شعبي لإقراره.
كان من الغريب حقاً أن نرى أحزاباً تنادي بالديمقراطية وتتحدث باسم الجماهير، وأن نرى معها مثقفين وإعلاميين ذوي أصوات عالية، يحاولون القفز عن الإرادة الشعبية وعن اللعبة الديمقراطية، عندما وجدوا أنفسهم أقلية لا تستطيع الوصول إلى ما تريده إلا بإلغاء رأي الأغلبية.
الشعب المصري شعب عربي والإسلام دين 94% من أبنائه، والناس يتميزون بالتسامح والاعتدال، وأن يعتز هذا الشعب بعروبته وبمرجعيته الإسلامية وبتراثه هو حق طبيعي للأغلبية الساحقة، دون أن يعني ذلك ظلماً لأحد.
ولا ينبغي لأقلياتٍ ذات مرجعيات شيوعية أو اشتراكية أو ليبرالية أو طائفية أن تنازع الشعب المصري إذا ما حدد لنفسه المرجعية التي يريدها، خصوصاً في نظام يقبل التعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة.
إن من حق المصري أن يعيش في بيئة سياسية تتوافق مع هويته الدينية والثقافية والحضارية والاجتماعية، حتى لا يجد نفسه في فصامٍ نكدٍ مع ذاته ومع رؤيته للحياة. وحالة التوافق هذه ضرورة لأي عملية إبداع وتقدم وبناء حضاري.
وإن أولئك الذين يدعون إلى المرجعية الإسلامية عليهم أن يدركوا مسؤولية استيعاب الجميع، ومسؤولية تقديم الإسلام في صورته اليانعة النضرة المعتدلة المتسامحة، وأن يركزوا على ما يمكن الاتفاق عليه، لا أن يشغلوا الناس بجوانب الاختلاف والانقسام، ولا بالفتاوى التي تنحو منحى التشدد غير المرتبط بما هو ثابت في الكتاب والسنة؛ وأن ينفتحوا على فقه معاصر يستوعب تعقيدات الواقع ومتطلباته، والتشابكات المحلية والإقليمية والدولية.
التحدي الثاني: يكمن في تحديد الأولويات: إذ إن الثورة المصرية تواجه عشرات القضايا المهمة ومئات القضايا المطلبية. فقد ترك النظام السابق خلفه إرثاً كبيراً من الفساد والمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية وغيرها.
وهناك أولويات مرتبطة بتحديد شكل النظام السياسي ومرجعيته الدستورية، والاستقرار الأمني، وتمتين الوحدة الوطنية، والنهوض الاقتصادي، والاستغلال الأمثل للثروة، وعلاج الفساد، وحلّ المظالم، ومحاكمة رموز النظام السابق، واستعادة دور مصر العربي والإسلامي والأفريقي والدولي…، وغيرها.
وكما أن هناك عدداً من القضايا الكبرى التي تحتاج وقتاً وصبراً وتضحية كعملية النهوض الاقتصادي، فإن من حق المواطن المصري أن يشعر بالفرق منذ البداية، وأن يشعر بأنه تحت قيادة جادة في التغيير والتطوير؛ كما أن من حق القيادة الجديدة التي يختارها الشعب أن تأخذ فرصتها، وألا تستنزف في القضايا المطلبية أو تُحمّل فوق طاقتها. وحتى تستطيع الدولة أن تقف على أقدامها، فلا ينبغي جرها إلى صراعات وتحديات خارجية غير قادرة على مواجهتها قبل الإعداد المناسب لها.
إن تحديد الأولويات هو عملية يجب أن تتوافق عليها القوى الوطنية أو معظمها، وعندما يحسم الشعب خياراته بالجهة أو الجهات التي تمثله وبالأولويات التي يريدها، ينبغي للقوى الأخرى في الأقلية أن تحترم الإرادة الشعبية وألا تنشغل بالمزايدات ووضع العصي في العجلات.
التحدي الثالث: الوحدة الوطنية وهو عنصر أساسي في نهضة البلد، وأبرز معالمه الحفاظ على التماسك الوطني الإسلامي/المسيحي في مواجهة الفتن الطائفية، واستنزاف طاقة الشعب في صراعات داخلية تفسد أي مشاريع نهضوية، كما تفتح الأبواب للتدخلات الخارجية ومشاريع التفتيت والتقسيم.
لا يحتاج المصريون من يُعلّمهم الوحدة الوطنية، فقد قدَّموا طوال 1400 عام نماذج رائعة للعلاقات الإسلامية المسيحية. ولم تظهر بعض المشاكل إلا مؤخراً في وجود الأنظمة الفاسدة، وفي أجواء من محاولات النفخ الغربي الاستعماري في نار الفتنة.
التحدي الرابع: الاستغلال الأمثل للثروة: فكما هو معروف، تعرض كثير من ثروات مصر للإهدار وللصفقات الفاسدة، وكان من أبرزها صفقة بيع الغاز لـ”إسرائيل”.
وفي مصر ثروات زراعية ونفطية ومائية، ومؤسسات قطاع عام، وأراضٍ من أملاك الدولة، عانت كلها من سياسات وممارسات النظام السابق. ولا بدّ من إيجاد نظام يتسم بالحزم والعدل والشفافية، ويأخذ على أيدي الفاسدين، من “القطط السمان” و”التماسيح” و”الهوامير”، ويبدأ بالكبار قبل الصغار.
التحدي الخامس: “إسرائيل”, فبالرغم من وجود معاهدة كامب ديفد بين الطرفين فإن “إسرائيل” لا يسرّها وجود نظام وطني حرّ يحمل الهموم العربية والإسلامية، ويشعر بالمسؤولية تجاه فلسطين وتجاه قضايا الأمة، ويرفض حصار غزة، ويدعم الوحدة الوطنية الفلسطينية الحقيقية.
كما تخشى “إسرائيل” من قيام مصر بالاستفادة القصوى من إمكاناتها المادية والبشرية في إعادة بناء اقتصادها وقوتها العلمية والعسكرية، مما يهدد باختلال موازين القوى في المنطقة التي سارت لصالح “إسرائيل” طوال الفترة الماضية.
قد لا يلجأ المصريون لاستفزاز “إسرائيل” بشكل مباشر، وربما لن يستعجلوا في إلغاء اتفاقيات كامب ديفد أو في وقف التطبيع بشكل كامل. ولكن الإسرائيليين في المقابل لن يتركوا مصر وشأنها، وسيعملون بكافة الوسائل لضمان مصالحهم، ولدعم القوى المؤيدة للتطبيع والمنسلخة عن قضايا الأمة.
التحدي السادس: أميركا والقوى الغربية, فبالرغم من أن أميركا أيدت الثورة، فإن تأييدها جاء متأخراً وانتهازياً بعد أن كاد يفوتها القطار. فقد ظلت أحد أكبر الأطراف استفادة من النظام السابق، وظلت أكبر داعميه، مع علمها بكل ما فيه من مساوئ ومفاسد وعورات.
أميركا لها مصالح كبيرة في المنطقة، و”إسرائيل” تبقى بالنسبة لها حجر الأساس في سياستها الشرق أوسطية. وتملك أميركا مقدرات سياسية واقتصادية وإعلامية وأمنية وعسكرية هائلة، تستطيع أن توظف أياً منها إن احتاجت أو اضطرت، في سبيل خدمة مصالحها.
ثم إن سلاح الجيش المصري هو أميركي بشكل أساسي، كما تقدم أميركا دعماً لمصر بقيمة 2.1 مليار دولار سنوياً، ليس لسواد عيون مصر، وإنما رعاية لنفوذها. وقد تسعى لدعم أطراف وقوى مصرية معينة ذات خلفيات ليبرالية أو علمانية متطرفة أو طائفية، أو لزعزعة الساحة المصرية واستقرارها لإفشال أي تجربة نهضوية قادمة، أو لاستخدام أدوات الحصار الاقتصادي وإثارة المشاكل الأمنية في وجه أي قوى صاعدة اختارها الشعب المصري ولكنها لم تحظ بالرضا الأميركي.
ليس من المصلحة استعداء أميركا أو أي من الأطراف الخارجية، ولكن من المهم التنبه إلى الطريقة الأفضل في التعامل في حالة استخدام الأميركان لأي من أدوات الضغط والنفوذ التي يملكونها داخلياً وخارجياً، والبحث في الخيارات والبدائل المناسبة لمواجهة هكذا تحديات.
التحدي السابع: التطرف بكافة أشكاله، فكل ما يتصل بالغُلُو والخروج عن حدّ الاعتدال والاتزان، والمبالغة في الخصومة، وأخذ القانون بيد البلطجة والتعدي، وادعاء القداسة، واحتكار التحدث باسم “الحق والحقيقة”…، هو من أشكال التطرف.
وكما أن هناك تطرفاً إسلامياً، فإن هناك تطرفاً مسيحياً، وتطرفاً يسارياً، وتطرفاً ليبرالياً، وهناك قوى إقصائية تسعى لسحق الآخر ولكنها تلبس أثواباً علمانية وقومية ووطنية..، فليس التطرف مجرد “ماركة” يوصم بها الإسلاميون.
والواجب على الجميع -في سبيل تجاوز هذا التحدي- أن يتعاملوا بأكبر قدر من الانفتاح والتسامح والتعايش، والتداول السلمي للسلطة، واحترام الرأي والرأي الآخر، وتقديم المصالح العليا للأمة على المصالح الفئوية والحزبية والشخصية.
التحدي الثامن: استعادة الأدمغة المهاجرة: فقد خسرت مصر كثيراً نتيجة هجرة مئات الآلاف من الأدمغة، التي لم تجد بيئة مناسبة للعمل والحياة والإبداع.
وهناك الآلاف منهم أصبحوا ركائز ومنارات للعلم في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وكندا… وغيرها، ويتم استنفاد طاقاتهم وإمكاناتهم العلمية في تطوير الحضارة الغربية؛ بينما تقبع بلادهم التي يحبونها وينتمون إليها في متاهات العالم الثالث، وإشكاليات البيئات الفاسدة الطاردة. وفي بعض التقديرات أن العالم العربي خسر أكثر من 200 مليار دولار نتيجة هجرة الكفاءات العلمية، وأن حوالي نصفها كان من مصر.
إن استعادة هذه العقول، وإيجاد الأجواء المناسبة لها، هو مهمة أساسية من مهام الثورة؛ لأنها ستساعد على اختصار الكثير من الجهد والوقت في عملية التنمية، وستعين على تحقيق مصر لقفزات نوعية، هي بأمسِّ الحاجة إليها لتبوؤ مركزها اللائق.
التحدي التاسع: استكمال المهمة، والقضاء على بقايا النظام الفاسد. وهي قضية تشغل المجتمع المصري حالياً، إذ إن هناك شعوراً بأن الثورة لم تستكمل أهدافها بعد، وأن هناك الكثير من بقايا النظام لا تزال تحتل مواقع مهمة، وأن بعضها يُعطل العملية الإصلاحية، ويسعى إلى ثورة مضادة.
غير أنه يجدر التنبيه إلى عمل الموازنة اللازمة بين ضمان استكمال هذه المهام، وبين عدم الاستغراق واستنفاد الجهد فيها على حساب الأولويات الأخرى. كما أن الروح التي يجب أن تحكم العملية هي روح العدل وليس روح التشفي والانتقام.
التحدي العاشر: عدم استعجال الثمار قبل أوانها. فالاستعجال عادة ما يؤدي إلى الفشل والإحباط، وحرق المراحل لا يؤدي إلا إلى “جمع الأوساخ تحت السجاد”، ثم ما تلبث المشاكل أن تنفجر في وجه المستعجلين.
وفي الأثر: “من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه”. وبالتأكيد فإن الجمهور يطلب إنجازات سريعة، غير أنه من الأسلم أن تصارح قيادات الثورة وحكومتها الجماهير بما هو ممكن، وما هو غير ممكن، وما يستدعي إنجازه وقتاً.
كما يقتضي الأمر تصنيف الأعمال والإجراءات والمهام وجدولتها، ثم المتابعة الحثيثة لتنفيذها، مع عدم الانسياق وراء الإنجازات والفرقعات الإعلامية، التي قد تؤدي إلى العودة إلى مربعات الفساد وخداع الجماهير.
وتحتاج قوى الثورة والتغيير إلى “ميثاق شرف” يضبط عملها وحركتها، إذ تعاني أي حالة ثورية خصوصاً في مرحلتها الانتقالية، وفي رحلتها لتشكيل نظام سياسي قوي ومتماسك ومستقر، من عدة مظاهر أبرزها تنازع مختلف القوى في سبيل الوصول إلى التصورات التي يريدها كل طرف، وإلى أن يستقر الأمر ويصل الجميع إلى عقد اجتماعي مناسب، تبرز خمسة مظاهر على الأقل قد تتسبب في ارتدادات عكسية تخدم أعداء الثورة والقوى الخارجية الراغبة في التأثير في صناعة الأحداث.
أول هذه المظاهر تزايد حالة “الانتهازية السياسية” والابتزاز السياسي، خصوصاً من القوى ذات الشعبية الضئيلة، وثاني هذه المظاهر كثرة المزايدات، وتقديم وعود وطموحات غير ممكنة، والخروج عن الواقعية والجدية في خدمة الجماهير.
وثالثها استعانة بعض القوى بالخارج لتقوية وضعها الداخلي، وهو من أخطر الأمور لأنه يفتح المجال للقوى الخارجية المتربصة لاستخدام هذه القوى المحلية “حصان طروادة” في اختراق البلد وتوجيه سياساته.
ورابعها لجوء بعض القوى لاستخدام القوة والبلطجة والحوار بالسلاح لفرض تصوراتها، خصوصاً في حالة فشلها في الوصول إلى ما تريده عبر صناديق الاقتراع.
أما المظهر الخامس فهو الفوضى التي تصاحب المراحل الانتقالية في الثورات، حيث تضعف قبضة الدولة المركزية، ولا يستطيع البعض التفريق بين الحرية والفوضى، وبين روح الانضباط والمسؤولية والانفلات الذي يفسد أي عملية إصلاحية.
أضف ردا