بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
ما زال مشروع المصالحة الفلسطينية يفتقد إلى قوة دفع كافية، تجعل منه برنامجاً عملياً ينزل على أرض الواقع. مضى نحو ستة أشهر على توقيع اتفاق المصالحة (3/5/2011)، دون أن تظهر أية مبادرات جدية لتطبيقه، بالرغم من أن التفاوض على الاتفاق بين فتح وحماس أخذ شطراً كبيراً من سنة 2009، بينما استغرقت الاستجابة لملاحظات حماس الفترة من أكتوبر/تشرين الأول 2009 وحتى نهاية أبريل 2011 أي أكثر من سنة ونصف.
وبالرغم من أن الاتفاق كان شاملاً ومفصلاً وجاء في نحو 4100 كلمة موزعة على 22 صفحة، فإن كل التفصيلات والتحوطات لم تتمكن من بثّ الحياة والحيوية فيه.
وإذا ما استمر الحال على ما هو عليه فإن الأيام القادمة قد لا ترى انفراجات جدية في عملية المصالحة، وستشهد مزيداً من التأجيلات في تشكيل الحكومة الفلسطينية، والانتخابات، وإعادة بناء الأجهزة الأمنية، وفي إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية.
وبالتالي فإن إعلان إنهاء الانقسام سيكون أقرب إلى “هدنة”، مع إبقاء جوهر المشكلة حيث ستستمر سيطرة طرفين مختلفين على الضفة الغربية وقطاع غزة، ليصبح الوضع انتقالاً معنوياً من “انقسام” معلن، إلى “اقتسام” للصلاحيات والنفوذ في المنطقتين، ولكن ربما دون ضجيج ودون صراع مكشوف في وسائل الإعلام.
وليس هذا بالتأكيد ما سعى ويسعى الفلسطينيون إلى تحقيقه، غير أن الأمنيات والنوايا الحسنة، إن وُجدت، لا تكفي.
ليس تحركاً إستراتيجياً
افتقد اتفاق المصالحة الأخير، كما افتقدت الاتفاقات السابقة في القاهرة وفلسطين ومكة، إلى آليات حقيقية ملزمة للتنفيذ. وقد جعل اتفاق المصالحة قيادة “الأوركسترا” وإنزال البرامج على الأرض مرتبطاً بأبي مازن بصفته رئيس المنظمة ورئيس السلطة.
فمثلاً لم تتشكل اللجنة المشتركة لتنفيذ اتفاق المصالحة الوطنية التي يفترض أن تتشكل من 16 عضواً من الفصائل والمستقلين، وتسمي كل من فتح وحماس ثمانية أعضاء، ولم يصدر أبو مازن مرسوماً بتشكيلها بالرغم من أنه كان من المفترض أن تبدأ عملها فور توقيع الاتفاق.
وكان من المفترض أيضاً أن تبدأ اللجنة المكلفة بتطوير منظمة التحرير باستكمال تشكيلها وعقد أول اجتماعاتها فور البدء بتنفيذ الاتفاق، لكنها لم تتشكل ولم تجتمع حتى الآن. كما لم يُعمل شيء على صعيد الترتيبات للانتخابات التشريعية والرئاسية، ولا على صعيد إعادة بناء وتأهيل قوات الأمن الفلسطينية.
والذي يستقرئ تجربة شهور السنة الماضية يلاحظ أن أبا مازن وقيادة السلطة قامت بتوظيف اتفاقية المصالحة توظيفاً تكتيكياً للحصول على حالة إجماع فلسطيني خلف قيادتها، وتمكينها من الظهور أمام المجتمع الدولي باعتبارها القيادة الشرعية الوحيدة للشعب الفلسطيني، بما يمكنها من تقديم أوراق اعتماد الدولة الفلسطينية للأمم المتحدة. وبما يمكنها أيضاً من استخدام ذلك كأداة ضغط على الإسرائيليين والأميركان بوجود بدائل أخرى لديها.
وقد استفاد أبو مازن من هذه الورقة بالفعل، لكنه لم يتقدم بأية خطوات عملية في مسار تشكيل الحكومة أو في المسارات الأخرى، واكتفى بترشيح اسم سلام فياض لرئاسة الوزراء وهو يعرف مسبقاً رفض حماس له، وليتم إضاعة الوقت لأشهر عديدة في مناقشة اسمه.
وربما رغب أبو مازن ألا يتم تشكيل حكومة يكون لحماس دور في عضويتها أو تشكيلها، بما يُثير حفيظة الإسرائيليين والأميركان، في الوقت الذي يقدم فيه طلب الدولة الفلسطينية. ولذلك لم يكن أبو مازن مستعجلاً في تطبيق الاتفاق بانتظار نتائج تقديم الطلب لمجلس الأمن وللأمم المتحدة.
وإذا ما استمرت هذه السياسات على حالها، فلن نرى حكومة فلسطينية تعبر عن حالة وحدة وطنية حقيقية، ولن نرى أجهزة أمنية يتم إصلاحها، كما لن نرى أجواء صحية تؤدي إلى انتخابات نزيهة وشفافة، خصوصاً إذا ما أظهرت التوقعات احتمالات فوز حماس، حيث سيسعى الإسرائيليون والأميركان وأطراف أخرى لقطع الطريق على ذلك.
المعوقات الفعلية للمصالحة
من الناحية العملية نحن نجد أنفسنا أمام شريكين متشاكسين اضطرا للدخول في المصالحة وهما يعانيان من اختلافات أيديولوجية حادة، ومن عدم وجود مرجعية مؤسسية مشتركة، ومن أزمة عميقة في الثقة المتبادلة، ومن التدخلات الخارجية في صناعة القرار الفلسطيني.
فمن جهة أولى لا توجد مرجعية فكرية وأيديولوجية واحدة مشتركة تحدد ما هو ثابت وما هو خط أحمر لا يقبل التنازل والمساومة، وما هو خاضع للتكتيك والتقدير السياسي والظروف الذاتية والموضوعية وموازين القوى.
وقد انعكس ذلك على البرنامج الوطني لكلا الطرفين، وكيفية تحديد الأولويات، وما يمكن تقديمه من تنازلات، ورؤية الطرفين الإستراتيجية والتكتيكية لمشروعي المقاومة والتسوية.
وقد يبدو ذلك للوهلة الأولى أمراً يمكن التعايش معه، غير أن التجربة العملية في الحالة الفلسطينية أثبتت وجود عقبات حقيقية لا يستهان بها. ومثال ذلك مسألة الاعتراف بـ”إسرائيل” وحقها في 77% من أرض فلسطين، التي ترفضها حماس على أسس إسلامية مبدئية؛ بينما تتقبلها قيادة منظمة التحرير والسلطة باعتبار ذلك استحقاقاً سياسياً نتيجة اتفاق أوسلو، الذي تشكلت على أساسه السلطة الفلسطينية، وانبنى عليه حلم تحويل السلطة إلى دولة فلسطينية.
أما حماس فتريد أن تمارس حقها في خدمة شعبها وإدارة السلطة، دون أن تعترف بـ”إسرائيل”، ودون أن تتخلى عن المقاومة، ودون أن تعترف بالاتفاقيات التي وقعتها المنظمة؛ أي أن حماس تريد أن تفرض شروطاً جديدة لإدارة اللعبة، وهو ما يرفضه الإسرائيليون والأميركان.
ومن الناحية التطبيقية يطالب أبو مازن ومعه قيادة المنظمة وفتح بتشكيل حكومة ترفع الحصار، غير أن “إسرائيل” وأميركا ترفضان رفع الحصار دون الاستجابة لشروط الرباعية، وأول شروط الرباعية هو الاعتراف بـ”إسرائيل”، وهو ما لا يمكن لحماس القبول به.
وهكذا، بطريقة أو بأخرى يصبح معنى “حكومة ترفع الحصار” هو حكومة تعترف بـ”إسرائيل”. ولذلك فإن جوهر تعطيل تشكيل الحكومة ليس مرتبطاً بكيفية تقسيم الكعكة أو بعدد الوزراء لهذا الطرف أو ذاك، لكن بكيفية إدارة عملها تحت الاحتلال الإسرائيلي، من خلال إيجاد معادلة “سحرية” تقبل بها كل من فتح وحماس، ويسكت عنها -على الأقل- الإسرائيليون.
وتنطبق الإشكالية نفسها على مسار التسوية السلمية الذي تعدُّه قيادة المنظمة مسارها الإستراتيجي؛ بينما ترى حماس فيه مساراً عبثياً، وترى في العمل المقاوم مساراً إستراتيجياً. ولهاتين الرؤيتين تطبيقات مختلفة متناقضة على الأرض، مرتبطة بتحديد أولويات المشروع الوطني الفلسطيني، وبكيفية التعامل مع العدو ومع البيئة العربية والدولية.
ومن جهة ثانية تبرز إشكالية عدم وجود مرجعية مؤسسية يحتكم إليها الطرفان، وتحدد أولويات المشروع الوطني، وآليات اتخاذ القرار، وشرعية تمثيل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وآليات التداول السلمي للسلطة.
ومع أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الجهة المفترضة للقيام بهذا الدور إلا أن حماس ومعها حركة الجهاد الإسلامي وغيرها ليست أعضاء في المنظمة، بينما تحتكر حركة فتح قيادة المنظمة منذ أكثر من 42 عاماً (فبراير/شباط 1969).
وبالرغم من أن اتفاق المصالحة ينص على إصلاح منظمة التحرير ومشاركة كافة الفصائل الفلسطينية فيها، إلا أن السلوك السياسي والعملي لقيادة المنظمة كان عادة ما يُعطِّل الاستحقاقات المرتبطة بإصلاح المنظمة وإعادة بناء مؤسساتها، ومحاولة الاستمرار في احتكار قيادتها.
كما أن السلوك السياسي لحماس والجهاد الإسلامي وعدد من الفصائل، لا يسعى فقط للشراكة في قيادة المنظمة، وإنما في إعادة بناء أولويات المشروع الوطني الفلسطيني على أسس ترفض التنازل عن الأرض وتحمي خيار المقاومة، وهو ما يعني إعادة النظر في الاتفاقات التي وقعتها المنظمة وربما إلغاء أو تعديل عدد منها، وهو ما قد يكون محطّ اعتراض شديد من فتح، التي قد تسعى لقطع الطريق على هكذا تغييرات.
ويظهر العامل الخارجي من جهة ثالثة كعامل معوق في عملية المصالحة؛ عندما نجد أنفسنا أمام سلطة فلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وتحت الحصار في قطاع غزة، وهي سلطة مكبلة باتفاق أوسلو الذي يفرض عليها دوراً وظيفياً في حماية الأمن الإسرائيلي ومنع العمل المقاوم؛ بينما تتحكم “إسرائيل” في الحدود، وصادرات السلطة ووارداتها، وتستطيع “إسرائيل” تدمير البنى التحتية، واحتلال مناطق الحكم الذاتي، واعتقال من تشاء، وخنق الاقتصاد، والاستمرار في التهويد، وفرض العقوبات التي تريد، كوسائل ضغط وابتزاز وتركيع سياسي واقتصادي وأمني.
كما تستطيع تعطيل الانتخابات التشريعية، واعتقال مؤيدي تيار المقاومة مثل وزراء حماس ونوابها في المجلس التشريعي، مما يؤدي إلى تعطيل آليات عمل السلطة الفلسطينية.
والعامل الخارجي يمكن تحسسه في النفوذ الأميركي والغربي، سواء في فرض شروط الرباعية، وفي الحصار، ومقاطعة حماس، وفي اعتماد حوالي نصف ميزانية السلطة على المساعدات الخارجية، وفي إشراف دايتون ومايكل مولر على الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية.
وبالإضافة إلى ما سبق فإننا نجد من جهة رابعة أن أزمة الثقة بين فتح وحماس التي تعمقت بين الطرفين في السنوات الماضية تزيد من تعقيد الأمور، وتحتاج إلى الكثير من المبادرات الإيجابية لتجاوز حواجز الخصومة وبناء الثقة بين الطرفين.
نحو مصالحة حقيقية
يتضح مما سبق أن المشكلة أكبر من أن يحلها اتفاق المصالحة، وأن الاتفاق وإن كان أسهم في تقريب العديد من وجهات النظر، وأوجد عدداً من الآليات المقترحة لحل الخلافات وإعادة بناء المؤسسات؛ إلا أن هناك الكثير المطلوب عمله لاتخاذ مجموعة إجراءات جادة على الأرض، تتجاوز المحاولات المعتادة للاستفادة التكتيكية من الاتفاق.
وإذا كان ثمة إرادة لتحقيق مصالحة وطنية حقيقية، فإن هناك أسئلة بحاجة إلى إجابة من أبرزها:
– ما أولويات المشروع الوطني الفلسطيني، وهل يمكن بناء موقف متفق عليه بشأن التعامل مع مشروعي المقاومة والتسوية؟
– كيف يمكن صناعة قرار وطني فلسطيني مستقل، دون تدخل أو ابتزاز إسرائيلي وأميركي…، ودون اشتراطات الرباعية وغيرها؟
– كيف يمكن الوصول إلى “عقد وطني” يُحدّد الثوابت، ويحترم العمل المؤسسي، ويُقر التعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة، وينهي عقلية الهيمنة والاحتكار والتسلط؟
– هل ما زالت السلطة الفلسطينية تصلح قاطرة لإنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة؟ وهل ما زال مسار التسوية يوفر غطاء لذلك؟
– وهل أصبح من الضروري إعادة النظر في وظيفة السلطة ودورها، وكيفية تكييفها لخدمة الشعب الفلسطيني، وليس لخدمة أغراض الاحتلال؟ بما في ذلك مناقشة الأفكار المرتبطة بحل السلطة أو إنشاء سلطة مقاومة.
– ما تصور حماس عن كيفية الجمع بين السلطة والمقاومة؟ وكيفية تطبيق برنامجها في الإصلاح والتغيير تحت الاحتلال خصوصاً في الضفة الغربية؟
– كيف يمكن تحقيق تكامل وتفاعل حقيقي لدور الفلسطينيين في الداخل والخارج، والاستفادة من الطاقات الهائلة المذخورة في هذا الشعب؟ وكيف يمكن توسيع دائرة التفاعل عربياً وإسلامياً ودولياً باتجاه مشروع التحرير والاستقلال؟
تلك بعض الأسئلة برسم الإجابة من صانع القرار الفلسطيني، وهذا يحتاج -بالإضافة إلى الإرادة الصادقة والجدية اللازمة- إلى رؤى ناضجة تقوم بالمساعدة في إعدادها مراكز الأبحاث والتفكير، والمتخصصون والمعنيون من مختلف الاتجاهات.
ويحتاج إلى تكوين رأي عام شعبي ضاغط وفاعل باتجاه إنزال اتفاق المصالحة على أرض الواقع. كما يحتاج إلى نبذ التعصب الحزبي والفئوي والخروج من شرنقته، ليرتقي الجميع إلى مستوى تحدي المشروع الصهيوني، وقبل ذلك وبعده الاستعانة بالله وعدم الاستسلام للمصاعب مهما كانت.
أما إذا ظلت الأمور على حالها، فستظل فرص إنجاح المصالحة الحقيقية ضعيفة، وستظل إمكانات الإفشال والتعطيل قائمة، وسيظل التوظيف للمصالحة تكتيكياً، وسيعبر الوضع الحالي عن حالة انتقال من “الانقسام” إلى “الاقتسام” للمناطق ولدوائر النفوذ، بانتظار إصلاح حقيقي، أو انفجار الوضع من جديد حتى تغلب رؤية طرف وإرادته على الطرف الآخر.
أضف ردا