بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
أخذت ظاهرة الخوف من “الإخوان المسلمين” أو التخويف منهم شكلاً أكثر بروزًا مع ربيع الثورات العربية. وتوافقت على ذلك شخصيات واتجاهات وأحزاب مختلفة معظمها ذو خلفيات يسارية أو ليبرالية أو مرتبط بجهات رسمية، بالإضافة إلى المخاوف المعتادة التي تصدر عن الإسرائيليين والأميركان ووسائل الإعلام الغربية.
وهذه الظاهرة ازدادت مع تصدُّر الإخوان لقيادة التغيير في مصر وتونس واليمن والأردن، ودورهم القوي في ليبيا وسوريا. مع الإشارة إلى حجم الدور الذي يلعبه تيار الإخوان الفلسطينيين الممثل في حركة حماس.
التخويف من الإخوان يكون عادة باعتبارهم عنوانًا للإرهاب والتطرف أو عنوانًا للانغلاق والرجعية والظلامية، أو عنوانًا لمعاداة الحريات وحقوق المرأة، أو عنوانًا للدولة الثيوقراطية وللديكتاتورية باسم الدين.
ولا يخلو الأمر من اتهامات بالعمالة والانتهازية وعدم استيعاب الواقع، وعدم القدرة على تقديم برامج حقيقية لإدارة الدولة والمجتمع والعلاقات الخارجية.
والملفت للنظر أن بعضًا من هذه الاتهامات، لو كان صحيحًا، يكفي وفق نظريات علم الاجتماع والسياسة لأن يندثر الإخوان أو يتحولوا إلى تنظيم هامشي صغير، لا يحفل به الآخرون.
أما أن تتمتع هذه الجماعة بحيوية ودينامية هائلة تجعلها التيار الأول والأوسع جماهيرية في البلدان التي تتوق للتغيير والنهضة والتحرر والديمقراطية والازدهار، بالرغم من مرور أكثر من ثمانين عامًا على إنشائها، فإن هذا يضع الاتهامات وعمليات التخويف موضع نظر أو تشكك، إلا إذا أراد البعض أن يضع علوم الاجتماع والسياسة.. نفسها موضع نظر!!
هناك أسباب عديدة خلف بروز ظاهرة “الإخوانوفوبيا”، أهمها الجهل بفكر وأدبيات الإخوان المسلمين، إذ إن الكثير من أصحاب الكتابات التي نقرؤها حول الإخوان والكثير من متصدري الحديث عنهم في الإعلام، ممن يصفون أنفسهم بالخبراء، لا يكلفون أنفسهم عناء قراءة كتب مؤسس الإخوان حسن البنا ولا الكتب المعتمدة من الجماعة.
وهؤلاء يخلطون، بحسن نية أو سوء نية، بين القراءات المجتزأة وبين ما ينسبه الآخرون من خصوم وأعداء للإخوان، وبين تصريحات أو سقطات أو فلتات لسان لأشخاص محسوبين على الجماعة، لكنهم لا يمثلون خطها الرسمي المعتمد.
فتتشكل عن الإخوان صورة نمطية غير موضوعية، في الوقت الذي لا تتاح فيه للإخوان فرصة التعريف بأنفسهم بالدرجة نفسها التي تتاح للآخرين، بينما يكتفي الإنسان العادي بما يسمع ويشاهد.
وكثيرًا ما يتم التركيز مثلاً على كتابات سيد قطب دون غيره من مفكري الإخوان، ويتم تقديمه باعتباره “أبًا” للفكر التكفيري، دونما اعتبار للظروف الموضوعية التي كتب فيها سيد كتاباته، مع نزع العديد من نصوصه عن سياقها.
ولكن قراءة علمية متأنية لفكر سيد قطب تُظهر أنه وإن كان قد استخدم عبارات قوية وحادة في وصفه للأنظمة القائمة وضرورة تغييرها، فإنه لم يكفر الأفراد ولا المجتمع، وأنه شجع الاختلاط بالناس والتعامل معهم بروح العطف والاستيعاب والرحمة.
ولم يكن يدعو أبدًا عندما دعا إلى “العزلة الشعورية” إلى الانعزال عن الناس وهجرتهم، وإنما قصد احتفاظ المسلم في بيئة غير ملتزمة بمشاعر الإسلام وبخلقه ودينه وسلوكه.
وكان ينبغي قراءة سيد بمجمل كتاباته في “تفسير الظلال” و”أفراح الروح” و”العدالة الاجتماعية في الإسلام”، وليس من خلال قراءة انتقائية مجتزأة لبعض النصوص في كتاب “معالم في الطريق” أو غيره.
ومع ذلك فإن كثيرًا من كتّاب الإخوان ومفكريهم قاموا بأدوار كبيرة في توضيح ما علق بأية أفكار متطرفة منسوبة إلى سيد، مؤكدين على الخط الوسطي المعروف لأهل السنة.
ومن ناحية ثانية يبرز الاختلاف الأيديولوجي أحدَ أسباب الظاهرة، إذ إن الدولة الحديثة المعاصرة في العالم العربي والغربي تبنت أنظمة علمانية تفصل الدين عن الدولة، هذا إن لم تكن معادية للدين نفسه، واستندت إلى أيديولوجيات قومية واشتراكية وليبرالية ويسارية ووطنية.
وفي الوقت الذي استطاعت فيه التيارات التي تقود الدولة الحديثة إخضاع واستيعاب تيارات التديّن التقليدي، فإنها وجدت نقيضًا وتحديًّا كبيرًا من تيارات الإسلام الحركي التي يتصدرها الإخوان والتي تقدم رؤى تغييرية وإصلاحية جادة تستند إلى المرجعية الإسلامية، وتملك الكثير من الرموز والكفاءات المستوعبة للواقع ومتطلبات العصر والمستوعبة أيضا لتطلعات شعوبها.
وهي بغض النظر عن مدى قدرتها على تنفيذ برامجها، شكلت كابوسًا للآخرين، بسبب انتماء أو تعاطف قطاعات واسعة من المجتمع مع رؤيتها.
ولأن عددًا من التيارات القومية واليسارية والليبرالية ربطت بين نفسها وبين الحداثة وتشكيلات الدولة العلمانية الحديثة التي نشأت في الغرب على هذه الأسس، فإنها وجدت في التيار الإسلامي الحركي نبتًا نشازًا يخالف العلمانية لجمعه بين الدين والدولة، وينتمي إلى ما تسميه عصور “الحكم الديني” وعهود “السلاطين والجواري”!! وربطت بينه وبين التخلف والرجعية والظلامية دون أن تدرك (أو دون أن ترغب في الإدراك) أن التيار الإسلامي الحركي يقدم قراءة نقدية واعية لعصور التخلف ولأشكال الحكم الوراثي والمتسلط التي ظهرت باسم الإسلام.
كما أن هذا التيار يفرق بين الإسلام بحيويته ونضارته وصلاحيته لكل زمان ومكان وبين التطبيقات السيئة التي ظهرت باسمه في عصور التخلف.
أما السبب الثالث فيعود إلى حملات التشويه المبرمج والدعاية المعادية التي تعرض لها الإخوان سنوات طويلة في العديد من البلدان العربية، وخصوصًا في أثناء حكم عبد الناصر في مصر خلال الفترة 1954-1970، حيث تم اتهام الإخوان بالعمالة والرجعية ومعاداة المد القومي والوطني وما إلى ذلك.
وفي الوقت الذي كانت حكومات عربية وأجنبية وأحزاب مختلفة ترعى “شيطنة” الإخوان في كافة وسائل الإعلام، كان الإخوان يعانون من المطاردات والملاحقات الأمنية ومحاولات الاجتثاث والتهميش، ولا يُسمح لهم بالدفاع عن أنفسهم أو توضيح وجهات نظرهم.
وهذا ينطبق فترات طويلة على بلدان كمصر والعراق وسورية وليبيا… وكان هناك بعض الاستثناءات في بعض البلدان لكنها كانت محدودة الإمكانات والتأثير.
ومن جهة رابعة فإن القراءة الانتقائية المتعمدة لتاريخ الإخوان وتجربتهم أضفت مزيدًا من المخاوف تجاههم، كإنشائهم التنظيمات السرية والعسكرية، واغتيال رئيس وزراء مصر السابق النقراشي باشا، ومحاولة اغتيال عبد الناصر…
وهذه القضايا كان لها ظروفها الموضوعية، وبعضها جرى تضخيمه ولم تثبت صحة بعضها الآخر، لكن كثرة ترداد هذه المقولات جعل تداولها يتم وكأنها حقائق مُسلَّمة.
فمثلاً لا يذكر الكثيرون ممن يكررون هذه الاتهامات أن التنظيم الخاص الذي أنشأه الإخوان في مصر سنة 1940 كان هدفه طرد الاستعمار البريطاني من مصر ودعم الجهاد في فلسطين وغيره وهو ما قام بممارسته فعلاً أثناء حرب 1948، وفي أثناء المقاومة المصرية في قناة السويس 1951-1954. كما لا يتحدثون عن عشرات علامات الاستفهام التي شابت اتهامهم بمحاولة اغتيال عبد الناصر.
ومن ناحية خامسة، فإن خوف القوى الغربية و”إسرائيل” من “الإسلام السياسي الحركي” بسبب الخلفيات الدينية والثقافية والتاريخية والسياسية الغربية والصهيونية، وبسبب الخشية من صعود هذا التيار المعادي بشكل جذري ومبدئي للمشروع الصهيوني في فلسطين، وهو تيار يحمل مشروعًا حضاريا إسلاميا لا يتوافق بالضرورة مع معايير الدولة العلمانية المعاصرة وفق الرؤية الغربية، ويرفض الهيمنة الغربية على المنطقة، كما يدعو إلى تغيير أو إصلاح الأنظمة العربية الفاسدة والمستبدة المتحالفة مع الغرب.
كل ذلك جعل هذا التيار موضع “الفيتو” والعداء الغربي الذي لعب دورا كبيرا في تشويه صورة الإسلاميين على مدى العقود الماضية، كما تحالف مع الأنظمة القائمة لمنع وصولهم للسلطة، حتى باستخدام أدوات ترفضها المعايير والقيم الغربية كالديكتاتورية وقمع الحريات والتعذيب وتزوير الانتخابات.
وأصبحت أحد “أوراق الاعتماد” التي يقدم بعض حكام العرب بها أنفسهم للغرب قدرتهم على مطاردة الإسلاميين وكبحهم وتهميشهم. كما أخذت العديد من الأجهزة الرسمية وأجهزة المخابرات تُعظم من قيمتها وأهمية دورها في عيون الغرب، من خلال التخويف من الإخوان ومخاطرهم المحتملة.
أما الجانب السادس فهو متعلق بالإخوان أنفسهم فهم بشر لهم أخطاؤهم، ولهم ممارساتهم واجتهاداتهم التي قد ينجحون فيها أو يفشلون، وهناك من أعضائهم من لا يقدم الصورة الإيجابية المرجوة عنهم، وربما دفعت بعضهم المنافسات السياسية والخصومات الحزبية إلى نوع من استعداء الآخرين، وربما أدت الروح الحزبية والانتماءات التنظيمية إلى عدم القدرة على استيعاب الكفاءات والطاقات من خارج صفهم فضلاً عن استيعاب الناس العاديين أو خصومهم ومخالفيهم.
بل إن كثيرين من أعضائهم كانوا يستنكفون عن العمل خصوصًا بعد المرحلة الجامعية لأسباب مختلفة مرتبطة بالإحباط وعدم قدرة الجماعة على تلبية تطلعاتهم أو استيعاب طاقاتهم أو قديم رؤية مقنعة للتعامل مع التحديات التي يواجهونها.
وفي أحيان أخرى، ربما كان سقف الشعارات التي يرفعها الإخوان أعلى بكثير من إمكاناتهم ومن قدراتهم على تنزيلها إلى برامج عمل جادة. ثم إن توسع جماعة الإخوان في كلّ البلدان العربية وعشرات البلدان الإسلامية والعالمية أنشأ أجواء مختلفة من العمل والاجتهاد فيما بين الإخوان أنفسهم، وأظهر قدرات مختلفة في التعامل مع الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية وفي طريقة تعاملهم مع الأنظمة وتعامل الأنظمة معهم.
وظهرت مسلكيات إخوانية تتراوح بين الاعتدال والتشدد، وبين المهادنة والمواجهة، وبين البطء والاستعجال، وبين القدرة على استيعاب الجماهير وقيادتها والفشل في فهم ديناميكيات العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
وربما ضاعفت الإمكانات التنظيمية والقدرة التعبوية الواسعة للإخوان من خشية قوى سياسية وشخصيات مستقلة من استحواذ الإخوان على ساحات العمل، وحرمان الآخرين من فرص عادلة في المشاركة وتحمل المسؤولية.
وبالإضافة إلى ما سبق أضفى لجوء الإخوان للعمل السري ومحاولاتهم أحيانًا اختراق القوات العسكرية في بلدانهم نوعًا من الغموض والمخاوف حول حقيقة برنامجهم وأهدافهم النهائية. النماذج التي تم تقديمها للحكم الإسلامي في أفغانستان وإيران والسودان -والتي انشغل الإعلام الغربي والعربي في تقديمها على أنها نماذج فاشلة، والتخويف من قدوم الإخوان على أساسها- هي نماذج لا ننكر الحق في نقدها واستجلائها وعدم الدفاع عن أي من أخطائها.
ولكننا ننبه أيضا إلى أن هذه الأنظمة لم تلق فرصًا عادلة في الدفاع عن نفسها في وسائل الإعلام.
ثم إن الإخوان المسلمين يقدمون رؤية مختلفة لعملية الإصلاح وبناء الدولة عن تلك التي يقدمها “النموذج الطالباني” في أفغانستان، وعن النموذج الإيراني ذي المرجعية الشيعية.
وتبقى التجربة في السودان ذات خلفية إخوانية، ينبغي الوقوف عندها ومراجعتها، وإن كان الخط الحاكم في السودان قد انفصل عن التنظيم الدولي للإخوان منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين، ولم يعد يمثل خطهم الرسمي المعتمد، غير أنه يعد امتدادًا لفكرهم وتيارهم بشكل أو بآخر.
وعلى أي حال، فإذا كان خصوم الإخوان يرفضون اتهام النماذج اليسارية والليبرالية والقومية التي يتبنونها، بحجة أنهم لا يتحملون مسؤولية التطبيقات السيئة لها، فمن باب أولى أن يقبلوا عدم تحمل الإخوان وباقي الإسلاميين مسؤولية أية تطبيقات سلبية للنموذج الإسلامي قام بها آخرون. وهذا يعني ألا يُعفى الإخوان من مسؤولية أية تطبيقات خاطئة قاموا هم بها.
ومن الملفت للنظر أن معظم أولئك الذين يقومون بالتخويف من الإخوان سواء كانوا ليبراليين أو قوميين أو يساريين أو غيرهم، جاءت تياراتهم إلى الحكم على ظهور الدبابات في عالمنا العربي، ولم يصل أي من أصحاب هذه التيارات بانتخابات حرة نزيهة مباشرة.
وينطبق ذلك على الاتجاه الناصري القومي الاشتراكي في مصر، وعلى نظامي البعث القوميين الاشتراكيين في العراق وسورية، وعلى الأنظمة التي رفعت شعارات يسارية واشتراكية كما في نظام اليمن الجنوبي ونظام النميري في السودان ونظام هواري بومدين في الجزائر، ونظام القذافي في ليبيا. كما ينطبق ذلك على نظام ولد الطايع في موريتانيا، ونظام علي عبد الله صالح في اليمن.
كذلك الحال بالنسبة للأنظمة نفسها -التي استمرت في استبدادها- حتى بعد أن أخذت تغيّر جلدها باتجاه الليبرالية وباتجاه الدخول في بيت الطاعة الأميركي. وبالرغم من أن القدوم على ظهور الدبابات قد لا ينطبق على بورقيبة عند استقلال تونس، فإنه ينطبق عليه وعلى خلفه بن علي عندما حكما في السنوات التالية باسم الجميع وغصبًا عنهم.
أما الأنظمة الوراثية فهي تحكم بنفسها ضمن خطوط معروفة بليبراليتها، وباستبعادها للخط الإسلامي الحركي وخصوصًا الإخوان. وقد تسمح للإخوان بممارسة العمل كما في الأردن والكويت ولكن ضمن سقف لا يمكن تجاوزه.
إن على الذين يقومون بالتخويف من الإخوان، من رافعي الشعارات الليبرالية والقومية واليسارية، أن يخبرونا في تجربة الستين سنة الماضية، عن أي نظام عربي حمل فكرهم، واحترم الحريات وحقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة!!
الأنظمة العربية بتياراتها وخلفياتها وشعاراتها المختلفة، التي كانت تخيف الآخرين من الإخوان ومن الإسلاميين، هي التي مارست قمع الحريات وزوّرت الانتخابات وأنشأت أنظمة مخابراتية وأقامت نماذج للظلم والفساد في بلدانها. وكان يجمعها حالة العداء للإخوان وللإسلاميين، فضلاً عن استعدائها لشعوبها، وعدم ثقتها بقدرتها على الصمود في أول اختبار حقيقي أمام صناديق الاقتراع.
لقد مارست الأنظمة قمع الحريات بحجة الخوف على الحرية، وقامت بسرقة السلطة بحجة الخوف على السلطة من الإسلاميين، وقامت بإنشاء أنظمة فاسدة ومستبدة بحجة الخوف من احتمال الوقوع تحت “ظلم” الإسلاميين.
وبحجة الخوف من “الضحية” كان الجلاد يقوم بالإمعان في إيذائها وتعذيبها. كان ذلك أمرًا خياليا ولكننا رأينا بأعيننا كيف كان ذلك يحدث في تونس ومصر وليبيا. وكيف كان يجد هذا الطرح منظّرين ممن يُسمّون مفكرين ورجال إعلام وأساتذة جامعات.
وتجدر الإشارة إلى أن معظم التيارات والأحزاب العلمانية اليسارية والليبرالية والقومية مارست زعاماتها سلوكا ديكتاتوريًّا على أعضائها، وشكلت لنفسها زعامات تاريخية هرمت، وهرمت تنظيماتها معها.
واستخدمت هذه القيادات أساليب الفصل والإقصاء وسرقة إرادة قواعدها الحزبية وتعطيل الانتخابات الداخلية.
وتظهر أي مقارنة علمية موضوعية أن الإخوان -وإن كانت لديهم مشاكلهم الداخلية- متقدمون بفارق شاسع عن غيرهم من الأحزاب في السلوك “الديمقراطي” الشوري الداخلي وفي العملية الانتخابية الداخلية والتصعيد القيادي الذي يسير بشكل منتظم كل ثلاث أو أربع سنوات في معظم أقطارهم. وهو من الأسباب التي مكنتهم من الحفاظ على تماسكهم واستيعابهم للمتغيرات والحضور الشبابي في أوساطهم.
حاولت الأنظمة الرسمية والتيارات المعادية للإسلاميين أن تثير فزع الناس من الإخوان باعتبارهم أعداء الحريات، وأنهم يستخدمون الديمقراطية لمرة واحدة كأداة ينقضّون بها على بنيان الدولة، ليقهروا بعد ذلك الناس باسم الدين.
وبالطبع فمن حقّ الناس على الإخوان وعلى الإسلاميين أن يوضحوا لهم فهمهم لهذه المسائل، ولكن الذي كان يحدث أن تكمم أفواه الإخوان ويُمنعون من التعبير بينما كانت تتوالى الاتهامات عليهم.
وكان يجري خلطٌ متعمد يحاول أن يربط الأيديولوجيات العلمانية الليبرالية والاشتراكية والقومية بالحريات وحقوق الإنسان، ويحاول أن يربط الطرح الإسلامي للدولة والمجتمع بمعاداة الديمقراطية والحريات وحقوق المرأة.
والإخوان (الإسلاميون بشكل عام) كانوا يرفضون هذا الخلط، إذ إنهم يرون في طرحهم الإسلامي استجابة حقيقية لإرادة الأمة التي اختارت أغلبيتها الساحقة الإسلام، وأنه يتوافق مع تراث هذه الأمة وثقافتها وتركيبتها النفسية والحضارية، وأنه بحسب رأيهم الأقدر على تعبئة الجماهير وطاقاتها في عملية البناء والتقدم، وفي معركة تحرير الأرض والإنسان.
وصحيح أن رؤية الإسلاميين لممارسة الحكم لا تتوافق تمامًا مع شكل الأنظمة الديمقراطية السائدة لأنهم ينطلقون من منظومة عقائدية وفكرية وحضارية مختلفة، ومن رؤية ناقدة لعورات النظام الغربي، تتمثل حسب رأيهم ببشاعة أنظمته الشيوعية، وجشع أنظمته الرأسمالية، وانحطاط أخلاقه في التعامل مع المرأة والأسرة والمجتمع، وانحرافه عن المنهج القويم الذي اختطه الله لعباده في الأرض.
كما يرون أن الأنظمة الديمقراطية العلمانية نفسها تختلف في تطبيقاتها للديمقراطية، وفي أنظمتها الملكية والرئاسية والبرلمانية، وفي انتخاباتها النسبية ودوائرها الفردية والجماعية، وفي مرجعياتها الثقافية والأيديولوجية.
وفي الوقت نفسه تخضع العديد من الديمقراطيات الغربية لنفوذ رجال الأعمال والشركات الكبرى ولوبيات الضغط الصهيوني والمسيحي المحافظ وأصحاب الشبكات الإعلامية، بحيث تصبح أقلية صغيرة هي المتحكِّمة في صناعة القرار في نهاية الأمر.
ولكن الإسلاميين في مجملهم يؤيدون الانتخابات الحرة النزيهة والتداول السلمي للسلطة، ويؤمنون بالتدرج وعدم الإكراه في الدين. أما إذا اختار الشعب برنامجهم ورؤيتهم فمن حقهم تطبيق هذا البرنامج، ومن حقهم على غيرهم أن يحترم الجميع إرادة الأمة.
ومن جهة أخرى، يتم التخويف من الإخوان من خلال الربط “غير البريء” بينهم وبين حركات التطرف والتكفير في عالمنا الإسلامي.
ويُتّهم الإخوان بتبني هذه الحركات أو بأن هذه الحركات خرجت من تحت عباءتهم. وبالرغم من أن للإخوان كتبهم وأدبياتهم التي تُعبِّر بشكل واضح عن مخالفتهم للأفكار المتطرفة والفكر التكفيري واستباحة الدماء، كما في كتابات حسن البنا وعبد القادر عودة ومصطفى السباعي وعبد الكريم زيدان والقرضاوي والغنوشي وفتحي يكن وفيصل مولوي… وغيرهم، فإن هناك إصرارًا غريبًا لدى خصوم الإخوان على تحميلهم مسؤولية الآراء الغريبة والشاذة.
وبالرغم من أن الإخوان وقفوا في وجه فكر “جماعة التكفير والهجرة” في مصر منذ ستينيات القرن العشرين، كما خالفوا فكر “القاعدة” وكانوا في العراق بالذات أحد أكبر ضحايا اغتيالاتها وعملياتها التفجيرية، فإن مخالفيهم ظلوا يتهمونهم بالتطرف والإرهاب وغيره.
إن المنطق يقول إن الإسلام الصحيح غير مسؤول عن كافة التيارات التي خرجت باسمه من خوارج وجهمية ومعتزلة وقرامطة… والمسيحية الحقة غير مسؤولة عن التطرف الصليبي والإكراه الديني ومحاكم التفتيش.
كما أن أفكار الثورة الفرنسية ليست مسؤولة بالضرورة عن قادتها الذين ذبحوا بعضهم بعضًا باسم الحرية والإخاء والمساواة، ومفكري الديمقراطيات الغربية في فرنسا وأميركا وبريطانيا غير مسؤولين عن السلوك الاستعماري البغيض لقادتهم السياسيين والعسكريين، وكارل ماركس ليس مسؤولا بالضرورة عن ممارسات لينين وستالين وماو تسي تونغ…
وهكذا، فالإخوان مسؤولون عن أنفسهم، ولا ينبغي أن يتحملوا مسلكيات أناس خرجوا عنهم، وخاصموهم وخالفوهم في الفكر والممارسة، بل ربما عادوهم وحاربوهم.
إشكالية التطرف التي تتهم الأنظمة بها الإخوان تتحمل الأنظمة نفسها جزءًا كبيرًا من مسؤوليتها. فعندما تُقام أنظمة ظالمة متحالفة مع الغرب ومتهادنة مع الاحتلال الإسرائيلي، ومحاربة لشعوبها، وتغلق أبوابها في وجه أي إصلاح حقيقي أو تداول سلمي للسلطة، فإنها تدفع الناس إلى درجات مختلفة من الإحباط والانفعال، وهو ما قد يؤدي ببعضهم إلى ردود فعل عنيفة وغير متزنة.
ولو أن هذه الأنظمة أوجدت أجواء صحية وبيئات حرية مناسبة لربما نزعت مبررات التطرف بأشكاله المختلفة. ثم إن التيار الساحق الأعم في الوسط الإخواني ووسط الإسلاميين استمر يمثل تيار الوسطية والاعتدال، حتى وهم يعانون ظروف قاسية من الظلم والتعذيب في السجون والمطاردات وأعواد المشانق.
ولعل كتاب “دعاة لا قضاة” الذي كتبه حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين الذي خلف حسن البنا، وهو في أصعب الظروف في السجن، يشير إلى الرؤية الوسطية المعتدلة للإخوان، التي اعتمدتها قيادتهم وربّت عليها قواعدها حتى في ظروف القهر الاستثنائية.
ومن الجوانب التي يتم تخويف الناس من الإخوان بسببها افتقادهم للبرنامج الحقيقي لإدارة الدولة، وعدم تقديمهم للحلول لمشاكل المجتمع.
وبالطبع فمن حق الناس أن تطمئن إلى قدرة الإخوان على تقديم رؤى وتصورات وبرامج جادة وحقيقية.
ولكن من الملاحظ أن هذه التهمة “موضة قديمة” تنقد أداء الإخوان ربما قبل أكثر من ثلاثين عاما. والذي يتصفح بشكل جاد البرامج الانتخابية للإخوان في العديد من الأقطار يلاحظ أنها تتميز بالشمول وتعالج معظم هموم الدولة والمجتمع بغض النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف معها.
وقد استفاد الإخوان طوال السنوات الماضية من وجودهم القوي في الجامعات والنقابات المهنية وتقديم الآلاف من كوادرهم في شتى المجالات بالإضافة إلى آلاف آخرين انضموا إليهم من خريجي الجامعات الأجنبية.
وربما مثل قطاع التكنوقراط من الإخوان ومؤيديهم أحد أكبر القطاعات مقارنة بغيره من التيارات والأحزاب، وإن كان لم يحظ بفرص عادلة من العمل في مؤسسات الدولة بسبب “الحرب” التي تشنها مؤسسات الدولة عليهم في العديد من الأقطار العربية.
من ناحية أخرى، وبعد أكثر من خمسين عاما كان الإخوان فيها في معظم الأحيان ضحايا الأنظمة العربية، المتحالفة مع أميركا، يأتي البعض ليخوف بالإخوان على أساس أنهم حلفاء أميركا الجدد. لقد فرضت الثورات وفرض رجالها أنفسهم فرضًا في عملية التغيير، وهم الذين أسقطوا الأنظمة المتحالفة مع أميركا، وهم الذين جاؤوا رغمًا عن أميركا وحلفائها.
صحيح أن الإخوان يقدمون الإسلام بشكله المعتدل ويؤمنون بالتدرج في الخطوات، وبعدم الاستعجال في استعداء الآخرين، وبالتركيز على الإصلاح الداخلي في المراحل الأولى، ولكنهم دفعوا طوال نصف قرن أو يزيد ثمن عدائهم للسياسة الأميركية.
إن السياسة الأميركية ستسعى لاستيعاب الواقع الجديد وإعادة ترتيبه لصالحها، وستحاول “تدجين” الإخوان، ولكنها قد تصطدم عاجلاً أو آجلاً بالمشروع الحضاري النهضوي الذي يقدمه الإخوان.
وهذا سيعتمد بالتأكيد على قدرة الإخوان على الاستمرار في الالتزام بمشروعهم، وعدم وقوعهم في حبائل السلطة ومغرياتها، كما سيعتمد على مدى إصرار أميركا على محاولة فرض سياساتها وإرادتها على المنطقة.
“الإخوان المسلمون قادمون”!! قد يصح فيلمًا هنديًّا!! ولكنه لم يعد صالحًا للتسويق في عهد الثورات العربية، ولم يعد التخويف بالإخوان يحمل قيمة حقيقية، فليتم احترام الشعوب وإراداتها، وليوضع الإخوان على المحك وتحت اختبار التجربة، فإن نجحوا فقد خدموا دينهم وبلادهم وشعوبهم، وإن فشلوا فستنتهي مظلمتهم ويزول هاجسهم.
وأخيرًا، ومهما يكن من أمر فالإخوان المسلمون مطالبون بتوضيح مواقفهم وكشف ما علق بهم من شبهات واتهامات، وممارسة النقد الذاتي لتجاربهم، وتحمل المسؤولية تجاه أخطائهم، وأن يؤكدوا للجميع أنهم ليسوا ملائكة وأنهم لا يحتكرون الحق، وأنهم يحترمون الاختلاف والتعددية، ويقدمون مصالح الأمة على المصالح الشخصية والحزبية والفئوية، وأنهم يقدمون رؤية نهضوية متكاملة يخرجون بها من إطار الشعارات إلى البرامج التفصيلية الجادة.
أضف ردا