تقدير استراتيجي (43) – آذار/ مارس 2012
ملخص:
لم يكن طرح خيار المقاومة الشعبية ذات الطابع السلمي مستجداً أو وليد اللحظة، فقد كان مطروحاً طيلة المرحلة الماضية، إلاّ أن الزخم الذي حظيت به المقاومة المسلحة إبان انتفاضة الأقصى حشر هذا الخيار في زاوية هامشية، وأضعف فاعلية الدعوة إليه، في ظل أشكال العدوان الإسرائيلي التي صبت حممها مدراراً على الفلسطينيين صباح مساء.
لكن خيار المقاومة الشعبية بدأ يستعيد شيئاً من زخمه النظري، في الآونة الأخيرة في ظل تعطل المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، وحالة التهدئة السائدة نسبياً في قطاع غزة، مما جعل المقاومة الشعبية القاسم المشترك والحل التوافقي المتاح، في هذه المرحلة الحساسة من عمر الفلسطينيين.
ومع ذلك، فإن العوائق والتحديات التي تواجه الفلسطينيين، فصائل وشرائح شعبية، وما يرتبط بذلك من رؤى وحسابات، يجعل من خيار المقاومة الشعبية أقرب إلى التنظير السياسي، ويختزل الدعوة إليه في الجانب الشعاراتي من الناحية العملية.
موقف حركة فتح:
أطلقت حركة فتح موقفها حيال ضرورة تفعيل المقاومة الشعبية السلمية ضد الاحتلال، إثر انسداد الأفق التفاوضي وانعدام فرص التسوية جراء السياسات الإسرائيلية المتشددة التي تبنتها حكومة نتنياهو، ورفضها المطلق تجميد الاستيطان ولو لفترة محدودة.
وكان الرئيس محمود عباس الأكثر تبنياً وتنظيراً للفكرة انطلاقاً من الاعتبارات التالية:
1. ممارسة الضغط على الاحتلال، عبر إعادة تفعيل العنصر الشعبي الذي يشكل عامل إزعاج كبير لسياسة ومخططات الاحتلال.
2. التغطية على فشل المشروع التفاوضي، عبر الإيحاء بفتح الخيارات الوطنية الكفاحية، التي يتم تقزيمها واختزالها في المقاومة الشعبية السلمية المجردة.
3. محاولة تحريك المياه الدولية الراكدة، بهدف إعادة العمل على المسار الفلسطيني – الإسرائيلي والتدخل لتليين المواقف الإسرائيلية المتشددة.
موقف حركة حماس:
لم يلق خيار المقاومة الشعبية قبولاً في أجندة التفكير السياسي لحركة حماس إلاّ في الآونة الأخيرة، وعلى الأخص إبان اتفاق المصالحة الفلسطينية الذي تم توقيعه في القاهرة مايو/ أيار 2011، وجولات الحوار التي أعقبته بين حركتي فتح وحماس. وذلك للاعتبارات التالية:
1. تخفيف الضغط عن أبناء وكوادر الحركة في الضفة الغربية، ومنحهم فرصة التقاط الأنفاس وإعادة البناء والتكوين والمشاركة في الفعاليات الجماهيرية ضد الاحتلال.
2. بناء حالة توافقية مع حركة فتح تسمح بإدارة الصراع مع الاحتلال بالحد الأدنى، بهدف تحريك الساحة الكفاحية الراكدة بفعل الانقسام، والسعي لتدشين علاقة جديدة بين الحركتين تقوم على أسس الشراكة خلال المرحلة المقبلة.
3. تغيير الصورة النمطية في الذهنية الدولية عن حماس التي ارتبطت بالعمل المسلح وتهم الإرهاب، ما يسمح للحركة بمزيد من التواصل وبسط الجسور مع الدوائر السياسية والبرلمانية في الغرب.
موقف الفصائل:
تعيش القوى والفصائل الفلسطينية حالة تابعة لمواقف الفصيلين الكبيرين (فتح وحماس)، فالفصائل ذات الخلفية الإسلامية لا تبدي أي حماسة لانتهاج المقاومة الشعبية، وتشدد على تمسكها بالمقاومة المسلحة، فيما تتبع فصائل منظمة التحرير مواقف حركة فتح ذاتها تأييداً لهذا الخيار.
الموقف الإسرائيلي:
لا تخفي دوائر الاحتلال خشيتها من اعتماد خيار المقاومة الشعبية، إذ إن قدرتها على إسباغ الشرعية على قمع المقاومة السلمية أضعف من قدرتها على مواجهة المقاومة المسلحة، وهو ما يعني فقدان الأساس الأخلاقي والإنساني، في سياق المواجهة غير المتكافئة التي يستخدم فيها الاحتلال أدوات القمع ضد الصدور الفلسطينية العارية والحجر الفلسطيني المجرد. ولم تتأخر “إسرائيل”، وفي مناسبات متعددة، عن تحذير السلطة من مغبة إطلاق يد الفلسطينيين ضد قوات الاحتلال والمستوطنين، والسماح بالتظاهرات الشعبية في عموم الضفة الغربية، متوعدة بفرض إجراءات عقابية ضدها. وتعوّل “إسرائيل” أكثر ما يكون على الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة التي تبدي التزاما حديديا بالتنسيق الأمني، وصرامة فائقة في التعاطي مع أي حراك جماهيري ضد الاحتلال والمستوطنين.
الدوافع والموجبات:
تبدو مبررات استدعاء المقاومة الشعبية وجيهة إلى حد ما في ضوء الاعتبارات التالية:
1. انسداد آفاق المقاومة المسلحة على المستوى العملي والميداني في الضفة والقطاع بحكم الانقسام، الأمر الذي يدعو للبحث عن آليات كفاحية بديلة متوافق عليها وطنيا.
2. ضرورة مسايرة روح وواقع الثورات الشعبية العربية، التي قدمت أروع النماذج في كيفية تغيير الواقع عبر استنهاض البعد الجماهيري، بعيداً عن اللجوء إلى العنف المسلح وأدواته.
3. انشغال الشعوب العربية في ترتيب بيتها الداخلي، ما يجعل التعويل على دور عربي شعبي واسع لإسناد القضية الفلسطينية ومواجهة الاحتلال خارج السياق، ويفرض التعاطي الذكيّ مع معادلة الصراع الراهنة مع الاحتلال عبر انتهاج أساليب غير عنفية.
4. ضرورة قطع الطريق أمام مخططات الاحتلال، الذي يحاول تصدير أزماته ومشكلاته الداخلية إلى الداخل الفلسطيني، عبر حملات التصعيد العسكري الميداني بين الفينة والأخرى، والتي يبنيها على ذرائع إطلاق الصواريخ الفلسطينية والفعل العسكري المسلح.
5. ضرورة إبقاء روح المقاومة حية ومتقدة في نفوس الفلسطينيين، واستنهاض هممهم التي تراخت بفعل الانقسام ومخلفاته وموروثاته، بما يضمن مشاركة مختلف القطاعات الشعبية في المعركة مع الاحتلال.
6. ضرورة إحراج الاحتلال دولياً، والعمل على تشويش وإرباك مخططات التهويد والاستيطان، إذ إن كل يوم يمر دون فعل كفاحي فلسطيني يُنقص من قدرة الفلسطينيين ككل على مواجهة مخططات وإجراءات وجرائم الاحتلال، ويجعل مهمتهم في كبح التغول الإسرائيلي على الأرض والمقدسات أكثر صعوبة.
7. ضرورة الخروج من مأزق تناقض البرامج والأجندات الفصائلية، عبر التوافق على برنامج عملي لمواجهة الاحتلال يلقى تأييداً وتجاوبا من الجميع، ويضمن قبول ومشاركة الفصائل الفلسطينية دون استثناء.
نظرية دون تطبيق:
لم يلامس الوضع الميداني حتى الآن جهدا كفاحياً فلسطينياً يتوسل أسلوب المقاومة الشعبية رغم توافق الحركتين الكبيرتين (فتح وحماس) على ذلك إبان حوارات المصالحة الأخيرة، فالأمر ما زال أسيرا لمنطق النظرية والشعار المجرد، ولم يغادر بعد مربع التنظير السياسي والإعلامي.
ومما يبدو فإن عدم تبلور أي اتجاه فلسطيني حقيقي نحو تفعيل دعوات المقاومة الشعبية يرجع أساسا إلى استمرار حال الانقسام والانفصال بين الضفة والقطاع، ورغبة طرفي الانقسام في الحفاظ على مصالحهما السياسية والأمنية التي تكرست طيلة السنوات الماضية.
ومن هنا فإن دعوى المقاومة الشعبية سوف تراوح في حدودها الضعيفة الراهنة على شاكلة مقاومة قريتي بلعين ونعلين، ولا يُتوقع أن تتطور إلى آماد أبعد أو آفاق أرحب على المدى المنظور على الأقل في ظل استمرار الانقسام الفلسطيني الفعلي.
ومع ذلك، فإن التعويل على إحداث انطلاقة حقيقية وقفزة كبرى تجاه تعميم أسلوب المقاومة الشعبية حال طيّ ملف الانقسام مستقبلا لا يبدو مشجعاً جداً، كما أن المعطيات الحالية الواقعية السياسية والميدانية لا تدفع باتجاهه.
سيناريو التصعيد:
في خلفية الاحتمالات والسيناريوهات ذات العلاقة ينتصب احتمال بناء توافق وطني فلسطيني على تفعيل المقاومة الشعبية خلال المرحلة المقبلة، انطلاقاً من قناعة السلطة الفلسطينية وحركة فتح والفصائل الموالية لها من أن استمرار العيش على أطلال المفاوضات، يشكل انتحاراً وطنياً لا يمكن اعتماده بشكل مفتوح في ظل الظروف والتحديات الراهنة.
وتعزز معطيات الواقع هذا السيناريو نظرياً، من حيث انقلاب “إسرائيل” على اتفاقيات أوسلو والالتزامات الواردة فيها حول صلاحيات السلطة، ودوام استباحتها للضفة الغربية وامتهانها لوجود السلطة هناك، إلا أن خشية قيادة السلطة وحركة فتح من التداعيات المحتملة لفتح آفاق المقاومة الشعبية أمام الفلسطينيين، سياسياً واقتصادياً، ورغبتها في قطع الطريق أمام أي فرصة لاندلاع انتفاضة شعبية في مواجهة الاحتلال تضعف أو تكاد تلغي تماماً فرص تحقق هذا السيناريو على أرض الواقع.
العقبات والتحديات:
تتمثل أهم العقبات والتحديات التي تواجه اعتماد وتفعيل خيار المقاومة الشعبية في التالي:
1. خشية السلطة من سطوة الغضب الإسرائيلي، الذي يستتبع فرض عقوبات سياسية واقتصادية وميدانية تؤثر بشكل أساسي على استمرار دورها وكينونتها.
2. خشية السلطة وحركة فتح من استغلال حماس أجواء العمل الشعبي المفتوح كغطاء لإعادة بناء أجهزتها، وترميم بنيتها التحتية التي دمرتها السلطة، عقب حدوث الانقسام منتصف صيف عام 2007.
3. خشية السلطة وقيادة فتح المتأسسة من خروج المقاومة الشعبية عن حال الضبط والسيطرة، وتحول مسارها السلمي فيما بعد لاجتراح الفعل المقاوم المسلح.
4. عدم قناعة شريحة مهمة داخل قيادة حركة حماس بالجدوى العملية المترتبة على تبني هذا الخيار.
5. العوائق الجغرافية التي تواجه ممارسة المقاومة الشعبية في قطاع غزة، مقارنة بالظروف المتاحة في الضفة الغربة.
6. عدم ثقة الناس والجماهير في السلطة والفصائل بشكل عام، وحالة اللامبالاة التي تسيطر على فكر وسلوك المواطن الفلسطيني، الذي ترك فيه الانقسام وممارساته آثاراً عميقة وجروحاً غائرة.
مقترحات وتوصيات:
1. المسارعة في إنجاز ملفات المصالحة الفلسطينية الداخلية، وفي مقدمتها ملف الحكومة المتعثر، بما يطوي ملف الانقسام ويهيئ الفلسطينيين، شعبا وفصائل، لفتح ملف مقاومة الاحتلال.
2. التنبيه إلى أن المقاومة الشعبية لا تلغي المقاومة المسلحة، ولا تحل مكانها، وأن المقاومة المسلحة تبقى الخيار الأصيل، والأداة الحقيقية الفاعلة لتحرير الأرض والمقدسات؛ وأن للشعب الفلسطيني الحق الشرعي والقانوني الكامل في المقاومة المسلحة طالما بقي الاحتلال.
3. تجاوز منطق المزايدة الفصائلية في طرح خيار المقاومة الشعبية والتنظير الجاد له عبر إطلاق أوسع حملة وطنية فصائلية للترويج لهذا الخيار وتبيان مدى جدواه وفعاليته في مضمار مواجهة مخططات الاحتلال وإجراءاته القمعية.
4. تشكيل لجنة رفيعة المستوى من قادة الفصائل والشخصيات الوطنية بهدف وضع خطة شاملة تبحث في كيفية تجسيد خيار المقاومة الشعبية على الأرض، وسبل تذليل العقبات والتحديات التي تواجهه، وضمان استنهاض البعد الجماهيري ومشاركة كافة الفئات والشرائح الشعبية في كافة الفعاليات المخصصة لذلك.
5. توظيف وسائل الإعلام الفلسطينية، الرسمية والفصائلية والخاصة، لخدمة فكرة المقاومة الشعبية وأثرها البيّن في كبح مخططات وإجراءات الاحتلال.
* يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ مؤمن بسيسو بخالص الشكر على كتابته النص الأساسي الذي اعتمد عليه هذا التقدير.
أضف ردا