تقدير استراتيجي (45) – حزيران/ يونيو 2012.
ملخص:
لم تنجح مساعي القيادة الفلسطينية في تحقيق حلم الدولة من خلال المفاوضات السياسية مع “إسرائيل” على مدى 18 عاماً، ووجدت نفسها عالقة مع سلطة وظيفية تكيفها “إسرائيل” وفق رغباتها، بينما تستغل الوقت في فرض الحقائق على الأرض بالشكل الذي يقوض أية فرصة عملية لقيام الدولة الفلسطينية، ويتيح لها فرض الشكل الذي تريده للتسوية مع الفلسطينيين. وعلى الرغم من القلق الموجود في “إسرائيل” إزاء الثورات العربية وتداعياتها المحتملة، إلا أنها في الوقت الراهن لا تشعر بضغط من النوع الذي يدفعها لتسريع التوصل إلى حل مع الفلسطينيين.
من حلم الدولة إلى السلطة الوظيفية:
على العكس مما كان يُفترض أن تؤول إليه المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية منذ توقيع اتفاق أوسلو سنة 1993، والذي يتمثل بالنسبة للفلسطينيين في إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن من الواضح أن ممارسات “إسرائيل” على الأرض جاءت بهدف تقويض الإمكانية العملية لقيام تلك الدولة على أرض الواقع، بحيث باتت فرص قيامها ضئيلة جداً.
عملت “إسرائيل” في الضفة الغربية بشكل حثيث على الوصول إلى حالة تمنع قيام الدولة الفلسطينية، ومن ثم فرض الرؤية التي تريدها للتسوية مع الفلسطينيين، من خلال مسارين: الأول هو الاستمرار في فرض الحقائق على الأرض من خلال سياسة الاستيطان والتهويد التي بدأتها منذ احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة سنة 1967، والثاني هو العمل على تحويل السلطة الفلسطينية إلى سلطة وظيفية تؤدي وظائف محددة، أبرزها الوظائف الأمنية والاقتصادية.
في المسار الأول، فإن الحقائق القائمة تجعل من قيام دولة فلسطينية على أرض الضفة الغربية أمراً شديد الصعوبة من الناحية الجغرافية؛ فعدد المستوطنات الإسرائيلية بلغ نهاية سنة 2011 نحو 160 مستوطنة يقطنها نحو 554 ألف مستوطن. كما أن الجدار العنصري العازل يعمل على عزل 12% من مساحة الضفة الغربية وفصل القدس عنها، وضم 80-85% من الكتلة السكانية للمستوطنين إلى “إسرائيل”. علاوة على أن “إسرائيل” تسيطر على 87% من مساحة شرق القدس، ومن ضمنها المسجد الأقصى والبلدة القديمة، وكامل منطقة غور نهر الأردن وبقية المناطق المصنفة “ج” ضمن أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية، والتي تمثّل نحو 60% من مساحة الضفة، وعلى نحو 85% من مصادر الثروة المائية فيها.
أما في المسار الثاني، فقد عملت “إسرائيل” على التحكم بكافة مفاصل عمل السلطة الفلسطينية، بشكل يتيح لها تحديد مجالات العمل المتاحة أمامها، لتقتصر على أداء الوظائف الاقتصادية والأمنية، وتحويل الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية إلى احتلال “خمس نجوم”. ولكنها حرصت في الوقت نفسه على عدم السماح بتطور أداء مؤسسات السلطة إلى أبعد من المستوى المسموح به إسرائيلياً، والذي يبقي أي كيان فلسطيني قد يولد كياناً “منزوع الدسم” ومعدوم الموارد، ومعزولاً عن محيطه العربي، وخاضعاً فعلياً للسيطرة الإسرائيلية.
البدائل الإسرائيلية:
لا تلوح في الأفق أية دلالات على احتمال تغير سياسة “إسرائيل” القائمة على فرض رؤيتها للتسوية من خلال بناء الحقائق على الأرض، وحتى التصريحات الإسرائيلية التي تتحدث عن إمكانية القبول بدولة فلسطينية تقترن دائماً بجملة من الشروط المرفوضة فلسطينياً؛ وبالتالي فإن البدائل الإسرائيلية المتوقعة تتركز في التالي:
1. الحل أحادي الجانب: يتلخص هذا الخيار في محاولة إطالة الوضع القائم لأكبر فترة ممكنة، مع استغلال الوقت في مواصلة فرض الحقائق على الأرض؛ بحيث تفرض “إسرائيل” على الفلسطينيين القبول بدولة بحدود مؤقتة وفق التصور الذي تراه للحدود وتبادل الأراضي والسكان، وتحتفظ بأكبر قدر من الأرض والموارد، ومن ضمنها القدس والكتل الاستيطانية الكبرى، بأقل عدد من السكان الفلسطينيين.
2. عرض الدولة المؤقتة: وتتركز هذه الفكرة في محاولة دفع الفلسطينيين للقبول باتفاق يمنحهم دولة بحدود مؤقتة على 60% من أرض الضفة الغربية، مع تأجيل قضايا الحل النهائي إلى مرحلة لاحقة، بحيث تسعى “إسرائيل” بعد ذلك إلى تحويل المؤقت إلى نهائي. وهو خيار سبق طرحه على لسان عدة قيادات إسرائيلية، ومن بينهم شاؤول موفاز وإيغورا أيلاند.
3. اللجوء إلى “الطرف الثالث”: ويعني هذا الخيار السعي لاستعادة دور أطراف ثالثة لإدارة شؤون الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، أي الدور الأردني في الضفة والدور المصري في غزة. إلا أن هذا الخيار يتطلب قبولاً من الطرف الثالث الذي يفترض تدخله.
4. استمرار الأمر الواقع: ويعني ذلك استمرار فرض الحقائق على الأرض دون محاولة الوصول إلى حل مع الفلسطينيين؛ بسبب عدم وجود رؤية إسرائيلية متفق عليها للحل أولاً، وعدم وجود ضغوط آنية حقيقية تدفع بهذا الاتجاه ثانياً، إضافة إلى وجود اتجاه متزايد نحو التطرف اليميني والديني في “إسرائيل” يصعّب إمكانية تقديم تنازلات للفلسطينيين ثالثاً.
جميع هذه البدائل مطروحة للبحث في “إسرائيل”، وإن كانت تتأثر في صعودها وهبوطها بمجموعة من العوامل المحلية، وبالمحيط الإقليمي والدولي؛ فعلى الرغم أن فكرة الحل أحادي الجانب تراجعت ما بين سنتي 2005 و2006 إلا أنها بدأت تبرز مجدداً، في حين أن فكرة الدولة المؤقتة التي أخذت بالصعود منذ سنة 2009 بدأت تشهد تراجعاً بسبب الرفض الفلسطيني. ولكن في ظل الظروف القائمة حالياً، لا يبدو أن “إسرائيل” ستجد نفسها مضطرة للتفكير بحلول سريعة، إلا في حال اتخذت التغيرات في العالم العربي مساراً يضطرها لذلك.
البدائل الفلسطينية:
يظهر أن قيادة السلطة الفلسطينية وم.ت.ف باتت مقتنعة بأن استمرار الانسداد الحالي في أفق المفاوضات، وإصرار “إسرائيل” على مواصلة سياستها الاستيطانية، ينفيان عملياً إمكانية قيام الدولة الفلسطينية من خلال اتفاق مع الطرف الإسرائيلي، وخصوصاً في ظل عدم وجود نقاط تلاقٍ بين الحد الأعلى المطروح إسرائيلياً مع الحد الأدنى المقبول فلسطينياً، على الرغم من مضي 18 عاماً من المفاوضات منذ اتفاق أوسلو، وباتت بالتالي مضطرة للجوء إلى خيارات بديلة لتجاوز الجمود السياسي الراهن. وتتركز تلك الخيارات فيما يلي:
1. حل السلطة الوطنية الفلسطينية: يقوم هذا البديل على قاعدة أن السلطة الفلسطينية كان يفترض أن تشكّل مرحلة مؤقتة على طريق قيام الدولة، ولكن في ظل الوقائع القائمة التي تجعل منها جسماً وظيفياً، بطبيعة أمنية بالدرجة الأولى واقتصادية بالدرجة الثانية، فإن السلطة باتت بشكلها الحالي حاجة إسرائيلية أكثر مما هي حاجة فلسطينية، وبالتالي فإن إعادة الأمور إلى المربع الأول، قد تشكل مدخلاً لوضع “إسرائيل” أمام مسؤوليتها تجاه الشعب الفلسطيني بشكل مباشر كسلطة احتلال، ووضع المجتمع الدولي كذلك أمام مسؤوليته تجاه القضية الفلسطينية.
2. التعامل مع السلطة كأداة من أدوات العمل الوطني: ويستغني هذا الخيار عن فكرة حل السلطة، ولكنه يقوم على رفض السماح بتحويلها إلى سلطة وظيفية، وعلى السعي لفرض شروط جديدة لعملها بما يتوافق مع المشروع الوطني الفلسطيني، والعمل على تحقيق ما يمكن من أهدافه من خلالها، عبر اللجوء إلى تفكيك بعض وظائفها التي يشكل استمرارها مصلحة إسرائيلية، كوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال والتخلي عن المسؤوليات الاقتصادية.
3. مواصلة محاولة اللجوء للأمم المتحدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية: ويتلخص هذا البديل بتحريك الطلب الفلسطيني المقدم للأمم المتحدة للحصول على اعتراف بالدولة الفلسطينية، إما من خلال الجمعية العامة أو مجلس الأمن، ولكن تجربة أيلول/ سبتمبر 2011 تشير إلى أن أي تحرك في هذا الإطار سيلقى معارضة أمريكية وإسرائيلية كالتي واجهها التحرك الأخير، وقد يلقى المصير نفسه، وهو ما يوجد نوعاً من الإرباك والإحباط لدى قيادة السلطة في التعامل مع هذا الملف.
المقترحات:
1. فيما يتعلق بتحقيق المصالحة، محاولة العمل في إطار معادلة لا يتحكم الاحتلال بمدخلاتها ومخرجاتها، وبالتالي تحرر الفلسطينيين من قيود الاحتلال المتعلقة بتنظيم الانتخابات والتحكم بالتحويلات المالية للسلطة والسيطرة على الاقتصاد والمعابر وقدرة الحكومة على العمل.
2. توحيد الصف الفلسطيني وإعادة الاتفاق على برنامج وطني يضع التحرر أولوية مقدمة على إقامة الدولة.
3. عدم الإصرار على خيار العودة للمفاوضات كخيار أول وأخير، والنظر في الخيارات الأخرى المتاحة أمام الفلسطينيين لإحداث خلخلة في موازين القوى لصالح الفلسطينيين.
4. وقف التنسيق الأمني لأن استمرار قيام السلطة بوظائفها الأمنية في ظل استمرار الاحتلال في فرض الوقائع على الأرض يشكل له غطاء للمضي في سياساته.
5. الاستفادة من التغيرات في المنطقة لصالح القضية الفلسطينية وإعادة إبرازها كأولوية، واستعادة العمق العربي والإسلامي.
* أُعدّ هذا التقدير بالاستفادة من حلقة نقاش عقدها المركز في مقره في بيروت، بمشاركة عدد من الخبراء والمتخصصين، وكتب مسودته مشكوراً الأستاذ حسن ابحيص.
أضف ردا