بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
لا يظهر أن المسار الذي تسلكه عملية المصالحة الفلسطينية يؤتي ثماره، ولا تلوح في الأفق إمكانات حقيقية لأن تستكمل المصالحة الملفات التي تعهدت بإنجازها. وباختصار فإن هذه المصالحة كانت “ملغّمة” بمعوقات، يمكن أن تتفجر في وجهها عندما تقوم بعملها بشكل جاد.
ومع افتراض حسن النوايا والجدية لدى طرفي المصالحة الرئيسيين، فإن “الحاضر الغائب” في اتفاق المصالحة كانت “إسرائيل”!! ففي ملفات المصالحة الخمسة، كانت هناك ثلاثة ملفات هي تشكيل الحكومة الفلسطينية، وإجراء الانتخابات، وإصلاح الأجهزة الأمنية لا يمكن أن تتم دون موافقة أو على الأقل سكوت إسرائيلي، خصوصاً في مناطق الضفة الغربية. وبهذه الطريقة يمكن لـ”إسرائيل” أن تُفشل أو تُعطِّل عملية المصالحة، إذ لم تَسر الأمور وفق رغبتها أو وجدتها مخالفة أو متضاربة مع مصالحها.
تسعة أشهر كاملة مضت من عمر المصالحة لتحديد رئيس وزراء السلطة، وهي “تخضُّ الماء” دون أن تحصل على اللبن أو الزبدة!! كان مرشح محمود عباس الوحيد هو سلام فياض ليس لأنه من فتح، وليس لأن الشعب الفلسطيني لا يملك الآلاف من أصحاب الكفاءات والطاقات، ولكن لأن عباس يريد شخصاً مقبولاً إسرائيلياً وأميركياً. وكان المخرج في اتفاق الدوحة أن نفسر “الماء بعد الجهد بالماء” فيصبح أبو مازن نفسه رئيساً للوزراء، لتضاف مهمة جديدة إلى مهماته في رئاسة دولة فلسطين ورئاسة منظمة التحرير الفلسطينية ورئاسة السلطة الفلسطينية ورئاسة فتح والقيادة العليا للقوات الفلسطينية!! قد لا يعرف البعض أن عباس احتفل بذكرى ميلاده السابعة والسبعين يوم 26 مارس/آذار الماضي (ولد 1935).
لم تتشكل حتى الآن الحكومة الفلسطينية التي تُعبر عن الوحدة الوطنية والشراكة بين الفصائل الفلسطينية، لأن هذه الحكومة إذا أرادت أن تعمل في الضفة الغربية فيجب أن لا يكون عليها أو على بعض وزرائها فيتو إسرائيلي، وإذا أرادت أن تعمل في قطاع غزة فلا يجب أن يكون عليها فيتو من حماس، وإذا أرادت أن تعمل في المنطقتين فلا يجب أن يكون عليها فيتو من فتح.
وفي النهاية فإذا أصرَّت “إسرائيل” على معاييرها، فعلى أطراف المصالحة أن تستجيب، وإلا فلن تكون هناك حكومة تستطيع العمل على الأرض، ببساطة لأن هناك شيئاً اسمه الاحتلال الإسرائيلي، بوجهه القبيح والشرس، وبأدواته الغليظة في القتل والقمع والحصار والتدمير والمصادرة والاعتقال ومنع حركة الأفراد وتعطيل المؤسسات.. إلخ. قد نحتاج بضعة أشهر أخرى لنصل إلى “معادلة سحرية” جديدة نظهر فيها وكأننا حققنا إنجازاً وطنياً بتشكيل حكومة توافق وطني، ولكننا في الحقيقة لا نكون قد أرغمنا الطرف الإسرائيلي على شروطنا، بقدر ما أبدت بعض الأطراف “مرونة” استجابت فيها للخطوط الحمر الإسرائيلية.
ومن ناحية ثانية، هل يمكن إجراء انتخابات حرة نزيهة شفافة في أجواء صحية في كلّ مناطق الضفة الغربية بما فيها القدس، دون موافقة أو على الأقل سكوت إسرائيلي؟! لنفترض أن الانتخابات حصلت، وأنها تمت في أجواء حرة نزيهة. ولنفترض أن حماس فازت مرة أخرى بأغلبية ساحقة، هل يمكن لحماس أن تنفذ برنامجها في الإصلاح والتغيير (مع تمسكها بثوابتها الإسلامية والوطنية) تحت الاحتلال؟
وإذا كان الاحتلال يملك مداخل السلطة ومخارجها، ويحتل أرضها وسماءها، ويملك تدمير بناها التحتية ومصانعها ومدارسها ومؤسساتها الاقتصادية، ويستطيع التحكم بحركة المال، كما يستطيع تعطيل عمل المجلس التشريعي واعتقال الوزراء، ومنع أجهزتهم من العمل، ومنع إداراتهم من التنفيذ. فأين هي عناصر النجاح لأي اتجاه مقاوم يسعى لطرد الاحتلال وتغيير معادلة الصراع؟
ولنفترض، من جهة أخرى، أن فتح فازت بأغلبية ساحقة. فهل تستطيع أن تقدم لنا معادلة “سحرية” جديدة، تنهي فساد السلطة المستشري، وتنهي الدور البئيس للأجهزة الأمنية في قمع الشرفاء وقوى المقاومة، وهل ستتمكن من تقديم معادلات جديدة توقف الاستيطان وتهويد القدس وتعيد تحويل السلطة من سلطة وظيفية تخدم أغراض الاحتلال، إلى سلطة تؤدي حقاً إلى اندحار الاحتلال وتحقيق حلم الدولة الفلسطينية (عبر الوسائل السلمية المعتمدة لدى قيادة فتح)؟
أم أنها ستتقدم للسيطرة على قطاع غزة لإدخاله في “بيت الطاعة” المرهون باتفاق أوسلو، والمرهون بدوره للشروط الإسرائيلية الأميركية؟! أم أن المطلوب فقط هو استرجاع الشرعية الشعبية والشرعية الدستورية التي فقدتها في انتخابات 2006؟
وإذا تمّ ذلك، فهل سنتابع السباحة في دوامة المأزق الفلسطيني نفسه، حيث يسيطر فصيل فلسطيني واحد على منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى صناعة القرار الفلسطيني منذ نحو سنة 1968؟
وحيث يعطّل العمل الفعلي للمنظمة منذ أكثر من عشرين عاماً؟ وهل سنتابع المسارات البائسة نفسها التي سارت فيها عملية التسوية والسلطة الفلسطينية؟ وهل سيتم ذبح المقاومة الفلسطينية بسلاح “الشرعية” الفلسطينية الجديدة؟
ومن ناحية ثالثة تبرز إشكالية الأجهزة الأمنية، التي أشرف الجنرال الأميركي دايتون في السنوات الماضية على إعدادها في الضفة الغربية، والتي تمّ تأهيلها على أساس التعاون مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وملاحقة قوى وعناصر المقاومة، والتي جرى استبعاد المئات (إن لم يكن الآلاف) من الكوادر الوطنية من صفوفها، وهي كوادر محسوبة على فتح وغيرها من أولئك الذين كان لهم ماضٍ نضالي.
فهل يمكن في أجواء الاحتلال الإسرائيلي والسكون الفلسطيني، أن يتم “نفض” هذه المؤسسة الأمنية بناء على اتفاق المصالحة، بحيث يُعاد تعريف دورها، وبحيث يتم “تنظيفها” من العناصر التي تُشكل عبئاً على المشروع الوطني الفلسطيني، وتقف عائقاً في وجه أية مصالحة وطنية حقيقية، وبحيث تفتح بشكل حقيقي أمام أبناء الشعب الفلسطيني، بناءً على إخلاصهم ووطنيتهم وكفاءتهم، وليس وفق اعتبارات الانتماء لفصيل فلسطيني مُعيَّن، أو اعتبارات “السلامة الأمنية” من أنه بعيد كل البعد عن قوى المقاومة وتياراتها.
في الحكومتين اللتين شكلتهما حماس في الفترة بين 2006 و2007 مثلت الأجهزة الأمنية عناصر التفجير والتوتير، التي استخدمت لإسقاط التجربة وإفشالها وإغراق البلد في الفوضى والانفلات الأمني. ولم يتمكن وزير الداخلية المستقل هاني القواسمي من إصدار أية أوامر لها، ولا أن يوجه حتى شرطياً برتبة “عريف”. وحتى هذه اللحظة، ظلت الأجهزة الأمنية معوقاً حقيقياً، انضمت العديد من القيادات الفتحاوية إلى الشكوى منها إلى جانب حماس وباقي فصائل المقاومة.
وإذا كان ثمة إصرار على أن تبقى الأجهزة الأمنية مستجيبة لشروط ومعايير الاحتلال، وقائمة عملياً بوظائف تتعارض مع جوهر مشروع المصالحة، فستكون النتيجة أن يقوم الاحتلال وهذه الأجهزة بإفشال المصالحة وإفراغها من محتواها. وعلى أطراف المصالحة عندئذ ألا تستغرق كثيراً في أحلام المصالحة.
في الأوضاع العادية، فإن اختيار رئيس الوزراء في البلدان المختلفة يحتاج يوماً أو يومين، وتشكيل الوزارات يحتاج يوماً أو بعض يوم, وهو أهون الأمور قياساً بمهامها المنتظرة والتحديات التي تواجهها، فكيف بشعب مشرد يواجه الاحتلال الصهيوني المدعوم بالقوى الكبرى. ألا يحتاج هذا مزيداً من الجد وروح المسؤولية والتضحية، وأن يكبر أصحاب القرار بقدر عظمة قضيتهم؟
إذا كان اختيار رئيس الوزراء احتاج لنحو سنة، وقد نحتاج سنة أخرى لاستكمال الحكومة وحتى “تتموضع” لتبدأ عملها، وربما سنة ثالثة بانتظار الانتخابات وتهيئة الأجواء والحصول على أضواء خضر إسرائيلية وأميركية، ثم قد نحتاج إلى سنتين رابعة وخامسة لنجد أننا غير قادرين على إدارة مشروع وطني تحت الاحتلال ووفق شروط أوسلو، وأننا عدنا من حيث بدأنا لنكتشف مرة أخرى أننا بحاجة إلى مسار آخر بعيداً عن الإملاءات الإسرائيلية والمحددات الأميركية، فلماذا لا نعترف منذ الآن بأن المسار الحالي خاطئ، ولا يؤدي إلى نتيجة حقيقية جادة؟ ولماذا لا نبحث عن مسار آخر أقدر على الإنجاز، حتى وإن كانت أثمانه الأُولى عالية، ما دام مساراً يستحق الاستثمار فيه؟
لا يبدو أن محمود عباس في عجلة من أمره، فقد حقق التوظيف السياسي الذي يريده من خلال المصالحة، إذ ظهر بعدها مرة أخرى رئيساً معترفاً به من كلّ تيارات الشعب الفلسطيني بما فيها حماس. وتمكن من تقديم ملف فلسطين إلى الأمم المتحدة وقد أزاح الاتهامات عنه بأنه وفصيله لا يمثلان إلا جزءاً من الشعب الفلسطيني. وها هو يعيد تشكيل الحكومة الفلسطينية في رام الله برئاسة فياض، على الرغم من أنه هو نفسه مكلف بتشكيل حكومة التوافق الوطني. وهذه رسالة معناها الضمني أن “الحكاية طويلة” وأن “اللي عند أهله على مهله”. كما لا يخلو الأمر من اتهامات لحماس، خصوصاً في غزة، بأنها ليست في عجلة من أمرها ما دامت هي الجهة الحاكمة والمهيمنة في القطاع.
يظهر أن المسار الأفضل في مثل هذه الأوضاع هو البدء بملف منظمة التحرير الفلسطينية، فإذا كان ثمة جدية حقيقية لعلاج المأزق الفلسطيني، فإن الأولى هو البدء بترتيب البيت الفلسطيني نفسه، والاتفاق على برنامجه الوطني، وتحديد أولوياته الوطنية. وعند ذلك يكون موضوع حكومة السلطة وانتخاباتها هو أحد تجليات وتطبيقات البرنامج الوطني، وتكون السلطة الفلسطينية نفسها هي إحدى أدوات تطبيق هذا البرنامج.
إن مزيّة التركيز على مسار المنظمة أولاً هي أن المنظمة تمثل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وبالتالي فإن عملها وأداءها ليس مرهوناً بمتطلبات الاحتلال ولا واقعاً تحت رحمته. ويمكن لها أن تعيد بناء نفسها وأن تفعّل مؤسساتها، وأن يعمل ممثلوها دون أن يكونوا عرضة للتعطيل والإفشال والاعتقال، كما في حالة السلطة تحت الاحتلال.
في الفترة بين 1964 و1994 كان مركز عمل قيادة م.ت.ف في الخارج. بل إن أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني الذين كانوا يتمتعون بعضوية عاملة، ويقررون الشأن الفلسطيني، كانوا من الفلسطينيين المقيمين في الخارج، ولم يكن أبناء الداخل (بعد احتلال الضفة والقطاع) من أعضاء المجلس منتخبين أو معروفين، ولم يكونوا يحتسبون في نصاب الحضور، بحجة أنهم تحت الاحتلال، وخشية من إجراءاته ضدهم. ونحن مع دور فاعل ومؤثر لأهل الداخل، شريطة ألاّ يكون مرتهناً للاحتلال.
إن حرية صناعة القرار، وصدوره في إطار مؤسسي جامع هو أكثر ما يحتاجه الشعب الفلسطيني، وهو أهم من مجرد تشكيل حكومة تحت الاحتلال، وإجراء انتخابات تحت الاحتلال، وإدارة حياة الناس تحت الاحتلال، لأن القاسم المشترك في ذلك هو الاحتلال وسقف أوسلو، أما في م.ت.ف، بعد إعادة بنائها وتفعيلها، فالقاسم المشترك هو إنهاء الاحتلال والتخلص منه، وهو برنامج لا تملك آليات إنجاحه كافة مهارات سلطة حكم ذاتي منزوعة الأسنان والأظافر و”الدسم” أنتجها اتفاق أوسلو.
أراد هذا المقال أن يركز على إشكالية المسار الذي اختطه اتفاق المصالحة، وأن يسلط الضوء على مدى وقوع هذا المسار تحت التأثير السلبي المحتمل (والمؤكد) للاحتلال الإسرائيلي. وبالطبع فهناك إِشكاليات أخرى مرتبطة بالخلفيات الأيديولوجية والفكرية، وبعدم وجود المظلة التمثيلية الموحدة، وبأزمة الثقة بين أطراف المصالحة، وبالبيئة العربية والدولية.. وغيرها.
والخلاصة أن العمل على ترتيب البيت الفلسطيني وترتيب أولوياته من خلال م.ت.ف، يمثل مجالاً حقيقياً لاختبار نوايا وجدية فتح وحماس وباقي الأطراف المعنية بالمصالحة الفلسطينية، بعيداً عن الهيمنة والإملاءات الإسرائيلية والأميركية.
أضف ردا