بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
يظهر أن حالة القلق والغموض تجاه مستقبل الثورات والانتفاضات وحركات التغيير في العالم العربي لم تستثن أحداً، من الإنسان العادي، إلى حركات التغيير نفسها، إلى زعماء الأنظمة ورجالاتها، إلى القوى الخارجية والكيان الإسرائيلي…!! إذ إن المسارات التي اختطتها الانتفاضات ما زالت تشهد حالة من التدافع بين الأطراف المتنافسة والمتصارعة، بشكل لم ينجل الغبار عن نتائجه النهائية حتى الآن.
ومع أن أملنا بالله كبير في أن تحقق حركات التغيير آمال شعوبها في الحرية والعزة والكرامة والنهضة، فإن القراءة الموضوعية للأحداث تبرز أربعة مسارات رئيسية محتملة، وهي مسارات يمكن أن يتحقق أي منها بدرجات متفاوتة، أو تتداخل مع بعضها بأشكال مختلفة في البلدان التي تشهد عمليات التغيير.
السيناريو الأول: التغيير والإصلاح في النطاق القطري المحلي للدولة
وتتركز فكرته على أن يتم تغيير بُنية النظام السياسي إلى نظام يعبر بشكل أفضل عن حالة ديمقراطية تعبر عن إرادة الشعب، في الوقت الذي ينكفئ فيه النظام على ذاته، وينشغل بالعشرات من الهموم المحلية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والتنموية.
إذ سيجد أي نظام سياسي ناشئ، إذا ما نجح في عبور تحدي التغيير، نفسه منهمكاً في التعامل مع مجموعة من القوى السياسية المتشابكة المتنافرة، التي يستحيل إرضاؤها جميعاً، والتي تريد أن تجد لنفسها مكاناً في صناعة القرار والتوجيه، وفي أخذ أنصبة أكبر من “الكعكة”، وقد تطلب أكثر من حجمها إذا ما شاركت، أو تسعى لتعطيل النظام وإفشاله إذا لم تشارك، بينما لن يستطيع الكثيرون التفريق بين الفوضى والانفلات والانتهازية السياسية، وبين الحرية والسلوك الحضاري المسؤول. وفي الوقت نفسه ستحدث حالات شدّ متعاكسة تجاه مسار الدولة الإسلامي أو القومي أو اليساري أو الليبرالي… بانتظار أن يحسم طرف الأمور لصالحه، أو تتعود الأطراف على احترام أصول اللعبة الديمقراطية.
وسيجد النظام الجديد نفسه أمام مؤسسات اقتصادية وتعليمية واجتماعية وأمنية وعسكرية وقضائية تكلّست أو تعفنت تحت النظام السابق على مدى عقود. وسيكون بحاجة إلى أن ينفض هذه المؤسسات حتى يستطيع أن يبدأ مشروعه الإصلاحي، وسيخرج في وجهه “عش دبابير” ممن ارتبطت مصالحهم بالنظام السابق، ليحاول إفشاله وتعطيله، وقد يحتاج النظام بضع سنوات لإرساء نظام فعال شفاف لإدارة هذه المؤسسات، وإدماجها في عملية التغيير والإصلاح.
وسيحتاج النظام إلى معادلة “سحرية خاصة” يستوعب فيها المناكفات الحزبية الرخيصة، والضغوط الخارجية، ويتعامل فيها مع بقايا النظام السابق ومراكز قواه في أجهزة الدولة، في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تحقيق منجزات سريعة وملموسة للإنسان العادي سياسية واقتصادية وأمنية.
وهذا السيناريو يعني أنه ستنشأ ديمقراطيات ضعيفة غير مستقرة، ينغمس قادتها في تطلعاتهم المحلية، وتخشى على نفسها من التدخلات الخارجية أو الصراعات الإقليمية، ويرغبون في طمأنة القوى الكبرى بعدم تجاوز “الخطوط الحمر”، مع جرعات تحسينية خجولة على سياساتهم الخارجية تجاه قضايا الأمة.
السيناريو الثاني: التغيير والإصلاح في إطار مشروع نهضوي وحدوي عربي إسلامي
وهو أكثر السيناريوهات طموحاً وتفاؤلاً، وتعتمد فكرته على أن قادة حركات التغيير يمثلون على الأغلب اتجاهات إسلامية وعروبية ووطنية، تدرك أن نهضة أقطارها لا ترتبط فقط بمشروعات محلية، وأنه لا بدّ من مشروع نهضوي وحدوي لمواجهة حالة الضعف والانقسام والتخلف التي تعاني منها الأمة، وأن قدرة حركات التغيير على النجاح في أقطارها مرهونة بنجاح شقيقاتها في الأقطار الأخرى، وبتكاملها وتعاملها واتحادها في مواجهة فلول الأنظمة وفي مواجهة مشاكلها الداخلية، ومنع استفراد القوى الدولية المعادية بأي منها.
وحسب السيناريو، فالثورات عندما خرجت لم تكن مجرد تعبير عن احتياجات البطن ورغيف الخبز، وإنما استعادة لكرامة الأمة وعزتها، واسترجاعها لصناعة قرارها بأيديها بعيداً عن الهيمنة الخارجية، وأن لهذه الأمة عدواً مركزياً هو المشروع الصهيوني، وهي بالتالي ثورات لا بدّ وأن تلامس بقوة التطلعات النهضوية والوحدوية للأمة، وتطلعاتها للوحدة ولتحرير فلسطين.
ومع أن السياق العام لهذا السيناريو يبدو منطقياً، إلا أن الملفت للنظر أن التيارات الأيديولوجية التي تصدرت عملية التغيير فضلت التركيز على الهموم المحلية وطمأنة القوى الغربية، وإبراز المعاني المشتركة المرتبطة بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. ليس لأن هذه التيارات غيّرت قناعاتها، وإنما لأنها تدرك أنها تأتي ضمن منظومة تغيير سلمي متدرج (كما في تونس ومصر واليمن) تحتاج فيه إلى وقت طويل لتغيير البنى التحتية للنظام لترسيخ مكانتها وبرامجها، ثم التطلع بعد ذلك إلى ما هو أوسع من مشاريع النهضة والوحدة.
ويدرك هؤلاء الحجم الهائل لقوى الإفشال والتعطيل الداخلية والخارجية إذا ما قاموا بحرق المراحل، قبل أن يتمكنوا من الوقوف على أرجلهم. وحتى أولئك الذين يأتون ضمن معادلة تغيير ثورية، يدركون إلى أي مدى أن ثوراتهم مهددة في بيئة اضطروا فيها للاستعانة بالقوى الإقليمية والدولية لتحقيق معادلات التغيير في بلدانهم، وبالتالي فإن سلوكهم “الثوري” سيقتصر على التغيير المحلي.
ومع ذلك فإن تيارات التغيير الإسلامية والعروبية مهما استغرقت في الطمأنة، ستجد نفسها أمام تحديات كبرى يضعها خصومها الداخليون والخارجيون، ستجعل من شبه المستحيل على هذه التيارات الصمود ما لم تضخ روحاً ثورية نهضوية في جماهيرها، وتكون أكثر التصاقاً بهم وتعبِّر عن تطلعاتهم في الوحدة والتحرير. وهي تطلعات لا يكفي فيها مجرد الحديث عن رغيف الخبز.
السيناريو الثالث: إعادة الأنظمة الفاسدة إنتاج نفسها ولكن بلباس جديد
تنبني فكرة هذا السيناريو على أن التغيير الذي حدث إنما مسَّ رأس النظام، كما حدث في تونس ومصر واليمن، بينما بقيت بنية النظام وشبكة مصالحه قائمة وخصوصاً البنى العسكرية والأمنية والاقتصادية والقضائية، وهي بنى تشكل “الدولة العميقة” التي لا تزال تملك الكثير من أدوات القوة والضغط، والقدرة على تعطيل وإفشال أية تغيرات جذرية يُمكن أن تضرُّ بها. وأن هذه القوى ستسعى إلى استيعاب حركات التغيير وامتصاص حالات المد الثوري. وقد تصبر قليلاً على عمليات التغيير التي تحدث، لكنها ستحاول إنهاكها وإفشالها بالانفلات الأمني، والتدهور الاقتصادي، واستعداء القوى الخارجية، والتحريض الإعلامي… وغيرها، ثم التقدم برموزها من جديد سواء على ظهر دبابة تقدم منقذاً عسكرياً، أو بناء على وصفة البنك الدولي لتقدم منقذاً اقتصادياً، وفي الحالتين تُسرق آمال الأمة في مشروع نهضوي تحريري حقيقي.
وفي الحالتين سيتم تقديم بعض المكاسب السريعة بتوافق مع القوى الغربية، التي ستدعم الخيارات المتماهية مع سياساتها، وإن كان سيتم عمل الديكورات المناسبة، لتعطي الوجوه الجديدة للأنظمة الفاسدة أطول مدة صلاحية ممكنة، قبل أن تعود الشعوب لثوراتها من جديد.
ويندرج تحت هذا السيناريو حالة التدافع الهائلة التي نراها في مصر، وكيف يحاول المجلس العسكري امتصاص الثورة وإفراغها من محتواها، وكيف تمّت إعادة تقديم أحمد شفيق كمرشح للرئاسة، مع إبطال أول مجلس شعب حقيقي تنتخبه مصر في تاريخها، ومحاولة نزع صلاحيات الرئيس المنتخب.
السيناريو الرابع: تفتيت المنطقة وتفكيكها على أسس طائفية وعرقية
يرتكز هذا السيناريو على فكرة قوة التأثير الخارجي في تشكيل خريطة المنطقة، وعلى قابلية المنطقة نفسها لعمليات التفتيت العرقي والطائفي، وأنها لا تملك ما يكفي لتحصين نفسها منها. كما يرتكز على رؤية أن الثورات تؤدي إلى إضعاف الحكومات المركزية وضعف الشعور بالأمان الديني والثقافي والاجتماعي، وبالتالي تكتل أبناء الطوائف والأقليات والأعراق لحماية أنفسهم بعد انحسار ظلّ الدولة المركزية عنهم.
وهي رؤية تنبني أيضا على أن بعض القوى الحاكمة (الجديدة والقديمة) ستسعى إلى حماية نفسها وتقوية نفوذها من خلال الاستعانة بالطائفة أو الأقلية التي تنتمي إليها، وهو ما سيستفز مكونات المجتمع الأخرى، ومن ثم ستسعى كل جهة لتشكيل أحزابها وقواتها الخاصة بها، وتسيطر على مناطق نفوذها، مما سيعمق الشرخ والانقسام.
وفي هذه الحالة ما على الكيان الإسرائيلي والقوى المعادية سوى تشجيع حالات الانقسام هذه سياسياً وإعلامياً وأمنياً وعسكرياً، والنفخ في نيران المخاوف والأحقاد المتبادلة… بحجة الدفاع عن حقوق الأقليات والطوائف.. وهو ما سيعطي الفرصة في النهاية لتفتيت هذه البلدان.
وهذا السيناريو تحدث عنه كتّاب ومفكرون صهاينة وغربيون أمثال برنارد لويس وألوف بن. وهو بالنسبة لهم يُبشر بتحويل “إسرائيل” إلى كيان طبيعي حيث توجد حوله دُول طائفية علوية ودرزية ومارونية وشيعية …. وبالتالي لا يكون أمراً مستغرباً أن تكون وسط هذا الموزاييك “دولة يهودية”!!
السيناريو المرجح
يعتمد تحديد السيناريو المرجح على عوامل عدة أبرزها:
1- قدرة حركات التغيير على الاحتفاظ بزخمها الثوري، والتفاف الجماهير حولها حتى استكمال عملية التغيير.
2- قدرة حركات التغيير على تقديم رموز وقيادات شعبية كاريزمية، ذات قدرة على قيادة مسار التغيير، ومَلءِ الفراغ السياسي.
3- قدرة حركات التغيير على تكوين تحالفات وطنية واسعة، تتجاوز المناكفات والابتزاز السياسي، وتقطع الطريق على فلول النظام السابق، وعلى محاولات التمزيق والتفتيت، وعلى الحروب والأزمات الداخلية.
4- قدرة حركات التغيير على تحييد العامل الخارجي (خصوصاً الأميركي) في التأثير على صناعة القرار الوطني.
5- قدرة حركات التغيير على تحقيق نجاحات ملموسة لدى المواطن العادي، وخصوصاً في مسارات الأمن والاقتصاد ومكافحة الفساد وصيانة الحريات.
6- قدرة حركات التغيير على تناول قضايا الأمة الكبرى، وخصوصاً قضية فلسطين، بشكل يعكس إرادة الجماهير وتطلعاتها.
من الصعب الدخول في تفصيل وتحليل العديد من العوامل المتداخلة وقياسها بشكل خاص لكل بلد، ولكن إذا ما حاولنا تتبُّع خط عام، فإننا نلاحظ أن:
1- عملية التغيير السلمي في تونس ومصر واليمن أبقت بدرجة كبيرة على “الدولة العميقة”، وأبقت الكثير من “فلول النظام” في مواقع فاعلة ومؤثرة.
2- ما زالت قدرة الولايات المتحدة والقوى الغربية على التأثير السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري والإعلامي عالية، سواء في البلدان التي سلكت مسلكاً سلمياً، أم في البلدان التي سلكت مسلكاً ثورياً.
3- لم تتمكن قوى التغيير حتى الآن من تحقيق نتائج حاسمة في عدد من الدول، ولم يحصل أي من أحزابها أو اتجاهاتها على أغلبيات واسعة، تمكنها من تنفيذ برامجها ودونما مشاكسات أو تعطيل من القوى الأخرى، ولم تنجح حتى الآن في تقديم قيادات ذات كاريزما عالية تكون محل إجماع الجماهير.
وبالتالي فإن السيناريو في المدى القريب سيكون، والله أعلم، السير باتجاه:
1- عملية تغيير وإصلاح محدودة ودون الطموحات، باتجاه تشكيل أنظمة ديمقراطية غير مستقرة.
2- استيعاب الإسلاميين في المشهد السياسي، ودخولهم في اختبارات وتحديات قاسية ستشكل سلاحاً ذا حدَّين، فإما أن تكون فرصة يتمكنون فيها من تطوير قدراتهم وزيادة خبرتهم وتوسيع شعبيتهم، وإما أن تزول “الهالة” عنهم ويتضاءل حجمهم، نتيجة أخطاء أو ممارسات قد يقعون فيها، فضلاً عن أن الآخرين لن يتوقفوا عن محاولات “شيطنتهم” وإفشالهم.
3- دخول المنطقة في حالة من عدم اليقين، تكون أشبه بمرحلة انتقالية، في ظلّ استمرار حالة التدافع بين قوى التغيير وبين “الفلول” وبين القوى الخارجية.
غير أن حالة عدم الاستقرار لا تفتح المجال أمام فرص عودة الأنظمة السابقة بلباس جديد فقط، ولكنها قد تفتح المجال أيضاً لحالات إحباط واسعة وردود فعل عنيفة، على شكل اندفاعات ثورية جديدة أكثر قوة واتساعاً وحسماً.
وبغض النظر عن تمنياتنا للثورات بأن تستكمل مهمتها من خلال مشروع نهضوي وحدوي، يؤسس لدولة حرة تعبر عن إرادة الأمة وعن دينها وتراثها، فإن المعطيات الحالية تستبعد هذا السيناريو في المرحلة القريبة، وتجعله أقرب إلى التفكير الرغائبي، ولكن من يدري؟ فقبل نحو سنة ونصف السنة كان مجرد التفكير بمثل هذه الثورات وبمثل هذا التغيير ضرباً من الجنون أو التمنيات لمعظم المشتغلين بالدراسات الإستراتيجية.
أضف ردا