بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
كان التأثر بالغا وواضحا على قيادة حماس في الخارج وهي تودع العلامة الشيخ عمر سليمان الأشقر إلى مثواه الأخير يوم 10 أغسطس/آب 2012، وكذلك في بيت عزائه، إذ أعلنت لأول مرة أنه أحد أعمدتها المؤسسين، ونعته قيادات حماس الداخل، وقيادات الإخوان المسلمين. كما نعاه الكثير من العلماء، لأن وفاته مثلت خسارة كبيرة لأهل العلم والدراسات الشرعية في العالم الإسلامي.
وبالطبع فالمكانة العلمية الكبيرة للشيخ عمر خصوصا في مجالات العقيدة والفقه وتزكية النفس يعرفها الكثيرون، لأنها تمثل مراجع رئيسة أصيلة في الدراسات الإسلامية، كما يعرف الكثيرون ممن يحضرون مجالس العلم والمؤتمرات كيف أن رأي هذا العالم الجليل عادة يحظى بالتقدير والاحترام، ويكون مقدما بين إخوانه العلماء.
ولكن ما لا يعرفه كثيرون هو دوره الرائد في العمل الإسلامي لفلسطين، خصوصا في إنشاء حماس، وتحديد إستراتيجيات عملها ومتابعة مسارها وتسديده حتى وفاته رحمه الله.
الشيخ عمر رحمه الله علامة من الطراز الأول ألف أكثر من خمسين كتابا في مجالات الشريعة وقضايا العصر المختلفة، وشارك مع بعض زملائه في تأليف عدد آخر من الكتب، إضافة إلى كتابته الكثير من المقالات العلمية المحكمة، ومشاركته بأوراق عمل علمية في العشرات من المؤتمرات في العالم العربي وآسيا وأوروبا وأميركا. وتعد كتبه خصوصا في مجال العقيدة مصادر مهمة ومعتمدة، ومن الكتب الأكثر تداولا في السعودية ودول الخليج وباقي العالم العربي.
وقد قدر الله لكاتب هذه السطور أن يكون أحد طلاب الشيخ عمر في جامعة الكويت، وأن يحضر خطبه ودروسه التي كان يلقيها بانتظام في مساجد منطقة حولّي في الكويت. وقد توطدت العلاقة مع الشيخ عمر حيث كان له أثر طيب وكبير في التوجيه والنصح والمتابعة الأكاديمية، وطيلة السنوات السبع الماضية كان عضو الهيئة الاستشارية لمركز الزيتونة، حيث كانت وفاته خسارة كبيرة للمركز.
وقد أتيحت لنا قبل بضعة أشهر، ضمن مشروع نقوم بإعداده حول تاريخ التيار الإسلامي الفلسطيني، أن نسجل تجربة الشيخ عمر الأشقر في العمل الدعوي والعمل لفلسطين، التي تكشف دورا مهما كان الشيخ حريصا على عدم ذكره احتسابا لله ورغبة في عدم الظهور.
غير أن حماس نعته بعد وفاته كأحد مؤسسيها الكبار، وتحدث خالد مشعل بإسهاب، في عزائه، حول دور كبير للشيخ عمر في حركة حماس. وفي الأسطر التالية نشير إلى أبرز أدوار الشيخ عمر الدعوية والحركية.
جاء الشيخ عمر الأشقر من بيئة عائلية متدينة، وكان أخوه محمد من كبار علماء الشريعة الذين أنجبتهم فلسطين أيضا. وتلقى الشيخ عمر تعليمه في بيئة سلفية، حيث تعلم بشكل لصيق على يد عدد من العلماء الكبار مثل عبد العزيز بن باز، وناصر الدين الألباني، ومحمد الشنقيطي… وتخرج في المدينة المنورة، غير أنه أكمل الدكتوراه في الأزهر الشريف.
من جهة ثانية اطلع الشيخ على الكتب الدعوية والحركية المعاصرة، خصوصا كتب الإخوان المسلمين وتحديدا حسن البنا وسيد قطب، ونظر لهذه الحركة باحترام وإعجاب، ومن جهة ثالثة حمل الشيخ همّ نهضة الأمة الإسلامية وهمّ تحرير فلسطين. وقد أسهم هذا التكوين في إيجاد شخصية متوازنة جادة، تحمل روحا وفهما سلفيا منفتحا وواقعيا، وذا طبيعة ديناميكية عالية، متفاعلة مع الأحداث ومتطلعة للتغيير.
تتلخص أبرز إسهامات الشيخ عمر في:
1- المؤلفات الإسلامية الغزيرة والنوعية التي أضافها إلى المكتبة الإسلامية.
2- الإسهام في نشر دعوة الإخوان المسلمين، مع التركيز على الجوانب التربوية، وعلى الفهم السليم للعقيدة وفقه الموازنات والأولويات.
3- الإسهام، إلى جانب الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، في نشر الفهم السلفي المعتدل، وفي ترشيد تياره، خصوصا في الكويت، وإعطائه روحا دينامية منفتحة.
4- الإسهام في توجيه العمل الإخواني نحو فلسطين بشكل أكثر منهجية وفاعلية.
5- الاهتمام بالطلاب والشباب واستيعاب طاقاتهم في المشروع الإسلامي لفلسطين.
6- الإسهام في ضبط البناء المؤسسي والشرعي للعمل الإسلامي لفلسطين، وتحديدا حركة حماس.
كان الشيخ عمر من العلماء الذين كانوا روادا للصحوة الإسلامية في الكويت، فإثر وصوله إليها في صيف 1965 بادر وصديقه الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق إلى ممارسة العمل الدعوي في مساجد الكويت ومدارسها، في أجواء كانت المساجد فيها مقفرة، بينما كانت التيارات الإسلامية تخشى من ملاحقات نظام عبد الناصر. ومع النجاح الذي حققه الشيخان، كسر حاجز الخوف، ونشطت تيارات الصحوة الإسلامية.
وكان الشيخ عمر من أوائل من قدم النشاط الديني في المدارس في شكل جميل محبب، فكان رائد الجماعات الإسلامية في المدارس، التي انتشرت لتضم في فعالياتها المسابقات الثقافية والتمثيليات والمسرح والأناشيد والرياضة، إلى جانب الدروس الدينية المشوقة، بحيث يعيش الطالب حياته اليومية في بيئة وروح إسلامية.
وقد خاض الشيخ عمر تجارب ناجحة في مدرسة المتنبي المتوسطة منذ السنة الدراسية 1965/1966، ثم مدرسة خالد بن الوليد المتوسطة، ثم في ثانوية عبد الله السالم التي كان خالد مشعل أحد طلابه فيها، والذي أصبح مسؤولا عن الجماعة الإسلامية في مدرسته لسنتين متواليتين، تحت إشراف الشيخ عمر.
في السنوات العشر التي تلت قدومه للكويت، لم ينضم الشيخ عمر لأي حركة إسلامية، ولكن التيارين السلفي والإخواني استفادا بشكل كبير من جهوده في إحياء ونشر دعوتهما.
ولم يكن الشيخ عمر خطيبا مفوها، مقارنة بالخطباء الإسلاميين الكبار في ذلك الوقت، أمثال الشيخ حسن أيوب والشيخ طايس الجميلي والشيخ أحمد القطان، ولكنه من أكثرهم تميزا في طرح الأفكار والرؤى، وتسديد المسارات وتوجيه العمل، ومن أقدرهم على مخاطبة العقول، ولذلك كان له مريدوه من تلك الفئة من الناس المنشغلة بترشيد العمل الإسلامي الدعوي وتطويره.
وقد كانت له أيادٍ بيضاء في تبيين العلاقة المتكاملة والمتوازنة بين العمل لنهضة الإسلام والسعي لتحرير فلسطين، وفي كشف مشاريع التسوية السلمية ومخاطرها، خصوصا كامب ديفيد وما تلاها، وفي ترشيد العمل الإسلامي المعارض في بلدان المسلمين وطريقة التعامل مع أنظمة الحكم، وفي التركيز على فقه الأولويات.
نجحت جماعة الإخوان المسلمين الفلسطينيين في الكويت في النصف الثاني من سنة 1974 تقريبا، في ضم الشيخ عمر إلى صفوفها. وقد شكل الشيخ عمر مع الأستاذ سليمان حمد، الذي كان يرأس الإخوان الفلسطينيين في الكويت في الفترة من 1974 حتى نهاية 1989 (اتحد الإخوان الفلسطينيون مع الإخوان في الأردن سنة 1978) ثنائيا متكاملا ومتميزا، أسهم في إحداث نقلة نوعية في العمل الإسلامي لفلسطين، ليس في الكويت وحدها وإنما في باقي أماكن العمل الفلسطيني.
وقد جمعهما هم العمل الإسلامي وهم العمل لفلسطين، وكانا متوافقين على الاهتمام بالشباب وتشجيعهم وإفساح المجالات لهم في العمل القيادي. وقد كان إلى جانبهم ثلة متميزة من الرجال والشباب أمثال خالد مشعل.
كان الشيخ عمر ضمن مجموعة من الإخوان الفلسطينيين في الكويت، من المنشغلين بتطوير العمل الإسلامي لفلسطين، ومحاولة فتح آفاق جديدة له، وكانت تحاول التفكير “خارج الصندوق”، وحتى بخلاف المألوف.
وكانت هذه المجموعة تلتقي دوريا، ولكن دون إطار رسمي يحد من انطلاقها وتفكيرها، وقد أطلق عليها مصلح “العقل المفكر” على سبيل “الدعابة الجادة”!! لأنه لم يكن لديها اسم رسمي محدد. وقد ضمت عناصر قيادية كالأستاذ سليمان حمد وخالد مشعل وسامي خاطر وجمال عيسى.. وتعود لقاءاتها الأولى إلى أواخر سبعينيات القرن العشرين.
وقد أثمرت لقاءاتها عن العديد من الأفكار والبرامج والمشاريع التي طورت العمل الإسلامي لفلسطين.
سافر الشيخ عمر وخالد مشعل إلى السودان سنة 1980 واطلعا بالتفصيل على تجربة الحركة الإسلامية هناك، التي كانت تعد تجربة متقدمة قياسا بغيرها، واستفادا منها كثيرا (إداريا وتربويا وتنظيميا وحركيا وسياسيا) في تطوير العمل الإخواني الفلسطيني. كما اطلع الشيخ عمر بتكليف من إخوانه على تجربة منظمة التحرير الفلسطينية من خلال بعض الشخصيات التي عملت فيها وعايشتها عن قرب.
وبينما كان العمل الإسلامي في غزة ينحو منحى جهاديا، تحت إشراف الشيخ أحمد ياسين رحمه الله، فقد ترافق مع هذا المسار (دون تنسيق مسبق) مسار مشابه، كان يقوم به المعنيون بالعمل الفلسطيني في الخارج، الذين بدؤوا منذ 1980 تدريب عناصر منتقاة بعناية تدريبا عسكريا، ضمن برنامج نشط ولكنه هادئ، سعيا لإنشاء عمل قوي ومتجذر يستطيع الاستمرار والتوسع، حتى لو تعرض للضغوط والضربات، مع وجود حالة إجماع أن يتركز العمل الجهادي في فلسطين المحتلة، وعدم الإضرار مطلقا بأمن واستقرار البلدان التي يقيمون فيها. وكان الشيخ عمر مباركا لهذا العمل، وإن كان مطلعا عليه عن بعد.
وفي سنة 1983 شارك الشيخ عمر في مؤتمر تأسيسي للعمل الإسلامي لفلسطين، وشارك في المؤتمر قيادات معينة من الإخوان المسلمين من تنظيم بلاد الشام (الأردن وفلسطين)، حيث وضع المؤتمر عددا من الأسس الفكرية والمنهجية والمسارات للعمل الإسلامي لفلسطين.
وبعد سنتين أنشئ “جهاز فلسطين” التابع لتنظيم بلاد الشام، وهو الجهاز الذي تولى إنشاء حركة حماس وقيادتها ورعايتها، والتنسيق بين مناطق عملها الجغرافية (الضفة والقطاع والخارج)، وتوفير الدعم اللوجيستي لها خصوصا من خارج فلسطين. وكان الشيخ عمر بالطبع أحد الأعمدة المؤسسين لهذا العمل.
وحسب متابعاتنا ومقابلاتنا كان للشيخ عمر دور مهم في تكريس العمل المؤسسي في حماس واحترام قرارات المؤسسات الشورية والقيادية، وكان هو نفسه نموذجا للانضباط.
انتخب الشيخ عمر رئيسا لأول مجلس شورى لحركة حماس سنة 1989، وقد حاول الاعتذار عن هذا التكليف، لكن إخوانه ألزموه إلزاما، فبكى واضطر للاستجابة.
ومن خلال موقعه هذا لم يتردد في تنفيذ رقابة فاعلة على الأطر القيادية ومحاسبتها، واتخاذ أي إجراءات على من يثبت تقصيره أو مخالفته أيا يكن ّموقعه، وهو ما حصل فعلا مع بعض قيادات الصف الأول. وقد سمح هذا بإيجاد أجواء إيجابية داخلية تسمح بالمحاسبة وحتى المعاقبة، في أجواء أخوية بعيدة عن “شخصنة” الأمور.
أضر الاحتلال العراقي للكويت (1990-1991) وما جره من تبعات، بالعمل الإسلامي لفلسطين فيها، غير أن انتقال الكثير من الإخوان للإقامة في بلدان أخرى أسهم إيجابيا في نقل الحيوية والنشاط في المشروع الإسلامي لفلسطين في مناطق مختلفة في الخارج.
وقد انتقل الشيخ عمر إلى الأردن، حيث حافظ على دوره الفاعل والمؤثر في حركة حماس من خلال موقعه عالما أو من خلال مؤسساتها الشورية أو مؤسساتها القضائية… مع إصراره الدائم على عدم تولي مناصب قيادية، ولو أراد لكان له ذلك بسهولة، كما قال خالد مشعل. غير أن قيادة حماس ظلت تعده مرجعا لها فتستشيره في مختلف الأمور.
وظلت هذه العلاقة قوية حتى اضطرار قيادة حماس للخروج من الأردن سنة 1999، وهو ما أضعف إمكانات التواصل معه بعد ذلك، إذ تابع الشيخ رغبته في الاستمرار في العمل الأكاديمي والتدريس الجامعي أستاذا في الجامعة الأردنية، وعميدا لكلية الشريعة في جامعة الزرقاء، ثم متفرغا للبحث والتأليف في السنوات الأخيرة من حياته.
غير أن الشيخ ظل جزءا من حماس وظلت جزءا منه، وظل يضطلع بأدوار تتناسب مع ظروفه وحالته الصحية حتى وفاته رحمه الله.
يبدو أن طبيعة عمل حماس في الخارج، من حيث العيش في ظروف أمنية معقدة، والحاجة إلى السرية لتحقيق السهولة في الحركة والمرونة في العمل، أدت إلى أن عددا من قادتها الأساسيين لم يكونوا معروفين (ولا يرغبون بأن يعرفوا) على المستوى السياسي والإعلامي، ومن بينهم الشيخ عمر الذي، بالإضافة إلى ما سبق، كان يرغب في العمل الهادئ والبعد عن الأضواء، وتوريث المسؤوليات للشباب.
وينطبق الأمر على الأستاذ سليمان حمد الذي كان من الأعمدة المؤسسين وما زال على فراش المرض، عافاه الله. كما ينطبق الأمر بدرجة أو بأخرى على عدد من قيادات حماس في الضفة الغربية، ومنهم الأستاذ حسن القيق رحمه الله.
ولعل ما سبق يطرح أمام حماس مسألة إعادة الحسابات فيما يتعلق بكشف ما يمكن كشفه من تجربتها الإسلامية والوطنية الثرية في الخارج، واستكمال جانب مهم من صور العمل لفلسطين، وإعطاء رجالاتها حقهم، وإنزالهم منازلهم التي يستحقونها في تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر.
المصدر: الجزيرة نت، الدوحة، 25/8/2012
أضف ردا