بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
مهما يكن تقييم منظمة التحرير الفلسطينية، فإنها تظل إنجازاً وطنياً، عبَّر عن الروح الفلسطينية بضرورة تحمل المسؤولية والمبادرة لإيجاد إطار جامع للشعب الفلسطيني، يمنع تذويب قضية فلسطين أو تضييعها في أروقة ودهاليز السياسات الرسمية العربية أو الدولية، وينظم هذا الشعب ويوظف طاقاته، في مشروع تحرير فلسطين.
وذلك بغض النظر عن نوايا بعض الأنظمة العربية في ضبط الحراك الشعبي والثوري الفلسطيني، واستيعابه في أطر رسمية.
غير أن منظمة التحرير سنة 1964 عندما نشأت، هي غيرها سنة 2012، إذ تعاني منظمة التحرير من خمس إشكاليات أساسية، تنتقص من مكانتها في تمثيل الشعب الفلسطيني، وتعوق قدرتها على العمل والإنجاز:
أولاً: إشكالية التمثيل
من الناحية الرسمية فإن المنظمة هي “الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني”، ويتم التعامل معها عربياً ودولياً على هذا الأساس. ولكن من الناحية العملية فإن مفهوم هذا النص قد تآكل في أوساط الشعب الفلسطيني وفصائله. فمع بروز التيار الإسلامي الفلسطيني (وخصوصاً حماس والجهاد الإسلامي) منذ أكثر من ربع قرن، وقطاع عريض من الشعب الفلسطيني لا يجد لنفسه تمثيلاً في داخل المنظمة، حيث لم تدخل هاتان الحركتان حتى الآن في عضوية المنظمة.
فتح التي سيطرت على المنظمة منذ 1968 ظلت تسيطر حتى الآن على كافة مفاصلها وعلى صناعة القرار فيها. وقد نصت اتفاقية القاهرة في مارس/آذار2005، ووثيقة الوفاق الوطني في يونيو/حزيران 2006، واتفاق مكة في فبراير/شباط 2007، واتفاق المصالحة في مايو/أيار 2011، على إعادة بناء وتفعيل المنظمة…، لكن أياً من هذه الاتفاقيات لم تنفذ.
ولم تقم قيادة فتح بأية جهود حقيقية لاستيعاب باقي مكونات الشعب الفلسطيني وفصائله بما يتوافق مع أحجامها السياسية والشعبية؛ بينما تضاءلت المنظمة وضمرت، لتصبح على مقاس فتح أكثر منها على مقاس الشعب الفلسطيني.
ويرتبط بهذه الإشكالية أيضاً أن المنظمة لم تعد توفر مظلة تمثيلية حقيقية لأبناء فلسطين في الداخل والخارج، ولم يعد الكثيرون منهم يشعرون بأنها تحمي مصالحهم أو أنهم على صلة بها؛ كما لم تعد مظلة فاعلة أو داعمة لاستيعاب الكفاءات والأدمغة والمستقلين، ومؤسسات المجتمع المدني.
وقد ظهرت هذه الإشكالية أيضاً في الأسس والمعايير التي يتم بناءً عليها اختيار وتعيين ممثلي الشعب الفلسطيني -بمن فيهم المستقلون- في عضوية المجلس الوطني الفلسطيني.
وبغض النظر عن عدم مشاركة حماس والجهاد الإسلامي في المنظمة، فإن الطريقة التي تمّت على أساسها مثلاً إضافة نحو 400 عضو جديد إلى المجلس سنة 1996، ليقفز عدد أعضاء المجلس من نحو 450 إلى حوالي 800، كانت مثار استغراب واستهجان، ليس فقط الفصائل المنضوية في المنظمة، وإنما بعض قيادات فتح بمن فيهم رئيس المجلس سليم الزعنون نفسه.
وكانت قيادة المنظمة في ذلك الوقت بحاجة إلى أغلبية تصوت على إلغاء معظم بنود الميثاق الوطني الفلسطيني، وبالتالي تُوقِّع على شهادة الوفاة للأهداف التي قامت المنظمة لأجلها؛ وذلك استجابة لشروط مشروع التسوية واتفاقية أوسلو.
ثانياً: إشكالية المؤسسات والعمل المؤسسي
لم يمارس المجلس الوطني الفلسطيني دوره الفعلي ولا صلاحياته الحقيقية منذ 1991، كما لم يتمكن من تجديد نفسه وفق نظم وقوانين المنظمة نفسها منذ ذلك التاريخ، على أساس مرة كل ثلاث سنوات.
ودوائر منظمة التحرير -التي تُعد بمثابة الوزارات في أي دولة- إما ميتة أو ظلال باهتة لمؤسسات في غرفة العناية المركزة، وهي غائبة عن ساحة الفعل والتفاعل مع الشعب الفلسطيني، وهي دوائر تفتقر إلى الميزانيات وإلى الكوادر المدربة الفاعلة، وإلى برامج عمل حقيقية تتناسب مع شعب يناضل لتحرير أرضه.
ومن الدوائر التي لا تكاد تسمع لها همساً دائرة شؤون الوطن المحتل، ودائرة شؤون اللاجئين، ودائرة التربية والتعليم، ودائرة العلاقات القومية، ودائرة الإعلام والثقافة، ودائرة التنظيم الشعبي، والدائرة العسكرية، والدائرة الاجتماعية.
مات مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير، والذي كان أحد مفاخر الشعب الفلسطيني. أما مركز التخطيط الفلسطيني فقد عانى من الإهمال والتجاهل. وعلى سبيل المثال؛ ففي أوائل سنة 1970 أنجز مركز التخطيط “الخطة الإستراتيجية الشاملة للثورة الفلسطينية” بجهد كبير، وأرسلها بسرية تامة إلى القيادة في عمّان.
ولما لم يتصل به أحد لمناقشته في تفصيلات الخطة، سافر مدير المركز يوسف صايغ إلى عمان لاستكشاف الأمر، وهناك وجد نسخة من الخطة “السرية للغاية” على طاولة في مقر القيادة وعلى غلافها بقع من بقايا السكر والشاي، فتحامل على نفسه ثم عاد إلى بيروت. بعد أن وجد أن العمل المتواصل لمجموعة مميزة من الباحثين تحول إلى صينية للشاي والقهوة!
يعود آخر انتخاب فعلي للجنة التنفيذية التي تقود منظمة التحرير إلى سنة 1996، وهي قيادة يُفترض أن مدة صلاحيتها انتهت بحسب لوائح المنظمة؛ لكنها عملياً مستمرة حتى الآن (سنة 2012).
وقد واجهت قيادة المنظمة أزمة وفاة ستة من أعضائها، وهو ما هدد نصاب الثلثين اللازم لانعقادها، لأنها مكونة من 18 عضواً. وقد اضطرت قيادة المنظمة لعقد مجلس وطني فلسطيني في 25/8/2009، دونما تجديد أو تغيير في عضويته القديمة.
وقد حضر المجلس 325 عضواً من أصل أكثر من 700 عضو ما زالوا على قيد الحياة من أعضاء مجلس 1996. وتم انتخاب ستة أعضاء جدد للجنة التنفيذية.
وكان من اللافت للنظر دخول صالح رأفت ممثلاً لحركة فدا، بينما كان ياسر عبد ربه قد دخل اللجنة التنفيذية قبل ذلك بسنوات ممثلاً أيضاً لحركة فدا، التي تركها فيما بعد، لكنه بقي في التنفيذية.
مع العلم بأن فدا وحزبين آخرين هما حزب الشعب والجبهة الديمقراطية كانوا قد دخلوا متحالفين في انتخابات المجلس التشريعي سنة 2006، ولم يحصل تحالفهم إلا على مقعدين فقط من أصل 132 مقعداً، بينما لهم في اللجنة التنفيذية أربعة أعضاء؛ في الوقت الذي لا وجود لحماس إطلاقاً وهي التي حصلت في انتخابات 2006 على 74 مقعداً (مع أربعة مقاعد أخرى لمستقلين أدخلتهم في قوائمها) أي 56-59% من مقاعد المجلس.
ثالثاً: إشكالية صناعة القرار وآلياته
فرضت شخصية رئيس المنظمة نفسها على عملية صناعة القرار في داخلها، وكان الرئيس ياسر عرفات محط انتقاد الكثيرين -سواء من زملائه في فتح نفسها أم من باقي الفصائل والمستقلين- بأنه يتفرد في القرار ويمسك السلطات بيده بقوة، وخصوصاً السياسية والعسكرية والمالية، وكثيراً ما كان يضع زملاءه في المنظمة أمام الأمر الواقع.
وقد ترافق مع ذلك أن المؤسسات الرقابية والتشريعية لم تكن تنعقد إلا على فترات متباعدة، مما يضعف آليات الرقابة والمحاسبة، ويفتح المجال للقيادة التنفيذية لتفعل ما تريده. وعلى سبيل المثال فقد عقد المجلس الوطني الفلسطيني 11 دورة في السنوات العشر الأولى من عمره 1964-1973، وعقد خمس دورات في السنوات العشر الثانية 1974-1983، وعقد أربع دورات في السنوات العشر الثالثة (1984-1993)، ولم يعقد سوى دورتين خلال السنوات الـ19 التالية (1994-2012)، هذا إذا سلمنا جدلاً أن دورة 1996 ودورة 2009 تستحقان أن يطلق عليهما اسم دورة، بسبب علامات الاستفهام التي رافقت انعقادهما، سواء بسبب العضوية أم بسبب الضرورات الخاصة بعقد كلٍّ منهما ليومٍ واحد لإلغاء بنود الميثاق الوطني أو لاستكمال أعضاء اللجنة التنفيذية.
ولم يكن أي من الدورات الأخرى يزيد عن بضعة أيام، في أفضل الأحوال. أما قرارات المجلس الوطني الفلسطيني وطوال تاريخه فكانت تتخذ في معظم الأحيان بالتصفيق، ودونما حاجة لعدِّ أصوات الموافقين أو المعترضين.
ومع تصاعد شعبية التيار الإسلامي، ومع فوز حماس في الانتخابات 2006، كان من الواضح أن صناعة القرار في المنظمة تفتقر إلى وجود شركاء كبار وذوي شعبية واسعة في الساحة الفلسطينية.
لقد كان هناك توافق فلسطيني -بناء على اتفاق القاهرة سنة 2005- على إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير، وكان هناك شبه إجماع على أن يكون عدد أعضاء المجلس في حدود 300 عضو، وأن يكون التمثيل مناصفة بين الداخل والخارج، وأن يكون النصف المتعلق بالداخل منتخباً، ومن بينهم أعضاء المجلس التشريعي الـ132.
غير أن فوز حماس المفاجئ في الانتخابات (74 مقعداً مقابل 45 مقعداً لفتح) جعل قيادة فتح تعطِّل مسيرة إصلاح المنظمة، وتلغي الأفكار السابقة المطروحة. وهو ما يعني أيضاً تعطُّل الإمكانية العملية لصناعة القرار الفلسطيني تحت مظلة واحدة جامعة هي المنظمة.
رابعاً: إشكالية تضاؤل الدور والتأثير
مع تراجع العمل المؤسسي للمنظمة، وتضاؤل أو انزواء دوائرها وأدوات تأثيرها وتفاعلها مع الشعب الفلسطيني والعالم الخارجي، ومع تضخم السلطة الفلسطينية، أمست المنظمة ظلاً باهتاً لا يشعر به معظم الفلسطينيين في الداخل والخارج.
أما السلطة الفلسطينية التي أنشأتها المنظمة والتي يفترض أن تكون إحدى أدواتها النضالية، فقد اتسعت وكبرت لتوظف عشرات الآلاف من الموظفين، ولتدير شؤون حياة أكثر من أربعة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما كانت بعض دوائر المنظمة غير قادرة على توظيف بضعة أشخاص لديها. وقد بدا المظهر سريالياً، إذ أصبحت المنظمة وكأنها دائرة من دوائر السلطة أو أداة من أدواتها.
قيادة فتح احتفظت بمنظمة التحرير لأنها ما زالت من الناحية الرسمية “الممثل الشرعي الوحيد” للشعب الفلسطيني، حيث يتم عقد المفاوضات والاتفاقيات وبناء العلاقات الدبلوماسية باسمها وتحت غطائها.
وعملياً بقيت منظمة التحرير في “غرفة الإنعاش” أو “العناية المركزة” بما يكفي لاستمرارها في الحياة، وبما يكفي لأخذ ختمها وغطائها لقرارات وإجراءات قيادتها وقيادة السلطة.
خامساً: إشكالية الرؤية والمسار والمرجعية
ما هي المرجعية التي تحكم منظمة التحرير وتحدد رؤيتها ومسارها وخطوطها الحمر؟ كما تحدد برنامجها السياسي الذي يتوافق مع خطها الإستراتيجي الذي تمّ إنشاؤها على أساسه؟ هل هو الميثاق الوطني الفلسطيني؟ أم برنامج النقاط العشر؟ أم إعلان الاستقلال؟ أم اتفاقية أوسلو؟ أم المبادرة العربية؟ أم خريطة الطريق؟
تنصّ المادة التاسعة من الميثاق الوطني الفلسطيني -الذي على أساسه دخلت حركة فتح منظمة التحرير- على أن “الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين”، وتنصّ المادة 19 على أن “تقسيم فلسطين الذي جرى عام 1947، وقيام إسرائيل باطل من أساسه مهما طال عليه الزمن”، وتنصّ المادة 21 على أن “الشعب العربي الفلسطيني… يرفض كل الحلول البديلة عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً”.
وفي سنة 1974 جاء برنامج النقاط العشر ليسمح للمنظمة بالعمل المرحلي، والحلول الجزئية، ويسمح لها بإقامة “السلطة المقاتلة” على أي جزء يتم تحريره من فلسطين.
وفي سنة 1988 جاء إعلان الاستقلال، ليحمل في طياته اعترافاً بقرار تقسيم فلسطين، واعترافاً بقرارات الأمم المتحدة بما فيها قرار 242 الذي يتعامل مع قضية فلسطين كقضية لاجئين.
أما اتفاق أوسلو في سنة 1993 فقد اعترفت فيه قيادة المنظمة بحق “إسرائيل” في نحو 77% من أرض فلسطين التاريخية، والتزمت المنظمة بمسار التسوية السلمية، وبالتخلي عن الكفاح المسلح.
وهكذا وجد الشعب الفلسطيني نفسه أمام إشكالية حقيقية، فإذا كانت المرجعية الحقيقية التي يجب أن يحتكم إليها الشعب هي الميثاق الوطني الفلسطيني، فعند ذلك ستكون حماس والجهاد -وهي فصائل خارج منظمة التحرير- أقرب إلى المنظمة وأهدافها من الفصائل التي تقود المنظمة وتشارك في عضويتها!
أما الإشكالية الثانية فهي مرتبطة بالمعايير التي يتم على أساسها دخول المنظمة، فإذا كانت قيادة المنظمة ستستجيب لشروط الرباعية الدولية، وستشترط على من يدخل في عضويتها الالتزام بما التزمت به من اتفاقيات (خصوصاً أوسلو وما تلاها)، فإنها عند ذلك ستحدد عضويتها بتلك الفصائل والشخصيات التي تقبل بالتنازل عن معظم فلسطين وتعترف بـ”إسرائيل”، وهو ما لن تقبله حماس والجهاد الإسلامي.
حتى تخرج منظمة التحرير من أزمتها، لا بدّ من أن تقوم قيادتها بفتح أبوابها لكافة الكفاءات والفصائل الفلسطينية، بما فيها حماس والجهاد الإسلامي. ولا بد من أن تأخذ مبادرة إصلاح منظمة التحرير وتفعيلها الأولوية على الترتيبات المتعلقة بملف السلطة الفلسطينية.
إن تفعيل منظمة التحرير أولاً سيعيدها إلى حجمها ودورها الحقيقي في تمثيل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وبعيداً عن الارتهان للإرادة الخارجية، ويمكن أن يعيد السلطة الفلسطينية إلى حجمها الطبيعي كإحدى أدوات منظمة التحرير في تحقيق الأهداف الوطنية.
أضف ردا