بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
تأتي أهمية التركيز على هذا الموضوع في ضوء الانتفاضات والثورات والحراكات الشعبية التي تشهدها المنطقة، ودخولها في حالة من عدم الاستقرار والتدافع بشأن المسارات المستقبلية لعدد من الأنظمة القائمة أو التي أسقطت، وفي أجواء عززت لدى البعض المخاوف والأبعاد الطائفية والعرقية لعملية التغيير. كما لا تخفى محاولات الكيان الإسرائيلي وبعض القوى الغربية الاستفادة من حالة عدم الاستقرار، لدفع مسار الأحداث باتجاه يخدم مصالحها، بما في ذلك تفتيت المنطقة على أسس طائفية وعرقية.
الأميركان الذين احتلوا العراق سنة 2003 كانوا أول من يعلم أن دعاواهم بشأن امتلاك النظام لأسلحة الدمار الشامل أو بشأن دعم الإرهاب هي دعاوى فارغة. ولم يكن كافيا حديث العديد من المحللين عن السيطرة على منابع النفط في العراق، على أنه الهدف الرئيسي للاحتلال الأميركي، في الوقت الذي لم يكن لدى النظام العراقي مانع من بيع النفط في السوق الدولي بأسعار معقولة، وضمن منظومة “أوبك”.
بينما اضطرت أميركا أن تنفق في السنوات الأولى لغزوها للعراق ما معدله ملياران اثنان من الدولارات أسبوعيا (نحو مائة مليار سنويا). ولذلك، كان لا بد من التساؤل عن أجندات أخرى غير معلنة، خصوصا في ضوء إصرار الأميركان على تفكيك مؤسسات الدولة العراقية وحلّ الجيش العراقي، والتشجيع المعلن أو الضمني للسلوك الطائفي والعرقي، في الوقت الذي شهد فيه العراق تحت الحكم الأميركي أكبر عملية صراع دموي طائفي، لم يشهد لها مثيلاً في تاريخه.
لعل “نجاح” الأميركان بدرجة أو بأخرى في ترسيخ المعطيات الطائفية والعرقية (شيعة – سنة – أكراد) في العراق، فتح شهية البعض للسير في الخط نفسه في باقي المنطقة العربية التي تشهد ثورات وانتفاضات. وهو نجاح تعززت آماله في انفصال جنوب السودان، وفي الحركات الانفصالية في دارفور.
إن الجانب الإسرائيلي معني تماماً بإبقاء حالة الانقسام والتجزئة، وبالعمل على تحقيق مزيد من التفتيت للمنطقة على أسس طائفية وعرقية، بحيث يتحول هذا الكيان إلى كيان طائفي عرقي يهودي “طبيعي” بين الكيانات الطائفية والعرقية التي يسعى إلى إيجادها في المنطقة؛ سواء أكانت سنية أم شيعية أم مسيحية أم درزية أم علوية.
لقد اهتم المسؤولون الصهاينة بمسألة الأقليات في العالم العربي، وادّعوا أن الحدود التي رسمت للمنطقة إثر الحرب العالمية الأولى لم تكن أمينة وظلمت الأقليات العرقية والطائفية. فمنذ ما قبل قيام الكيان الإسرائيلي كان هناك اهتمام صهيوني بمشاريع التفتيت والتقسيم، إذ دعا الزعيم الصهيوني جابوتنسكي مثلاً إلى إيجاد دويلات طائفية عرقية تحيط بالكيان الصهيوني، ويهيمن عليها.
وقد اتصلت الحركة الصهيونية منذ أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي ببعض الأقليات في لبنان والعراق من أجل حضهم على التمرد والانفصال. فقد اتصل كل من يورام نمرودي وأوري لوبراني (سفير سابق في إيران وتركيا) ومردخاي بن فورات وشوشانا أربيلي بالأكراد في العراق، وإيلياهو ساسون وإيسر هرائيل (رئيس جهاز الموساد) بالأقليات في سوريا ولبنان.
ورأى بن جوريون الذي تولى رئاسة الوزراء في “إسرائيل” من مايو/أيار 1948 حتى يناير/كانون الثاني 1954، ومن نوفمبر/تشرين الثاني 1955 حتى يونيو/حزيران 1963 في التكوينات العرقية والطائفية في البلاد العربية فرصة للإسهام في تضخيم الخلافات، لتتحول في النهاية إلى معضلات يصعب حلها أو احتواؤها. وطالب بن جوريون بعمل مخطط عُرف فيما بعد بـ”إستراتيجية الأطراف” أو إستراتيجية شد الأطراف، وقد قام بوضع المخطط ريفون شيلوح الموظف في الخارجية الإسرائيلية، وهو يقضي بتطوير علاقات “إسرائيل” مع الدول الأجنبية (غير العربية) المحيطة بالبلاد العربية كإيران وتركيا وإثيوبيا، لتكون مصادر ضغط وتهديد على البلاد العربية، ولإبقاء بؤر الصراع قائمة بينها.
وطورت هذه الإستراتيجية لتصبح إستراتيجية “شدّ الأطراف ثم بترها” من خلال التركيز على التعامل مع الأقليات وتشجيعها على الانفصال. وقد سبق لأرييل شارون في مقابلة مع صحيفة معاريف في 18/12/1981 وقبل الغزو الذي قاده على لبنان ببضعة أشهر (عندما كان وزيراً للدفاع) أن ذكر أن الظروف مواتية لتحقيق مشروع تفتيت الدول العربية وبسط الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة. وتحدث عن الصراع المحتمل بين الشيعة والسنة والأكراد في العراق، وبين السنة والعلويين في سوريا وبين الطوائف المتناحرة في لبنان، وبين الفلسطينيين والبدو في شرق الأردن، وبين السنة والشيعة في المنطقة الشرقية بالسعودية، وبين المسلمين والأقباط في مصر، وبين الشمال المسلم والجنوب الوثني المسيحي في السودان، وبين العرب والبربر في المغرب العربي الكبير.
ومن الدراسات الخطيرة التي وضعت في هذا الإطار دراسة عوديد ينون الموظف بالخارجية الإسرائيلية بعنوان “إستراتيجية إسرائيل في الثمانينيات” حيث تركز على تجزئة العالم العربي وإضعافه. أما المفكر الصهيوني يحزقيل درور، فتحدث في كتاب “إستراتيجية عظمى لإسرائيل عام 1990” عن تقويض الكيانات العربية وإسقاطها وتفتيتها، وإثارة الحروب والنزاعات فيما بينها، وتفتيت المجتمعات العربية من الداخل عن طريق دعم الأقليات غير العربية وغير المسلمة.
ومن المفكرين الكبار الذين دعوا إلى تفتيت العالم العربي المؤرخ اليهودي الصهيوني المشهور برنارد لويس، الذي كان له تأثير مهم على مدرسة المحافظين الجدد، وعلى الرئيس جورج بوش الابن نفسه. وقد بنى الكاتب والضابط الأميركي المتقاعد رالف بيترز على دراسات لويس، ودعا إلى تقسيم الشرق الأوسط في مقاله “حدود الدم”، الذي نشره في مجلة الجيش الأميركي في يونيو/حزيران 2006، حيث رأى بيترز أن أكثر الحدود جوراً وعشوائية هي تلك التي في أفريقيا والشرق الأوسط، التي رسمها المستعمرون الأوروبيون. وأن “تجاهل كل هذا الكم من الجور في الحدود، وعدم مراجعتها بصورة جوهرية سيؤدي إلى أن هذه المنطقة لن تنعم بحالة من السلام”.
وأضاف قائلا بصورة تحريضية “إننا نتعامل هنا مع تشوهات هائلة صنعها الإنسان بيده، وإنه إذا لم يكن ممكناً تعديل حدود الشرق الأوسط الكبير بحيث تعكس الروابط الطبيعية المستندة إلى الدم والعقيدة [يقصد العرق والطائفة]، فيجب أن نتقبل حقيقة تنص على أن جزءا من الدم المسفوح في هذه المنطقة سيكون على حسابنا نحن الأميركيين”.
وبالطبع لم يتحدث بيترز عن التشوهات الخطيرة التي أحدثها العالم الغربي، خصوصا بريطانيا وأميركا، من خلال زرع الكيان الصهيوني في قلب المنطقة العربية والإسلامية.
ومن اللافت للنظر أن بيترز تحدث بشكل فجِّ عن تقسيم العراق والسعودية، فاقترح دولة للشيعة العرب في جنوب العراق تمتد لتضم منطقة الإحساء وتحصل على حقول النفط شرقي السعودية (دون أن تضم الكويت) كما تمتد لتضم مناطق جنوب غربي إيران المطلة على الخليج خصوصا مناطق الأهواز وعربستان.
كما اقترح دولة للعرب السنة وسط العراق وأخرى للأكراد تمتد شمالي العراق وشمال غربي سوريا وشرقي تركيا وشمال غربي إيران. كما اقترح أن تنفصل الحجاز عن السعودية، وأن يتوسع الأردن ليأخذ جانبا من شمالي السعودية، بينما يتوسع اليمن شمالا على حساب جنوب غربي السعودية.
وقبيل نجاح الثورة في تونس كتب الخبير السياسي الأميركي ذو الأصل الهندي باراج خانا في 13/1/2011 مقالا في أحد أهم المجلات الأميركية والعالمية وهي الفورين بوليسي قال فيه إنه في غضون عقود قليلة قادمة، ليس مُستبعداً بتاتاً أن يصل عدد دول العالم إلى 300 دولة. ودعا إلى “أن تنفذ كل الانقسامات القادمة بالترافق مع تطبيق مزيج من سياسة المشرط والفأس، أي بالمرونة والقسوة معاً، وفوق كل ذلك يجب أن يدرك العالم أن هذه الانقسامات لا مفر منها”.
وفي مقال آخر كتبه خانا نفسه بالاشتراك مع فرانك جاكوبس ونشر في صحيفة نيويورك تايمز في 22/9/2012 اقترحا تقسيم سوريا إلى أربع دويلات واحدة علوية وثانية درزية وثالثة سنية مركزها دمشق ورابعة سنية مركزها حلب، ودولة كردية شمالي العراق، وإعادة تشكيل خرائط إيران وأفغانستان وباكستان، من خلال إنشاء باشتونستان وبلوشستان وأذربيجان الكبرى.
الكاتب الإسرائيلي المعروف ألوف بن رئيس تحرير جريدة هآرتس كتب مقالا طويلا في الصحيفة نفسها في 25/3/2011 في بدايات الثورات والتغيرات العربية بعنوان أقرب إلى اللافتات التي تضعها الشركات لتنبيه المارّة والزائرين بأن المكان تحت البناء والإنشاء أو الإصلاح، حيث ينبه بأن منطقة الشرق الأوسط تشهد العملية نفسها.
وقال إن الخرائط التي رسمت للمنطقة قبل نحو مائة سنة تشهد الآن إعادة تحديث لتظهر دولا جديدة كجنوب السودان وكردستان وفلسطين وربما برقة (سرنايكا) شرقي ليبيا، وجنوب اليمن، كما ستتفكك الإمارات العربية المتحدة، مع احتمال تقسيم السعودية بانفصال منطقة الحجاز، عن مناطق البترول في الشرق، كما قد تنقسم سوريا إلى دويلات سنية وعلوية ودرزية. وحسب ألوف بن تشكلت هذه الدول دون رغبة مكوناتها، وسيترك الآن الخيار لإعادة تعريف نفسها.
وأضاف ألوف بن أنه بقدر ما يزداد عدد الدول في المستقبل بقدر ما يكون أسهل على “إسرائيل” المناورة والتعامل معها. وقال إن إعادة تشكيل الخريطة بدأ مع الغزو الأميركي للعراق، واستمر مع الانسحاب الإسرائيلي من غزة، ومع تقسيم السودان. وقال إن بلدانا أخرى كالأردن وعُمان قد تتفكك. ونوه بأن الغرب، مثل “إسرائيل”، يفضل شرق أوسط متشظيا ممزقا ومنشغلا بصراعاته، وتقاتل أنظمته على عدة جبهات ضد الوحدة العربية وضد الوحدة الإسلامية.
ولذلك فحسب ألوف بن ليس من المتوقع أن يسعى الغرب لإفشال عمليات التقسيم في المنطقة، ولكنه سيسعى، على العكس، للإسهام فيها. ودعا بن في نهاية مقاله إلى سياسة إسرائيلية ذكية للاستفادة من الفرص المتاحة للتحكم في مسارات الأحداث، وزيادة قوة “إسرائيل” وتأثيرها في المنطقة.
ليس بالضرورة أن تستجيب المنطقة العربية للمخططات والرغبات الإسرائيلية والغربية، ولكن من المهم أن تنتبه الجماهير العربية الثائرة وقادتها للمخططات التي تحاك لها وإلى المصايد الطائفية والعرقية التي توضع في طريقها، حتى تتعامل معها بالحكمة والحزم اللازمين وبدرجة المسؤولية التاريخية المطلوبة، خصوصا أن الأوضاع الثورية وحالات التحول تضعف عادة الحكم المركزي، وتدخل البلاد في مراحل انتقالية قد تستغلها بعض الأطراف لتحقيق مكاسب طائفية أو عرقية ضيقة.
لا يتسع هذا المقال لمناقشة احتمالات نجاح مشاريع التفتيت، وإمكانات مواجهتها، وهو ما سنتطرق له في مقال قادم إن شاء الله.
أضف ردا