بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
حملت نتائج الانتخابات الإسرائيلية وتشكيلة الحكومة الإسرائيلية الجديدة عدداً من الدلالات المهمة، لعل من أبرزها أن الخريطة الحزبية تشهد حالة من إعادة التشكُّل، وأن المنظومة السياسية الإسرائيلية تفتقر إلى القيادات والرموز الكاريزمية التي يمكن أن يحصل إجماع أو شبه إجماع عليها، غير أن أهم هذه الدلالات هو أن “إسرائيل” تواجه -على ما يبدو- حالة من فقدان الاتجاه، والارتباك الإستراتيجي.
وتتمثل حالة الارتباك الإستراتيجي في أننا أمام مجتمع صهيوني يزداد يمينية وتطرفاً، وينكفئ نحو مزيد من العزلة والانشغال بهمومه المحلية، في الوقت الذي يفشل فيه في التكيف مع التطورات الهائلة التي تحدث في محيطه العربي.
ويفقد الآمال بالتحول إلى “كيان طبيعي” في المنطقة، وتتقلص -بشكل سريع- فرص عقد اتفاقيات تسوية مع شركائه المحتملين في المنطقة، بينما تتعقد المسائل المرتبطة بوجوده ومستقبله. وهو في الوقت نفسه يشهد تجاذباً داخلياً حاداً يُفقده القدرة على اتخاذ قرارات أو مسارات تاريخية، ويفقده القدرة على تحديد مساراته الحيوية في بيئة متحركة ومتفجرة.
(1)
أعادت الانتخابات الإسرائيلية تشكيل الخريطة السياسية، فصعدت أحزاب بشكل صاروخي، وتهاوى أكبر حزب فيها. ومع ذلك، فإن خريطة الاتجاهات السياسية -وفق التصنيفات الإسرائيلية- ظلت تراوح حول نفسها بين ما يسمى قوى اليمين والوسط واليسار…. فمجموع المقاعد التي حصلت عليها الأحزاب اليمينية والدينية كان 61 مقعداً مقابل 59 مقعداً لأحزاب الوسط واليسار والأحزاب العربية.
لم يستطع أقوى التكتلات الحزبية -وهو “الليكود – إسرائيل بيتنا”- أن يحصل سوى على 31 مقعداً (نحو 26%). وكان هذا التحالف يملك 42 مقعداً في الكنيست السابق. غير أن مقاعده التي فقدها ذهب معظمها إلى حزب أكثر تطرفاً، يمثِّل بشكل صارخ جمهور المستوطنين الصهاينة في الضفة الغربية، وهو حزب البيت اليهودي بزعامة نفتالي بينيت، حيث تضاعفت مقاعده أربعة أضعاف من ثلاثة إلى 12 مقعداً.
وبالتالي، فإن حزب الليكود -الذي يمثل تاريخياً اليمين الصهيوني المتشدد- جاء إلى يمينه في السنوات الماضية حزب أكثر تشدداً وعنصرية هو “إسرائيل بيتنا” بزعامة ليبرمان، والآن يجد هذان الحزبان حزباً ثالثاً فاعلاً في السياسة الإسرائيلية، غارقاً في التطرف والعنصرية هو “البيت اليهودي”. وهذا يعني أن التطرف الصهيوني أعيد تشكيله ليكون أكثر تطرفاً، بحيث أصبح البعض يرى الليكود على “يسار يسار” حزب البيت اليهودي. أما الأحزاب الدينية التقليدية “الحريديم” فحافظت تقريباً على حجمها السابق.
ضربت ظاهرة إعادة التشكل حزب كاديما أكبر الأحزاب الإسرائيلية في الكنيست في الفترة 2006-2013، والذي قاد الحكومة الإسرائيلية في الفترة 2006-2009. فقد انهار هذا الحزب ليحصل على مقعدين فقط، بعد أن كان يملك 28 مقعداً في الكنيست السابق.
وصعد على حسابه حزب جديد هو حزب “يوجد مستقبل” بزعامة يائير لبيد، وهو حزب صعد من الصفر ليصبح ثاني أكبر حزب في “إسرائيل” بـ19 مقعداً، وتقدم من خلال طرح برامج اقتصادية واجتماعية. وحصل حزب الحركة -الذي أنشأته ليفني زعيمة كاديما السابقة- على ستة مقاعد. أما حزب العمل -الذي عانى من التآكل والتراجع، ومن انشقاق زعيمه ووزير الدفاع إيهود باراك- فقد تمكن من إعادة ترتيب صفوفه وتحسين موقعه قليلاً من 13 مقعداً إلى 15 مقعداً.
وهذا يعني أن الخريطة السياسية للتيارات الصهيونية قد شهدت تبدلات حادة، ولكن في داخلها وفي إطارها، وليس في المشهد الكلي. ولعل ذلك يشير إلى أن هذه التيارات تواجه أزمات داخلية متعلقة بسياساتها وبرامجها، أو برموزها، وقد حاولت أن تجيب على ذلك بعملية تغيير مسَّت -بشكل كبير- جمهورها المحتمل، ولكنها فشلت في أن تقدم برامج أو قيادات يجتمع عليها أغلب المجتمع الصهيوني في فلسطين المحتلة.
وهذا يعني أن اتجاهات التغيير أنتجت حالة عاجزة عن تقديم إجابات حاسمة للقضايا الكبرى. هذا الارتباك الإستراتيجي سيؤدي إلى نوع من فقدان الاتجاه، وبالتالي الرغبة بالتهرب من الاستحقاقات الكبيرة إلى الانشغال بالهموم اليومية والمجتمعية.
الحكومة الإسرائيلية الجديدة أعطت ثقلاً نوعياً إضافياً للمستوطنين ومؤيديهم، فجاءت أكثر تطرفاً من الحكومة الإسرائيلية السابقة المتطرفة أصلاً. وأصبحت وزارات الدفاع والإسكان والداخلية والاقتصاد بيد المستوطنين في الضفة الغربية، أو مؤيديهم. وحتى الليكود نفسه قدَّم نواباً في الكنيست، ووزراء في الحكومة أشد يمينية مما سبق.
ومن خلال هذه الحكومة -التي أصبح المستوطنون فيها في مركز صناعة القرار، وضمنوا التمويل والدعم السياسي والعسكري- لم يعد أمراً ذا قيمة كبيرة أن تنضم للحكومة تسيبي ليفني لتتولى ملف التفاوض مع الفلسطينيين. وبالرغم من أنه يُنظر إليها كرمز للاعتدال في الحكومة الإسرائيلية، إلا أنه ينبغي تذكُّر خلفيتها الليكودية والأمنية، فضلاً عن حجم حزبها الصغير غير المؤثر.
(2)
يُظهر المشهد الإسرائيلي الكثير من الارتباك والقلق في الأوساط السياسية الإسرائيلية، تجاه التغيرات والثورات التي يشهدها العالم العربي، إذ أن “إسرائيل” القائمة على أساس فرضية ضرورة وجودها في منطقة محيطة ضعيفة مفككة متخلفة، ترى كابوساً حقيقياً في تحول المنطقة إلى حالة قوية متماسكة متقدمة. والارتباك والقلق لا يأتي -فقط- بسبب قوة هذه الانتفاضات وعمق تأثيرها، وإنما بسبب تعصّب وتعنت القيادة الإسرائيلية الحالية وضعف رؤيتها المستقبلية.
وحسبما ذكر الكاتب اليهودي الصهيوني الأميركي المعروف -توماس فريدمان- في جريدة النيويورك تايمز في 19/9/2011 “لم أكن أبداً أكثر قلقاً على مستقبل إسرائيل من قلقي عليه الآن. فتداعي الأعمدة الرئيسة لأمن إسرائيل -السلام مع مصر، واستقرار سوريا، والصداقة مع تركيا والأردن- مقترناً مع أكثر الحكومات في تاريخ إسرائيل حماقة من الناحية الدبلوماسية، وأكثرها عجزاً في الشأن الإستراتيجي، قد وضعا إسرائيل في وضع بالغ الخطورة”.
ولعل المحللة الإسرائيلية أمونة ألون قدًّمت وصفاً مُعبراً عندما قالت إن “العالم العربي ينقلب رأساً على عقب، وهكذا إسرائيل أيضاً، فالأرض التي تهتز تحت الدول المجاورة تهتز تحت إسرائيل أيضاً، ويكفي النظر فيما يحصل الآن في الشرق الأوسط كي نفهم أننا لا نفهم شيئاً”!!
هل هناك إجابات إسرائيلية واضحة عما سيفعلون إذا ما تحول الشعب الفلسطيني كله إلى خيار المقاومة؟ وعما سيفعلون في ظل امتلاك المقاومة لصواريخ تجعل كل مساحات الكيان الإسرائيلي فضاء مستهدفاً لصواريخ المقاومة، وماذا سيفعلون في حالة فقدانهم للأمن واستنزاف اقتصادهم؟
هل هناك إجابات إسرائيلية واضحة عن ما سيفعلون في حال السقوط النهائي لمسار التسوية السلمية، ولخيار الدولتين، وإغلاق “باب السلام” مع الدول العربية؟! وماذا سيفعلون إذا ما سقطت السلطة الفلسطينية وعادوا هم لتحمل تكاليف الاحتلال وأعبائه الاقتصادية والحياتية, بينما يركز الفلسطينيون على المقاومة بأشكالها المختلفة؟! كما لا توجد إجابات إسرائيلية واضحة للتعامل مع حالة استمرار الاحتلال، مع استمرار الزيادة السكانية الفلسطينية، أو مع حالة الدعوة إلى فكرة حل الدولة الواحدة الذي سيفقد إسرائيل غالبيتها اليهودية وطبيعتها الصهيونية.
يعترف الإسرائيليون بالمخاوف الكبيرة من احتمال إلغاء اتفاقية كامب ديفيد وانتهاء مشروع التسوية مع مصر، إذ أكد نتنياهو على أن معاهدة السلام بين “إسرائيل” ومصر “هي حجر الزاوية للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط كله”. ووافقت العديد من التحليلات ما ذهب إليه إيهود باراك من أن هناك حركة دولية للاعتراف بدولة فلسطين، ولنزع الشرعية عن “إسرائيل”، ووضع “إسرائيل” في حالة العزلة التي وجدت جنوب أفريقيا نفسها فيها، قُبيل إنهاء نظامها العنصري، وأن حالة الجمود الحالية تلحق أضراراً بالغة، وذات طبيعة استراتيجية بـ”إسرائيل”.
ولذلك فإن الكثير من الإسرائيليين ركزوا على ضرورة تقديم مبادرات سياسية و”تنازلات”. وقد أكد على هذه الفكرة من القيادات الإسرائيلية شمعون بيريز، وإيهود باراك، وتسيبي ليفني، وشاؤول موفاز، وبنيامين بن إليعازر… وغيرهم.
ومع ذلك، فشلوا هم أنفسهم في تقديم مشروع تسوية يمكن أن يوافق عليه العرب، حتى والعرب في أضعف حالاتهم. إن تبدُّل الأوضاع قد يُظهر أن الإسرائيليين قد خسروا “فرصتهم الذهبية”، بعد أن فقدت عملية التسوية معناها كما فقدت “زبائنها”.
هل هناك إجابات إسرائيلية واضحة في حال تحول الفضاء الإستراتيجي المحيط “بإسرائيل” إلى منطقة معادية، تدعم المقاومة وتوفر لها الدعم المادي واللوجيستي؟! وماذا سيفعلون إذا ما شهدت المنطقة أنظمة حرة تعبر عن إرادة شعوبها وتقود مشروعاً وحدوياً ونهضوياً، يؤدي في نهاية الأمر إلى تغيير موازين القوى ومعادلة الصراع؟!
هل هناك إجابات إسرائيلية واضحة حول التعامل مع الملف النووي الإيراني؟
هل هناك إجابات إسرائيلية واضحة حول الصعود التركي وعدائه المتزايد لإسرائيل؟
هل هناك إجابات إسرائيلية واضحة في حال نشوء أوضاع مستقبلية تؤدي إلى انفكاك العلاقة الإستراتيجية بين “إسرائيل” والقوى الغربية؟! وما إذا كانت الدول الغربية ستستمر دائماً في دعم كيان عنصري، يمارس القهر والاحتلال، ويضع نفسه فوق القانون؟ وإلى أي مدى سيظل الكيان الإسرائيلي قيمة إستراتيجية للغرب قبل أن يتحول إلى عبءِ يُثقلهم سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً؟
في زيارة أوباما الأخيرة لـ”إسرائيل” تحدث عن “التحالف الأبدي” بين أميركا و”إسرائيل”. ولكن السياسيين الأميركيين يعلمون أن سقف دعمهم يتضاءل مع الزمن. إن فشل تجربة التدخل العسكري الأميركي في العراق وأفغانستان، والتكاليف الاقتصادية الهائلة لذلك، وإنهاك جيشهم في حروب لا طائل منها، قد أعطتهم دروساً مهمة. وفي الوقت الذي يعاني الأميركان ودول الغرب من أزمات اقتصادية خانقة، سيكون من الصعب مجرد التفكير بتدخل عسكري لاحتلال أي من دول “الربيع العربي”.
(3)
الحلول التي يقدمها الإسرائيليون لا تقدم إجابات حقيقية مقنعة إلا -ربما- في مخاطبة أنفسهم لأنفسهم. يعمد الإسرائيليون إلى تكثيف الاستيطان في الضفة الغربية، وتهويد القدس، وبناء الحقائق على الأرض، كما يتابعون تطوير قوتهم العسكرية، وتنمية القدرات الاقتصادية، ومعالجة مشاكل البطالة… وغيرها. ولكنهم لا يستطيعون وقف عجلة التغيير في المنطقة، ويعلمون أن انتفاضة واسعة قادمة ستفقدهم الأمن، وتعيد اقتصادهم سنوات إلى الوراء.
ويطرح إسرائيليون فكرة الدولة المؤقتة ولكنهم يواجهون بإجماع فلسطيني على رفضها، كما يطرح بعضهم فكرة الانسحاب الأحادي الجانب من مناطق واسعة من الضفة الغربية، لكنهم يواجهون بمعارضة إسرائيلية داخلية واسعة، بسبب احتمال سيطرة قوى المقاومة على الأرض التي ينسحبون منها. وحتى أولئك الذين يتحدثون عن حل الدولتين لم يصلوا بعد إلى الحد الأدنى الذي يقبله حتى الفلسطينيون “المعتدلون” من أنصار تيار التسوية، سواء فيما يتعلق بمساحة الدولة الفلسطينية وسيادتها، أو بالقدس، أو بمستقبل اللاجئين.
ستحاول “إسرائيل” وحلفاؤها استغلال حالة الاضطراب وعدم الاستقرار الناشئة عن الثورات والصدامات بين الشعوب وأنظمتها، لحرف مسارات التغيير عن وجهتها الحقيقية. ولعل من أخطر الجوانب السعي لإثارة العداوات والنعرات العرقية والطائفية، بشكل يؤدي إلى مزيد من التفتيت والانقسام في المنطقة العربية. وبالرغم من خطورة هكذا احتمال، فإن وعي الشعوب وإرادتها النهضوية والوحدوية ستمكنها من تجاوز هذا التحدي.
المجتمع الصهيوني سيستمر بعقلية “إدارة الأزمة” وليس “حلّ الأزمة”. وهذا يعني أن “إسرائيل” تفقد، أو فقدت أفضل الفرص التاريخية لعقد تسويات سياسية تناسبها في المنطقة، وتضمن لها وضعاً مريحاً ومهيمناً. كما أن سياستها العدوانية لن تزيد إلا من أجواء العداء ضدها. وهكذا فإن أزمتها ستزداد مع الزمن تأزماً.
أضف ردا