بقلم: يوسف أبو السعود* (خاص – مركز الزيتونة).
أحدثت الاختراقات الأخيرة في ملف المصالحة الفلسطينية حالة من التفاؤل بقرب اتفاق بين الفصائل الفلسطينية على إعادة ترتيب البيت الداخلي، وإعادة تقييم المرحلة السابقة وصياغة آليات جديدة للتمثيل، تشمل جميع الفلسطينيين في الداخل والخارج، لكن هذه الإشارات الإيجابية لم تلبث أن تبددت حين وُضعت العراقيل أمام إمكانية إشراك فلسطينيي الخارج وإعادة الاعتبار لدورهم التاريخي في الصراع، دون أن يكلف أحدهم نفسه عناء التفكير في الآلية المناسبة، وكأن المطلوب هو إغلاق الباب وكفى!
منذ النكسة، شكلت الجاليات الفلسطينية المقيمة في دول الطوق محاضن خصبة للعمل الفدائي والسياسي للقضية الفلسطينية، راكم من هذا العمل المواقف الإيجابية التي كانت تتبناها بعض الأنظمة السياسية تجاه الحق الفلسطيني. ما يعنينا اليوم هو: كيف تراجعت أدوار الشتات الفلسطيني في خدمة مشروع التحرير، ولماذا تركت هذه الملايين بلا تمثيل سياسي؟ وما هي الأدوار التي تنتظرها جماهير الشتات من فصائل العمل الوطني الفلسطيني؟
تفكيك الكتلة الصلبة
بدخول المنطقة في شِرْك السلام المزعوم، دخل معها الشتات الفلسطيني مرحلة من الإهمال والتهميش وتقزيم التمثيل، توجتهُ حقبة أوسلو وما بعدها، إذ ظهرت حينها مصطلحات الداخل والخارج، وكأنها حالات مُسلّم بها، تتداخل معها المصالح والاستراتيجيات.
ضاع التمثيل السياسي لفلسطينيي الشتات في مؤسسات صناع القرار، وتيبست عروق مؤسسات النضال الفلسطيني في الخارج، حتى أضحت مع صعود تيار أوسلو هياكل لا تملك من أمرها الكثير. أما الوجود الفلسطيني في الخارج فقد تُرك للدول المضيفة لتفرض أجندتها الجديدة عليه، فأصبح العمل في أوساط الشتات الفلسطيني أقرب إلى المحرم إذ يمسّ الهوية المحلية.
شكلت حالة حصر واقع اللجوء الفلسطيني في المخيمات، وتحويلها إلى كيانات معزولة اجتماعياً عن محيطها، إشارة لا يخطئها الناظر في محاولةٍ لتفكيك الكتلة الواحدة، لتفكك معها الروابط والفعاليات والتمثيل. فوق هذا تُرِك الفلسطينيون في الشتات مكشوفي الظهر أمنياً وسياسياً مع غياب المؤسسات الفاعلة التي تمثلهم وتدافع عن حقوقهم، أو على الأقل تتفاهم مع الدول المضيفة على ما ينبغي وما لا ينبغي بحقهم. وهو ما أفضى إلى تصاعد أصوات متطرفة في الجانبين زادت من حالة الاحتقان. كانت الهجرة، وبأعداد كبيرة، من دول الطوق إلى الخليج وأوروبا وأمريكا نهاية المطاف لهذه السياسية التي استفاد منها العدو.
مظهر آخر تتجلى فيه المأساة المسكوت عنها يتمحور في سلوك خطير يدفع الفلسطيني إلى التخلي عن كل ما يتعلق بوطنه من أوراق ثبوتية، فالوثيقة الفلسطينية أياً كان نوعها مثار تساؤل وشكّ وتعقيد في المطارات والمعابر. ولعل حالة فلسطينيي العراق وسوريا ومعاناة أهل القطاع المقيمين في الخارج خير مثال على هذه السياسية، التي يخلط فيها الحق بالباطل، فالحفاظ على هوية الفلسطيني وحقه لا تعني بحال تعريضه للتأخير والإعاقة أو اتخاذه موضعاً للشك والريبة أينما حلّ.
الخوف من الفلسطيني
لعبت سياسة الانكفاء القُطري للدول المضيفة للفلسطينيين (الأردن ولبنان على وجه التحديد) أثراً كبيراً على نشاطهم السياسي والاجتماعي، فظهور شعارات محلية وتصاعد الهويات الفرعية في داخل مجتمعات الدول المضيفة، شكل مزاجاً عاماً أفضى إلى حالة من التناقض بين الهويات المحلية لتلك الدول والهوية الفلسطينية.
أخفقت هذه الدول ومعها الفصائل الفلسطينية في اجتراح مقاربة أو إنضاج خطاب إعلامي وثقافي يحتوي القضية الفلسطينية في داخل الهوية المحلية، باعتبارها قضية أرض محتلة، تتناقض في كل تجلياتها مع العدو الساعي إلى محوها.
وجد مفهوم “الفلسطينيوفوبيا” صداه في العقل الجمعي للدول المضيفة واعتبر الوجود الفلسطيني مهدداً للمجتمع المحلي، نشأ الصراع الخفي بين الهويتين، وألقى بظلاله في صورة شعارات وهتافات لم تخل منها ملاعب الكرة وساحات العمل الشبابي. زيارة واحدة لأحد مخيمات اللاجئين في هذه الدول ومراقبة سلوك الأجيال الناشئة هناك تثير الأسى، مما وصلت إليه الحال من حنق على الهوية المحلية للدولة المضيفة وسياساتها.
نحن هنا لا نبرر هذا السلوك بقدر ما نوصف الحالة، إذ كيف لهذا الشاب أن يري فلسطينيته كل يوم على أبواب المخيم وبين أزقته، ثم تطالبه أن لا يتحدث بفلسطين، وأن لا يمارس أياً من تجليات الهوية الفلسطينية ونشاطاتها، وفوق هذا كله تغيب قضيته وتطوراتها التاريخية والسياسية عن مناهج التعليم التي يتلقاها.
وفي سياق التعليم والتنشئة لأبناء فلسطينيي الخارج، تبرز التساؤلات المؤلمة حول تحديد الذاكرة الجمعية للشعب وعلاقة التعليم ببنائها، وأية أجزاء من المعرفة التاريخية مسموح للاجئ الفلسطيني أن يتذكرها ويعيد بناءها.
كم كنا نتمنى أن يدرك الجميع أن حالة الإلحاح على الهوية الذاتية لفلسطينيي الخارج مرتبط وبشكل كبير بمستوى التحديات التي تواجهها، ومن هنا كانت محاولات الحفاظ عليها تشكّل مناعة للحفاظ على الوطن السليب في خيال الأجيال الجديدة.
المظلمة السياسية قبل الإغاثة
ارتبطت صورة اللاجئ الفلسطيني بالمخيم بكل ما يعانيه ويقاسيه من شطف العيش، غاب عنهم أو غُيَب أن أبناء المخيمات لا يشكلون أكثر من ثلث الوجود الفلسطيني في الشتات، روّجت منظماتنا، من حيث تدري أو لا تدري، لهذا النموذج من التعاطي الإنساني مع القضية، حتى تظل قضية اللاجئين قائمة ومستدرة للتعاطف والدعم الإنساني،غاب عنهم أن الحل الإنساني هو أبسط الحلول في تكريس الواقع، وأن إمعان أصحاب الشأن في البحث عن حل لهذه المشكلة الإنسانية بمعزل عن أبعادها الوطنية والسياسية والقانونية، يشكل بحدّ ذاته تناقضاً جذرياً مع أبجديات الصراع من أجل التحرير والعودة. ليست قضية فلسطينيي العراق وسوريا مؤخراً إلا دليلاً على هذا التخبط وطغيان الأولويات الإنسانية على الحقوق السياسية في ظل غياب التمثيل السياسي.
ثمة معضلة أخرى في هذا الخطاب الإنساني تتمثل في النظر إلى “الأونروا” ومشروعها في تقليص خدماتها، باعتبارها تسد عجزاً في واقع اللاجئين الاجتماعي والإنساني، أكثر من كونها شاهداً دولياً على المأساة والمظلمة السياسية، فتجد الوكالة لا تتكلم بكلمة واحدة في حقوق اللاجئين السياسية والقانونية ولا تسمح للعاملين فيها أو طلابها أن يتناولوا أي خطاب سياسي أو قانوني حيال قضيتهم.
وكأن المطلوب أن يبقى البعد الإغاثي هو توصيف لحالة اللجوء وتداعياتها، وهي، لعمري، مكمن الخطورة على الأجيال الجديدة، فالشتات الفلسطيني ليس في حاجة لأكياس الطحين وأقراص منع الحمل، قدر احتياجه للضغط والتعبير عن معاناته السياسية حين تمّ تجريده من ارض ووطن وهوية.
خطاب الفرصة الأخيرة
شكلت التغيرات الناشئة عن الربيع العربي حالة استثنائية وتأسيسية في جسم الأمة، وبالرغم مما تعانيه الملفات المحيطة بالقضية من ارتباك ملحوظ، إلا أن الأبعاد الاستراتيجية تعمل، بلا شك، لصالح مشروع التحرير، المطلوب هنا في حالة فلسطينيي الشتات استثمار هذا المتغير الكبير واستغلال اللحظة الراهنة في التأسيس لجملة من الأدوار تتعدى حدود السقوف الوهمية وتتخلص من ذهنية الانتظار، وتزيد من الالتفات إلى صوغ استراتيجية تعيد للشتات الفلسطيني دوره في إبراز المسألة الفلسطينية بين المجتمعات التي يعيش فيها:
أولاً: لا بدّ وأن تدرك فصائل العمل الفلسطيني أن الأجيال الجديدة من أبناء الفلسطينيين في الخارج لن تغفر لها تقاعسها عن تمثيلهم ودعم حقوقهم السياسية في ممارسة هويتهم واختيار ممثليهم، والفرصة اليوم متاحة، وبشكل استثنائي، إن توفرت الإرادة السياسية الصادقة، لإعادة ترتيب علاقة الدول المضيفة باللاجئين، بعيداً عن الهواجس المصطنعة، وبما يحفظ حقوقهم السياسية والنضالية ولا يخل بالأولويات المحلية لهذه الدول.
ثانياً: إن أي التفاف على تمثيل الشتات الفلسطيني في مؤسسات صناعة القرار، وفي مقدمتها المجلس الوطني والمنظمة، سيمثل انتكاسة جديدة للمشروع الوطني الفلسطيني وتغييباً لنصف الشعب الفلسطيني عن قول كلمته في مستقبله، واستشعار هذه المسؤولية في الحوارات مع الدول المضيفة، سيمكّن بلا شكّ من اجتياز أي عقبة في الطريق.
ثالثاً: إسرائيل هي المستفيد الأكبر من تفكيك وتقزيم أدوار الشتات الفلسطيني، وترسيخ شعار الوطن البديل ينحصر بالأساس في الإمعان في تهميش النشاط الهادف لتحرير فلسطين من الخارج. إن مؤامرة توطين اللاجئين لا يمكن أن تُجابَه في ظلّ المقاربة الأمنية في التعاطي مع تجسيدات الهوية بين التجمعات الفلسطينية، ولا في حالة الإهمال الخدماتي والسياسي، أو التحكم في صناعة الرموز وممثلي أبناء المخيمات، بل في تعزيز وترشيد واستثمار ممارسة الهوية الفلسطينية إلى جانب شقيقتها المحلية وصناعة ثقافة مشتركة لرسم صورة من التكاثف في سبيل الحفاظ على الحق الفلسطيني في فلسطين، كل فلسطين.
إن صوت العقل والحكمة لا بدّ وأن يعلو، وفصائل العمل الفلسطيني والدول المضيفة مدعوّةٌ اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى حوار هادئ، يصوغ استراتيجية تعمل على تحقيق التوازن وترشيد العمل الفلسطيني في الشتات، بعيداً عن الرؤوس الحامية وخطابات التطرف أو التفريط.
* يوسف أبو السعود، أكاديمي فلسطيني مقيم في الخليج، متخصص في مجال القيادة وأثرها على مؤسسات التعليم العالي، باحث مهتم بالشأن السياسي الفلسطيني، له عدة مشاركات وأوراق علمية متصلة بواقع فلسطينيي الشتات، آخرها ورقة بعنوان “تحديات الهوية لدى الشباب الفلسطيني في الشتات”، قدمت في ندوة لمركز الجزيرة للدراسات في الدوحة أبريل 2012. للكاتب كذلك مقالات لدى صحيفتي الغد والسبيل الأردنيتين.
أضف ردا