بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
الصراع في مصر والصراع على مصر لا يمكن تبسيطه في مجرد كونه صراعا على النفوذ السياسي، وإن كان الصراع السياسي جزءا منه.
فهو في جانب رئيسي منه صراع أيديولوجي متعلق بهوية الدولة ومساراتها التنموية والنهضوية، وطريقة تعريفها لنفسها ودورها الإقليمي والدولي.
وينبني على هذا التعريف منظومة من البرامج والسياسات والتجليات الاقتصادية والسياسية والدينية والثقافية والتربوية والأمنية والعسكرية.
شعارات “عيش، حرية، عدالة اجتماعية…” التي رفعتها ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، هي شعارات تتوافق عليها التيارات الإسلامية واليسارية والقومية والليبرالية، ولكن عند النزول على الأرض تحدث اختلافات واسعة في فلسفة العمل وطرق التنفيذ.
هناك مساران فكريان أساسيان يتنافسان أو يصطرعان في مصر (وفي المنطقة العربية والإسلامية) الأول التيار الإسلامي والثاني التيار العلماني، ولكليهما أشكال وتيارات فرعية مختلفة.
أما الفاعلون على الأرض من الناحية الشعبية والسياسية فهم ثلاثة اتجاهات: الأول الجيش (العسكر) ومعه نفوذه وتحالفاته في كافة مؤسسات الدولة العميقة، وهو بشكل عام يتبنى خطا علمانيا. والثاني الاتجاه الإسلامي الذي يمثله بشكل أساس الإخوان المسلمون وبدرجة أقل السلفيون. والثالث الأحزاب والاتجاهات ذات المرجعية العلمانية، سواء كانت وطنية قُطرية، أم قومية أم يسارية أم ليبرالية، وظهرت أبرز تجلياتها في أحزاب الوفد والدستور والتجمع والتيار الشعبي أو ما يعرف بجبهة الإنقاذ.
وفي كل التيارات هناك معتدلون، وهي لا تكاد تخلو من متشددين، و”نرجسيين” و”متسلقين”.
***
مصر تملك وضعا إستراتيجيا فريدا، يجعلها أكثر من غيرها عرضة للتدخلات والمعادلات الإقليمية والدولية، فمصر لها دورها المركزي في العالم العربي، والعالم الإسلامي، وفي أفريقيا والصراع مع المشروع الصهيوني، كما أنها تسيطر على أحد أهم شرايين التجارة العالمية (قناة السويس).
أي أن نهوض مصر لن يكون مجرد شأن محلي، وإنما ستنعكس آثاره النهضوية على العالم العربي والإسلامي، وعلى معادلة الصراع مع الكيان الإسرائيلي. وبالتالي فإن تحديد الشعب المصري لخياراته السياسية لن يمر بسلام، إذا تعارض مع الحسابات الإقليمية والدولية.
وستحاول القوى المختلفة النفاذ إلى نقاط الضعف في الحالة المصرية، لتؤثر في عملية صناعة القرار وتوجيهه، خصوصا إذا لم يقم أبناء الشعب وتياراته المختلفة ببناء حالة من المناعة وشبكة الأمان الوطنية التي تمنع القوى الخارجية من التدخل.
وعلى ذلك فإن سؤالي الهوية والنهضة صارا سؤالين حيويين، فمصر القُطرية “الفرعونية” المنكفئة على نفسها، غير مصر بهويتها العربية وهويتها الإسلامية، ومصر بمرجعيتها العلمانية اشتراكية كانت أم ليبرالية، هي غير تلك التي مرجعيتها إسلامية، ومصر المنفتحة على كافة قوى المجتمع وتياراته هي غير تلك الدكتاتورية التي تقع تحت سيطرة العسكريين.
***
مسألة “المشروع الإسلامي” في مصر جرى هجوم إعلامي شرس عليها، ثم جرى تبسيطها وتشويهها من خلال استخدام مصطلح “الأخونة”، وتم التعامل مع المصطلح كمرادف للاستحواذ والاستئثار والهيمنة بغير وجه حق.
واستخدمت هذا المصطلح وسائل الإعلام المرتبطة بـ”فلول” النظام السابق، ثم ما لبث أن اتسع استخدامه في صفوف معارضي التيار الإسلامي وتحديدا الإخوان المسلمين، وقد هدف مستخدمو هذا المصطلح إلى:
1- تشويه المشروع الإسلامي، وبرنامج الإصلاح والتغيير، الذي فاز على أساسه الإسلاميون في مصر.
2- إحداث حالة نفسية وشعبية عامة تقف في وجه الإجراءات التي يقوم بها نظام الحكم الجديد (ما بعد الثورة) في إصلاح المؤسسات أو توظيف الخبرات والكفاءات أو استبعاد الفاسدين، بحجة أن ذلك عملية “أخونة”.
3- إحداث شرخ في أوساط قوى الثورة، من خلال التخويف من الإخوان و”خطرهم القادم”، وتضخيم نقاط الاختلاف مع التيارات الأخرى، وتضخيم أخطاء الإخوان، والتركيز على السلبيات.
4- إحداث شرخ في أوساط من الإسلاميين أنفسهم، من خلال تركيز الهجوم على الإخوان، وتقديمهم بوصفهم مستأثرين بالسلطة، ومشوهين للنموذج الإسلامي.
وقد نجحت هذه الحملة إلى حد كبير بما لها من إمكانات إعلامية ومالية هائلة مصرية وإقليمية.
وقد أعانها على ذلك بعض أخطاء الإخوان أنفسهم، إذ كان على الإخوان أن يقوموا بجهد مضاعف في استيعاب القوى الوطنية والثورية والشبابية وفي حماية الثورة. كما أعان هذه الحملة أن الإخوان سمحوا (احتراما للمسار الديمقراطي) لهذه الوسائل بأن تأخذ حريتها الكاملة في نهش إنجازاتهم وتاريخهم ولحومهم.
وقد أظهرت بعض الدراسات (كما أشار الأستاذ فهمي هويدي) أنه في أثناء حكم الرئيس مرسي كان أكثر من 90% من الإعلام المصري الخاص، وأكثر من 70% من الإعلام الحكومي موجها ضد مرسي وضد الإخوان.
وعلى الرغم من أن أنصار التيار الإسلامي انتصروا في خمسة استحقاقات انتخابية في مصر، وبأغلبيات تزيد على الثلثين في معظمها، فإنهم لم يقوموا أو لم يستطيعوا أن يقوموا بـ”الأسلمة” ولا بـ”الأخونة”، حيث ووجهوا بكافة وسائل التعطيل والإفشال التي تم تتويجها بالانقلاب العسكري.
لقد كان سلوك الإخوان منفتحا، فعندما دخلوا الانتخابات النيابية أشركوا معهم تحالفا من حوالي عشرة أحزاب شكل الإخوان رافعة له، بما فيها حزب حمدين صباحي، الذي فاز على قوائم الإخوان.
وفي أحد أرقى وأنزه انتخابات في التاريخ المصري (منذ أيام الفراعنة!) فاز تحالف الإخوان بنحو 47% من مقاعد مجلس النواب المصري، كما حصدوا نحو 58% من مقاعد مجلس الشورى.
ومع ذلك، فعندما شكّل رئيس الجمهورية (مرسي) حكومته اختار رئيس وزراء من غير الإخوان، وشارك فقط خمسة من الإخوان في حكومة من 35 وزيرا، أي (14%)، والإخوان الخمسة لم يتولّ أي منهم وزارة سيادية، مع أنه في كل البلدان الديمقراطية الغربية يشكل الحزب أو الرئيس الفائز حكومته من حزبه وبنسبة 100% حتى يتمكن من تنفيذ برنامجه.
وعندما قام الرئيس مرسي بإقالة كل من وزير الدفاع طنطاوي ورئيس الأركان سامي عنان وأنهى دور المجلس العسكري، وهو ما لقي ترحيبا شعبيا واسعا، قامت وسائل إعلام محسوبة على “الفلول” بالتشويه والتشهير، لدرجة أن إحدى الصحف كان مانشيتها العريض في اليوم التالي، في 17أغسطس/آب2012 “رسميا… إخوانية”.
ثم توالت مظاهر تحشيد إعلاميين وسياسيين ومثقفين باستهداف أية عملية تغيير أو إصلاح باعتبارها عملية “أخونة”، حتى عبد الفتاح السيسي نفسه الذي عينه مرسي وزيرا للدفاع تم اتهامه بصلاته وقربه من الإخوان.
وعندما قام مجلس الشورى المصري بتغيير القيادات الصحفية في القطاع الحكومي العام شُنّت عليه حملة إعلامية شرسة تتهمه بالأخونة، وعند التدقيق في قائمة الخمسين رئيس تحرير ومسؤولا الذين تم تعيينهم لم يكن يوجد بينهم عضو واحد في الإخوان المسلمين.
أما مساعدو الرئيس مرسي الأربعة فلم يكن بينهم سوى واحد من الإخوان، وأما مستشاروه السبعة عشر فلم يكن بينهم سوى أربعة من الإخوان، وأما المحافظون الـ27 فكان بينهم فقط سبعة من الإخوان، وأما المجلس القومي لحقوق الإنسان فكان هناك أربعة إخوان فقط من أصل 25 عضوا.
وتواصل استخدام المصطلح بشكل مبتذل وبروح مملوءة بالكراهية، وبأسلوب متكرر يصل الليل بالنهار، حتى وصل الأمر الاستخفاف بعقول الناس لدرجة اتهام الرئيس الأميركي أوباما بأنه من الإخوان!
ما هو أسوأ، أن بث الكراهية هذا أدى إلى أن يصبح خبر حرق مقرات الإخوان وقتلهم واعتقالهم وتعذيبهم خبرا عاديا بل ومبررا لدى نخبة من المثقفين والسياسيين والإعلاميين.
وما هو أسوأ أيضا أن يستخدم ادعاء “الأخونة” للقفز على التجربة الديمقراطية الوليدة في مصر، ولتفريغ مكتسبات ثورة 25 يناير من محتواها، ولإعادة فلول النظام السابق إلى مواقعهم.
***
ومن جهة أخرى، فلعلنا نستخدم مصطلح “الوفدنة” للتعبير عن الاتجاه العلماني المدني في مصر، وبالرغم من أن هذا المصطلح هو مصطلح مُخِلٌّ، كما هو الحال في مصطلح “الأخونة”، فإن الوفد يظل الحزب العلماني الأعرق والأقدم في مصر، وكان الأكثر حظا بعد الأحزاب الإسلامية في الانتخابات المصرية، وهو أبرز أحزاب جبهة الإنقاذ التي سعت لإسقاط مرسي وتحالفت مع العسكر.
يتميز هذا الاتجاه العلماني بأنه فاعل ونشط في أوساط النخب المثقفة والمسيسة من الشعب وفي الأوساط الإعلامية، وفي الرتب العالية من موظفي “الدولة العميقة”، بما في ذلك القضاء.
تتمثل إشكالية الأحزاب العلمانية ذات المرجعيات اليسارية والليبرالية والقومية في أنها فشلت في بناء تواصل حقيقي مع الإنسان المصري العادي، وفي تبني همومه ومشاركته إياها، وبالتالي فشلت في كافة الاستحقاقات الانتخابية النزيهة التي حدثت في مصر، ولم يزد حجم التصويت لها مجتمعة في مجلس النواب المصري عن نحو ربع أصوات الناخبين.
وعندما بلغ التصعيد والتحريض الإعلامي المساند لها ذروته في معركة إقرار الدستور المصري بلغ عدد مؤيديها، ومن خلفهم مؤيدو النظام السابق، نحو 35% من الناخبين.
وهذه الأحزاب بينها “ما طرق الحداد” من حيث الاختلافات الأيديولوجية والرؤية الاقتصادية والاجتماعية، ومن حيث تعريف مصر ودورها الوطني والإقليمي والدولي.
كما أن جانبا مهما من أزمة هذه الأحزاب يتمثل في عدم قدرتها على تجديد نفسها، وعدم وجود أجيال شابة تستطيع حمل رسالتها، وارتباطها بأشخاص ورموز أكثر من ارتباطها بالأيديولوجيا والأفكار والبرامج السياسية، ثم إن نظام مبارك السابق، نجح إلى حد كبير في تفتيتها وإضعافها.
ولعل الإحباط الذي عانته هذه الأحزاب من عدم القدرة على منافسة الإسلاميين في صناديق الاقتراع، وانكشاف واكتشاف بعضها من أصحاب الأصوات العالية (كحزب التجمع وحزب الدستور…) أنه لا يملك أكثر من 3-5% من أصوات الشعب المصري، أدى إلى مراهنة هؤلاء على العسكر لإعادة ترتيب حياة سياسية ضمن قواعد جديدة، يتمّ فيها قصّ أجنحة الإسلاميين أو استئصالهم.
غير أن هذا في حد ذاته كان فضيحة لقوى سياسية كانت ولا تزال تملأ الأرض صراخا حول الدولة المدنية، والديمقراطية، لأنها فتحت المجال للعسكر ليكونوا فوق الدولة وفوق الرئاسة وفوق الدستور، وفوق الحكومة، وفوق المؤسسة التشريعية وهو ما دفعت مصر ثمنه غاليا.
بالإضافة إلى أن هذه القوى مارست “مراهقة” وانتهازية سياسية طوال حكم مرسي، بحيث سعت إلى إفشاله وإسقاط تجربة الإخوان، حتى لو أدى ذلك لإسقاط التجربة الديمقراطية نفسها، واهتمت بالمناكفة وتصيّد الأخطاء أكثر مما انشغلت بتسديد المسيرة وتجاوز العقبات.
***
أما مصطلح “الجيشنة” فقد اخترناه هنا من باب المجاراة اللفظية للأخونة والوفدنة، وكلها مصطلحات غير دقيقة، وهو يأتي مرادفا لمصطلح “العسكرة”، وهو لا يحتاج إلى تفسير، فمصر حكمها ضباط تخرجوا من المؤسسة العسكرية في الفترة 1952-2012.
وبالرغم من أن أحد شعارات القوى الثورية التي قادت الثورة كان “يسقط حكم العسكر”، فإن بعض الشخصيات والمثقفين أخذوا يُنظّرون لحاجة مصر لحاكم قوي، قادم من المؤسسة العسكرية بما لها من سمعة طيبة بين المواطنين.
وقامت هذه الأيام حملات باتجاه الدفع بانتخاب السيسي رئيسا للجمهورية، وحتى حمدين صباحي نفسه دعم هذا الترشيح.
والجيش الذي انحاز لثورة 25 يناير وقام بعزل مبارك وأدار الفترة الانتقالية، حاول أن لا يغيب عن توجيه الأحداث من خلال الإعلان الدستوري المكمل ومن خلال المجلس العسكري.
وعندما قام مرسي بإقصاء المجلس العسكري عاد الجيش بعد ذلك ممتطيا عربة حركة تمرد وعربة أحزاب جبهة الإنقاذ وغيرها، ليقوم بانقلاب عسكري أعاده للحكم والتحكم بعد مدة لم تتجاوز عاما واحدا.
وعند الحديث عن الجيش فهناك اعتبارات ثلاثة يجب أن توضع في الحسبان:
1. أن الجيش يرى نفسه حارسا للأمن القومي لمصر ولمصالحها العليا، وهو لا يرغب في أن يحكم البلد طرف أيديولوجي يمكن أن يورط مصر في مغامرات لا تطيقها وتؤدي إلى نتائج مدمرة.
2. للجيش نفوذ حقيقي في باقي مؤسسات الدولة في مصر “الدولة العميقة”، من خلال سياسة منتهجة منذ سنوات بتعيين أصحاب الرتب العالية من متقاعدي الجيش في إدارة الكثير من المؤسسات والدوائر الحكومية.
3. يتميز الجيش المصري بأن له دورا كبيرا في الاقتصاد المصري، تقدر قيمته بما لا يقل عن 30% أو 35%.
وبالتالي فإن هناك شبكة واسعة ومتداخلة من الاعتبارات والمصالح تجعل الجيش عنصرا فاعلا (أو العنصر الفاعل) في صناعة السياسة المصرية.
لن يستطيع الجيش الاستمرار في فرض مرشحيه أو فرض السياسة التي يريدها إلى ما لا نهاية، خصوصا أن تجارب العديد من خريجي هذه المدرسة في الحكم -التي اقترنت بالفساد والاستبداد، وخصوصا تجربة مبارك- قد أدت إلى ثورة 25 يناير. وقد أصبح الإنسان في مصر وبلدان الثورات العربية أقل طواعية تجاه الأنظمة العسكرية، وأكثر استعدادا للتضحية في سبيل حريته وبناء نظامه السياسي الذي يُعبر عن إرادة شعبه.
***
لا يستطيع اتجاه أو تيار أن يفرض نفسه فرضا على الآخرين، ولا يستطيع تيار إقصاء الآخرين أو استئصالهم.
ولذلك لا بدّ من العمل على خروج البلد من أزمته، بناء على قواعد مصالحة وطنية، تؤدي إلى بناء مؤسسات دستورية راسخة، مبنية على احترام إرادة الشعب والمصالح العليا للوطن والأمة، وعودة الجيش إلى ثكناته وإلى دوره الطبيعي الذي أنشئ أصلا لأجله.
أضف ردا