بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
يظهر أن الموجة الارتدادية المضادة “للربيع العربي” التي تجلت في الانقلاب العسكري بمصر أعطت دفعا قويا لمسار التسوية السلمية، وشجعت الطرف الإسرائيلي الأميركي على الاستفادة من الفرصة التاريخية التي تتيحها بيئة إستراتيجية عربية ضعيفة ومفككة وغارقة في صراعاتها وأزماتها، وحالة ضعف وانقسام فلسطينية، وذلك لمحاولة إعادة ترتيب المنطقة في ضوء المصالح الإسرائيلية الأميركية الغربية.
استئناف المفاوضات
في 19 يوليو/تموز 2013 أعلن وزير الخارجية الأميركي جون كيري بعد ست جولات في المنطقة استمرت على مدى خمسة أشهر، موافقة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على استئناف مفاوضات التسوية السلمية بينهما، والتي كانت تعطلت نحو ثلاث سنوات. وقد تحدد يوم 30 من الشهر نفسه موعدا لاستئناف هذه المفاوضات.
وكانت قيادة منظمة التحرير تصرّ منذ انهيار المفاوضات أواخر العام 2010 على رفض العودة إليها إلا بشرط وقف الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، وأن تكون هناك مرجعية واضحة ومحددة للتفاوض مبنية على اعتراف الكيان الصهيوني بحل الدولتين على أساس حدود 1967.
ثم أضافت المنظمة المطالبة بإطلاق سراح الأسرى وخصوصا القدامى الذين أسروا قبل اتفاق أوسلو عام 1993.
ومن الناحية العملية، فقد تنازلت قيادة المنظمة عن شروطها ورضخت للإملاءات الإسرائيلية في طريقة التفاوض في ظلّ استمرار الاستيطان، ودون مرجعية محددة يلتزم بها الكيان الإسرائيلي، بينما تعهد الكيان بإطلاق سراح أسرى ما قبل أوسلو على دفعات، وهو مكسب سعت قيادة المنظمة إلى تسويقه للتغطية على فشلها في إدارة جوهر العملية التفاوضية.
وقد اكتفت قيادة المنظمة بالتوضيحات و”الضمانات” التي تضمنتها الدعوة الأميركية لاستئناف المفاوضات، وهي ضمانات شفوية -عُرفت بخطة كيري- تؤكد في جوهرها على حق الشعب الفلسطيني في أن يحكم نفسه بنفسه ويحقق تطلعاته في دولة متصلة ذات سيادة، وتتبنى حلّ الدولتين، وأن تكون مرتكزة على حدود 1967، مع تعديلات متفق عليها.
دوافع النجاح
يرى بعض الباحثين أن هناك فرصة لنجاح المفاوضات تتلخص أسبابها في:
1- وجود استعداد لدى قيادة المنظمة/ حركة فتح للتنازل عن بعض الثوابت الفلسطينية كحق اللاجئين في العودة إلى الأراضي المحتلة عام 1948، والوصول إلى تسويات يمكن أن يرضى عنها الجانب الإسرائيلي متعلقة بمستقبل القدس والمستوطنات وتبادل الأراضي والضمانات الأمنية وإنشاء دولة منزوعة السلاح وغيرها.
2- وجود مخاوف إسرائيلية من فوات الفرصة التاريخية بانتزاع تنازلات كبرى من الفلسطينيين، في ظل وجود قيادة فلسطينية ضعيفة، وفي ظل وضع فلسطيني منقسم، وتعطُّل مسار المصالحة.
3- وجود بيئة إقليمية أفضل نتيجة الضربة القاسية التي تلقاها “الربيع العربي” في مصر، ونتيجة تعثر مسار الثورات والتغيير والإصلاح، ونتيجة انهيار محور الممانعة وفقدان حركة حماس الكثير من الدعم اللوجستي الإقليمي، ونتيجة تشديد الحصار على قطاع غزة، ونتيجة نفخ الروح في “محور الاعتدال” الذي يمكن أن يوفر بيئة عربية مناسبة لمشروع التسوية.
4- وجود رغبة أميركية غربية في استغلال حالة الفوضى والتشرذم والضعف والصراعات التي تشهدها المنطقة لتكوين خريطة جديدة تتوافق مع المصالح الإسرائيلية الأميركية الغربية، ووجود قناعة أميركية بأن هذه الترتيبات لا يمكن أن تتحقق إلا بعد إغلاق الملف الفلسطيني.
5- إدراك الإسرائيليين أن لا مستقبل لهم في المنطقة إلا إذا تحولوا إلى كيان “طبيعي”، وليس ذلك ممكنا إلا عبر تسوية تنهي حالة الصراع.
6- إدراك الإسرائيليين مخاطر النمو السكاني الفلسطيني على مستقبل الدولة اليهودية والهوية اليهودية للدولة.
دوافع الفشل
يرى باحثون آخرون أن المفاوضات تسير نحو فشل متوقع لأسباب أهمها:
1- من الصعوبة بمكان على الطرف الفلسطيني تسويق اتفاق نهائي بالشروط الإسرائيلية يتضمن تنازلات تاريخية.
2- الطرف الإسرائيلي نفسه غير مهيأ لتنازلات “تاريخية” للشعب الفلسطيني، فهو طرف تقوده حكومة متطرفة في مجتمع يزداد تطرفا، والإسرائيليون بشكل عام متفقون على ما هو “لا”، وليس على ما هو “نعم”.
3- الطرف الأميركي غير قادر ولا راغب في الضغط على “إسرائيل” لتقديم تنازلات “تاريخية”، أو لا تتوافق مع رغبتها.
4- حالة عدم الثقة لدى الطرف الإسرائيلي بالطرف الفلسطيني المفاوض، باعتباره ضعيفا ولا يمثل الشعب الفلسطيني، وقد لا يكون قادرا على تنفيذ التزاماته، وبالتالي فلا مبرر لتقديم تنازلات جوهرية له قد تذهب هدرا.
5- البيئة الإقليمية العربية والإسلامية بيئة غير مستقرة ومليئة بالتحديات ولا يمكن التحكم في تفاعلاتها أو الاطمئنان إلى مساراتها، ومن ثم فإن أي ضمانات أو شراكات عربية حالية في مسار التسوية قد تفقد معناها أو تفقد شرعيتها مع أي حالة تغيير في الأنظمة القائمة.
6- الإستراتيجية التفاوضية الإسرائيلية قائمة على أساس “إدارة المشكلة” لا على حلّها، وهي معنية بإطالة أمد المفاوضات ما أمكن، مع الاستمرار في بناء الحقائق على الأرض من تهويد واستيطان ومصادرات للأرض والمقدسات، إلى أن تصل إلى فرض تصورها على الطرف الآخر بعد أن تكون قد انتزعت منه أوراق القوة التي يملكها.
مسار المفاوضات
عُقدت منذ 30 يوليو/تموز 2013 نحو عشرين جولة تفاوضية كانت نتيجتها محبطة للطرف الفتحاوي/ الفلسطيني، حيث تابع الطرف الإسرائيلي جهوده الاستيطانية بشكل محموم، ولم يدخل في جوهر العملية السلمية، ولم يقدِّم رؤيته النهائية للحل، وما زال يضغط بشأن الترتيبات الأمنية وتفصيلاتها. كما أنه بشأن الاعتراف “بإسرائيل” دولة للشعب اليهودي، لم يقبل بعدُ فكرة الدولة الفلسطينية على أساس حدود 1967، ولم يدخل في التفاوض على رسم الحدود.
وتسربت أنباء عن أنه طلب استئجار منطقة الغور (28% من مساحة الضفة) لمدة أربعين عاما (الأميركيون عرضوا 10-15 عاما قابلة للتجديد)، وتجميع المستوطنات في عشر كتل استيطانية، وإبقاء محطات الإنذار المبكر في مرتفعات الضفة. كما أن هناك رغبة إسرائيلية في فصل قطاع غزة عن العملية التفاوضية.
الطرف الفلسطيني المفاوض الذي بدا أنه يمارس عملية عبثية، وضع استقالته يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول 2013 تحت تصرف الرئيس محمود عباس الذي أصر على الاستمرار في التفاوض حتى نهاية الفترة المحددة في أبريل/نيسان 2014.
أما بالنسبة لما يعرضه الجانب الفلسطيني في “سوق التسوية”، فتتلخص التسريبات في قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح على أساس حدود 1967، ويمكن أن تبدأ بحدود مؤقتة على 80% من الضفة الغربية، وتتسع تدريجيا خلال ثلاث سنوات لتصل إلى حدودها النهائية، مع إمكانية بقاء الكتل الاستيطانية الأساسية، في عملية تبادل أراض بنسبة لا تتجاوز 2% بشكل متناسب في المثل والقيمة.
هذا بالإضافة إلى التنازل عن حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى الأرض المحتلة عام 1948، مع استعداد لبعض التنازلات في شرقي القدس عن منطقة حائط البراق، وعن الحي اليهودي (حيّ الشرف)، وجزء من الحي الأرمني، وحي الشيخ جراح، والمقبرة اليهودية في جبل الزيتون.
وهناك رفض فلسطيني معلن -حتى الآن!!- للاعتراف بيهودية “إسرائيل” أو أنها دولة “للشعب اليهودي”، على أساس أن الاعتراف السياسي بها تمّ عام 1993، وأنه لا يمكن الاعتراف بها اعترافا أيدولوجيًّا، كما أن ذلك لم يُطرح في معاهدتي التسوية المعقودتين مع مصر والأردن.
السيناريوهات المحتملة
تتلخص السيناريوهات المحتملة للمفاوضات في خمسة احتمالات:
1- اتفاق تاريخي، ويقوم هذا السيناريو على فكرة سعي الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وكذلك الأميركي الغربي على استغلال الفرصة التاريخية التي قد لا تتكرر، لإنجاز اتفاق يجيب بشكل حاسم عن قضايا الوضع النهائي.
فهو يوافق في جوهره على إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح على أساس حدود 1967، مع تبادل محدود في الأراضي، وممر آمن بين الضفة وقطاع غزة، وبقاء الكتل الاستيطانية، ويتنازل عن حق اللاجئين في العودة إلى فلسطين 1948، وحلٍّ يعطي درجات من السيادة والضمانات للطرفين في شرقي القدس، مع انضمام معظم الدول العربية إلى التسوية والتطبيع على أساس قبول ما يقبل به الفلسطينيون.
وستغطي الاحتفاليات والبهرجات الإعلامية لما يُسمى الإنجاز التاريخي لإقامة الدولة الفلسطينية، وانتزاع معظم أراضي الضفة والقطاع من براثن التهويد والاحتلال، على كل مساوئ ومفاسد الاتفاق الجديد.
2- اتفاق إطار جديد (أوسلو2)، ويقوم هذا السيناريو على أساس أن الطرفين غير جاهزين تماما للوصول إلى تسويات نهائية (خصوصا الطرف الإسرائيلي).
غير أن هناك اتفاقا بين الطرفين تدعمه بيئة إقليمية ودولية مناسبة، على ضرورة إحداث اختراق مهم، دون ضرورة حسم قضايا اللاجئين والقدس والحدود. وهو ما يعني الموافقة على إقامة الدولة الفلسطينية ضمن حدود مؤقتة على نحو 60-70% من الضفة الغربية، مع بقاء نفوذ إسرائيلي على مداخل الدولة ومخارجها بانتظار الحل النهائي.
وهذا سيناريو يحبذه الكيان الإسرائيلي، وترفضه حتى الآن قيادة المنظمة خوفا من أن يتحول الوضع المؤقت إلى وضع دائم، وخوفا من أن تصبح القضايا الأخرى مجرد قضايا متنازع عليها بين دولتين، كما هو الحال في الكثير من دول العالم.
3- ترتيبات جديدة مؤقتة، وهذا السيناريو هو ما يمكن أن يحدث تجنبا لإعلان فشل المفاوضات وانهيار عملية التسوية، من خلال توسيع جزئي محدود للمناطق التي تديرها السلطة، وإعطائها مزيدا من المحفزات والترتيبات الاقتصادية، وإطلاق سراح مزيد من الأسرى، وتخفيف الحواجز والإجراءات الأمنية في الضفة.
4- فشل المفاوضات وانسحاب إسرائيلي، وهذا السيناريو مرتبط بمشروع شارون الذي على أساسه تأسس حزب كاديما، وهو مبني على فكرة استحالة الوصول إلى تسوية نهائية يوافق عليها الطرفان.
وبالتالي فعلى الجانب الإسرائيلي أن يحدد بنفسه المناطق التي سينسحب منها دون استشارة الفلسطينيين، وأن يُقدم ذلك باعتباره تضحية كبيرة من أجل السلام، وأن يحوّل مشكلته مع الفلسطينيين بعد ذلك إلى مجرد مشكلة حدودية.
على أن هذا السيناريو يحمل تفاوتا كبيرا بين من يتبناه من الإسرائيليين، فالبعض يتحدث عن الانسحاب من 43% من الضفة، والبعض يرفع النسبة إلى الثلثين، كما أن هناك من يتوقع الانسحاب إلى ما خلف الجدار العنصري العازل (88% تقريبا). وفي كل الأحوال فإن شرقي القدس بأكمله والكتل الاستيطانية ومصادر المياه وغيرها ستظل تحت السيطرة الإسرائيلية.
5- فشل المفاوضات وبقاء الوضع كما هو، وهذا السيناريو قائم على قراءة إسرائيلية لا ترى الوقت مناسبا لتقديم تنازلات، وترى أن الوضع الفلسطيني والعربي والإسلامي هشّ وضعيف وممزق وغير مستقر، بما لا يجعل للتنازلات فوائد ملموسة يجنيها الجانب الإسرائيلي.
كما ترى ضرورة الاستمرار في بناء الحقائق على الأرض حتى يتم فرض الرؤية الإسرائيلية للتسوية من ناحية عملية، بحيث يُسمح للسلطة في النهاية بإدارة السكان مع بقاء الأرض تحت الهيمنة الإسرائيلية.
ليس من السهل تحديد سيناريو مرجح بين السيناريوهات السابقة، غير أنه يمكن الحديث عن فرصة لتحقيق اختراق في مسار التسوية.
كما أن كثيرا من الاستحقاقات المطلوبة من الجانب الفلسطيني تمّ الحصول عليها في فترات سابقة، بما في ذلك معظم النقاط المتعلقة باللاجئين والقدس والكتل الاستيطانية والترتيبات الأمنية والدولة المنزوعة السلاح وغيرها.
وبالتالي فإن المضي في الاتفاق يعتمد أساسا على مدى التقدير الإسرائيلي للوضع، وهو تقدير لا يميل حتى الآن للوصول إلى اتفاق تاريخي ينهي الصراع، ولذلك فقد يسعى للوصول إلى السيناريو الثاني الذي يتحدث عن اتفاق إطار جديد دون حسم القضايا النهائية.
وعند ذلك فإن موافقة الطرف الفلسطيني ستجعله سيناريو راجحا، أما إذا رفضه فإن التوقعات ستتجه نحو السيناريو الثالث الذي يعالج بعض الترتيبات التي تحفظ “ماء وجه” التسوية، أو السيناريو الخامس الذي يميل إلى فشل المفاوضات.
أما سيناريو الانسحاب الأحادي الجانب فما زال مستبعدا ضمن الظروف السياسية الراهنة التي لا تميل إلى إحداث فراغ في الضفة الغربية دون ترتيبات مسبقة، لئلا تملأه حماس وقوى المقاومة.
المطلوب فلسطينيا التوقف عن هذه المفاوضات التي تعطي صورة خادعة للعملية السلمية وللعلاقة مع العدو، وتوفر غطاء مثاليا للاحتلال وبرامج التهويد والاستيطان، وترهن المشروع الوطني الفلسطيني بالإرادة الإسرائيلية الأميركية.
والمطلوب أيضا إعطاء الأولوية للمصالحة وإنهاء الانقسام، واستجماع عناصر القوة والإمكانات الهائلة لدى الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني وصناعة قراره المستقل، واسترجاع البعد العربي والإسلامي لقضية فلسطين، مع تفعيل بعدها الإنساني أيضا.
أضف ردا