بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
مقدمة:
يحتفل برنارد لويس هذا العام بذكرى ميلاده الثامنة والتسعين؛ ولعله يستطيع أن يودّع الدنيا وهو يظن أنه حقق بعضاً من أمانيه في إعادة رسم الخرائط السياسية في المنطقة العربية والإسلامية على أسس طائفية وعرقية.
هذا المستشرق المشهور، وهو يهودي صهيوني متعصب، كتب رسالته الدكتوراه حول طائفة “الحشاشين”، وهي طائفة منشقة عن الإسماعيلية الشيعية. وكان يرى في تمزيق المنطقة العربية والإسلامية طائفياً وعرقياً استجابة طبيعية لدواعي التاريخ والجغرافية والثقافة والتراث.
وكان يرى في هذا التفكيك خدمة كبرى للمشروع الصهيوني وضمانة أساسية لبقاء “إسرائيل” القائمة على فكرة يهودية الدولة، في بيئات طائفية وعرقية مشابهة. وكان للويس تأثير كبير على مدرسة المحافظين الجدد وعلى جورج بوش الابن الذي غزا العراق، وسعى لإعادة ترتيب أوضاعها على أسس طائفية وعرقية.
في الرؤية الدينية:
لم تكن المنطقة العربية والإسلامية بحاجة لانتظار لويس وأمثاله حتى تشهد نزاعات طائفية؛ فالاختلافات تعود إلى جيل الصحابة الأول رضوان الله عليهم؛ والاختلاف من طبيعة البشر، فالناس يختلفون في الأديان، والأفكار، والثقافات، والمعايير، والأولويات، والأذواق، وفي درجات العلم، والذكاء، والغنى، والنفوذ، والجمال… وفي هذه الحياة لم يسلم زعيم، ولا مفكر، ولا قائد، ولا نبي… ولا حتى الذات الإلهية نفسها من سخرية الناس وإساءاتهم. غير أن هناك قواعد للسلوك ومعايير للحياة تكاد تجمع عليها كافة العقائد والأيديولوجيات كالدعوة للصدق، والأمانة، والعدل، وكفّ الأذى… بغض النظر عن مدى التزام الناس بها. والإشكالية هنا لا تكمن في وجود الاختلاف ذاته، وإنما في القدرة على إيجاد بيئة وأنظمة وقوانين تُدير عملية الاختلاف، بحيث يتحول إلى اختلاف تنوع وإبداع، وليس إلى اختلاف صراع ودمار.
اعترف الإسلام بوجود الاختلاف بين البشر “إنا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا”. ورفض الإسلام الإكراه في الدين، ووفر الحماية والرعاية لأتباع الديانات الأخرى، وأعطاهم كامل. وكانت هناك تعليمات لإدارة الخلاف بين المسلمين أنفسهم “فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول”، “وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله”. واتبع علماء المسلمين عبر التاريخ بشكل عام فقه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في قتال المسلمين لبعضهم بعضاً، فإذا قوتل “البُغاة”، فلا يُطارد هاربهم، ولا يُقتل أسيرهم، ولا يُجهز على جريحهم، ولا يُغنم لهم مال، ولا يُسبى أو يُسترقُّ (يصبح عبداً أو رقيقاً) منهم أحد. وهو ما فعله علي رضي الله عنه في قتال الخوارج وغيرهم.
وكان من المعروف في مدارس الفقه الإسلامي أن المسلم لا يُكفَّر إلا إذا أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو تصرف بطريقة لا تحتمل تفسيراً إلا الكفر. وقد جعل هذا مساحة التسامح والاختلاف بين المسلمين ومذاهبهم واسعة جداً، وتدخل في مسائل العقائد والعبادات والمعاملات.
في التجربة التاريخية:
يقع كثيرون ضحية كتابات المستشرقين ومن تبنى أفكارهم من مؤرخي العرب والمسلمين المعاصرين في تشويه صورة التاريخ الإسلامي للمنطقة، وفي تصويره باعتباره تاريخ حروب ونزاعات وصراعات عرقية وطائفية؛ لأن هؤلاء يتعمدون التركيز على التاريخ السياسي، وعلى صراع البيوتات الحاكمة، ويبحثون عن مواطن الخلاف فيضخمونها وينفخون في نارها. ولسنا ننكر الاختلافات والصراعات فهذا أمر طبيعي في حركة التاريخ، وفي سنة التداول والتدافع بين الناس. ولكننا نضع ألف علامة استفهام لم لا يُذكر التاريخ الحضاري للمنطقة، ولم لا يُركَّز على جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية عندما كانت حضارتنا الإسلامية تقود البشرية لمئات السنين، وعندما كانت معظم مناطقنا تنعم بالاستقرار والتسامح الديني ورغد العيش، مقارنة بأوروبا التي كانت تتخبط في الصراعات الدينية الدموية.
إن أطول فترة استقرار شهدتها أوروبا في تاريخها هي تلك التي تلت الحرب العالمية الثانية؛ وإن كل من قُتل على خلفيات طائفية ومذهبية في حروب المسلمين لبعضهم (أو في مناطقهم) طوال تاريخهم (نحو 1400 سنة) يقل بكثير عن عدد من قُتل من الأوروبيين بأيدي الأوروبيين في الحرب العالمية الأولى وحدها، أو في الحرب العالمية الثانية وحدها!!
وبشكل عام، عانى العرب والمسلمون من حالات عدم استقرار وحروب في فترات وجغرافيات محدودة، وارتبط ذلك على الغالب بالصراع السياسي وبصعود الدول أو سقوطها. غير أن الدول التي حكمت في مناطق العرب والمسلمين على مدار التاريخ كانت بشكل عام تترك للناس حياتهم الشخصية والدينية والمذهبية؛ ما داموا لا ينازعونها السلطة. ولأن غالبية البيوتات الحاكمة، وغالبية المسلمين الساحقة كانت تنتمي إلى “أهل السنة”، فلم يكن لدى هؤلاء تعصّبٌ طائفي ولا شعور بأنهم كيان طائفي، بقدر ما كان شعورهم بأنهم “الأمة”، وأنهم البحر الذي يسع الجميع. ولو كان لهؤلاء تعصب طائفي أو سلكوا مسالك محاكم التفتيش في إسبانيا لتمّ اجتثاث معظم الفرق والطوائف الأخرى منذ أمد بعيد.
وبشكل عام، فإن مدرسة “أهل السنة” كانت تتشدد كثيراً في التكفير وفي إراقة الدماء، وتضع لذلك شروطاً قاسية؛ ولذلك كان خيار التسامح الديني والتعايش والدعوة بالحسنى هو الأصل، وهو الغالب على مسار التاريخ الإسلامي. وعلماء السنّة بشكل عام (بمن فيهم ابن تيمية) لم يُكفروا الشيعية الاثني عشرية؛ وإن كانوا كفروا فرقاً صغيرة باطنية منحرفة؛ فقد اكتفوا من هذه الفرق بالظاهر الثابت عنها، وأوكلوا السرائر إلى الله سبحانه، ولم تقم دول الإسلام وجيوشها بحروب تلك الفرق أو استئصالها أو إكراهها على أمور دينية.
يذكر الشيخ الدكتور مصطفى السباعي في كتابه “من روائع حضارتنا” نماذج للتسامح الديني، فينقل عن خلف بن المثنى نموذجاً للحلقات العلمية الشعبية، التي كانت تُعقد في القرن الثاني الهجري، إذ يقول خلف: لقد شهدنا عشرة في البصرة يجتمعون في مجلس، لا يعرف مثلهم في الدنيا علماً ونباهة؛ وهم الخليل بن أحمد صاحب النحو (وهو سني)، والحميري الشاعر (وهو شيعي)، وصالح بن عبد القدوس (وهو زنديق ثنوي)، وسفيان بن مجاشع (وهو خارجي صُفري)، وبشار بن برد (وهو شعوبي خليع ماجن)، وحماد عجرد (وهو زنديق شعوبي)، وابن رأس الجالوت (وهو يهودي)، وابن نظير المتكلم (وهو نصراني)، وعمر بن المؤيد (وهو مجوسي)، وابن سنان الحراني (وهو صابئي). كانوا يجتمعون فيتناشدون الأشعار ويتناقلون الأخبار.
وفي بعض فترات التاريخ الاستثنائية عانى المسلمون من اضطهاد طائفي ديني كما حدث لأهل شمال إفريقيا تحت حكم الدولة الفاطمية التي تبنت المذهب الإسماعيلي؛ وكما حدث للسنة في إيران عندما تبنت الدولة الصفوية المذهب الشيعي الاثني عشري، وأكرهت الناس على التشيّع.
وعندما سيطرت الدولة العثمانية على العراق في النصف الأول من القرن السادس عشر كان ما يزال معظم جنوب العراق سنياً، وتحوَّل هذا الجنوب إلى أغلبية شيعية في الفترة 1750-1900 م تقريباً، وكان ما يزال تحت سيطرة الدولة العثمانية؛ وهي دولة سنية تبنت المذهب الحنفي.
حاول الاستعمار الغربي الذي سيطر على بلدان المسلمين الضَّرب على المشاعر الطائفية والمذهبية والعرقية؛ مستخدماً قاعدة “فرّق تسد”. كما أنه بالرغم من دعاويه العلمانية وفّر الغطاء والحماية لحملات التنصير كما في إفريقيا والقارة الهندية وإندونيسيا… . فمثلاً قسّم الاستعمار الفرنسي سورية تقسيماً طائفياً (دمشق، حلب، الدروز، العلويون، لبنان الكبير) وحاول الفرنسيون بسط حمايتهم ورعايتهم للمسيحيين، وغذوا التعصب والمخاوف الطائفية. ولم يختلف البريطانيون والإيطاليون والهولنديون عن الفرنسيين كثيراً في سياساتهم.
وأخذت حركات الاستقلال في العالم العربي والإسلامي شكلاً وطنياً يجمع كافة مكونات الأمة ضد الاستعمار، ولم تأخذ شكلاً طائفياً، وكان يسع الجميع المشاركة فيها، بل وفي قيادتها دونما حساسيات؛ كما في قيادة سلطان الأطرش (درزي) للثورة السورية ضد الفرنسيين. وقدم المسلمون والمسيحيون في الثورة الفلسطينية ضد البريطانيين وضد المشروع الصهيوني نماذج متميزة في المقاومة والوحدة الوطنية.. كما أن الحركات النهضوية والإصلاحية والثورية الإسلامية لم تأخذ شكلاً طائفياً ولا متعصباً ولا تكفيرياً. ثم إن أهل المنطقة العربية، والذين تنتمي أغلبيتهم الساحقة للمذهب السني؛ لم ينظروا بحساسية أو عداء للعديد من رواد الفكر القومي العربي الذين انتموا إلى طوائف أخرى أمثال ميشيل عفلق وزكي الأرسوزي وقسطنطين زريق… وغيرهم.
وعلى ذلك، فإن البيئة العربية والإسلامية شكلت حاضنة تسامح وأمان وتعايش مشترك على مدى قرون طويلة لجميع الطوائف والأديان؛ وأيّ تجاوزات لذلك كانت تأخذ شكل الاستثناء المؤقت والمحدود.
بروز الصراع الطائفي:
في السنوات الماضية ظهرت تيارات متعصبة وتكفيرية وبرزت مظاهر طائفية في المنطقة، وكان من أبرز أسباب ظهورها:
1- قام الاستعمار الغربي بدعم أقليات معينة، وكرس لديها المخاوف من الأغلبية المسلمة، مما دفع بعض زعماء وتيارات هذه الأقليات للاحتماء بالمستعمر، أو طلب ضمانات ومزايا خاصة بهم تضمن وضعهم الطائفي.
2- سعت بعض القيادات والاتجاهات في الأقليات الطائفية لتنظيم تكتلات لحماية مصالحها. فمثلاً قام منتمون للطائفة العلوية في سورية باختراق الجيش السوري وحزب البعث، وسيطروا بعد ذلك من خلالهما على الدولة في سورية. وقد أشعر ذلك جمهوراً عريضاً من السوريين أنه يتم تهميشه على أسس طائفية، مع انعدام فرصهم في التغيير الديموقراطي والتداول السلمي للسلطة. وقد نتج عن هذا ردود أفعال أخذت طابعاً طائفياً ومتعصباً.
3- تميزت الكثير من الأنظمة العربية التي نشأت، بعد الاستقلال عن الاستعمار، بتبني القومية العربية، وتبني أيديولوجيات علمانية، ونحت منحىً استبدادياً وفاسداً. وحاربت في الوقت ذاته التيارات الإسلامية المعتدلة وقمعتها وطاردتها، ومنعتها من حرية العمل. وقد أوجد ذلك فراغاً في الساحة الإسلامية، كما أوجد شعوراً بالقهر والظلم وانسداد الأفق السياسي لدى الكثيرين، مما ساعد على ظهور اتجاهات متطرفة لم تأخذ حظها من العلم الشرعي، ولا الخبرة السياسية، ولا التفاعل مع حركة الحياة. ومع غياب الترشيد والتوجيه عنها، ومع إصرار الأنظمة على التعامل الأمني والعسكري معها؛ انغلقت هذه الاتجاهات على نفسها وأخذت طابعاً ثورياً غير منضبط بضوابط الشرعية والفقهية التي وضعها علماء المسلمين؛ فتساهل بعضها في التكفير وفي إراقة الدماء.
4- أثار السلوك الغربي الأمريكي في دعم الكيان الإسرائيلي واحتلاله لفلسطين وطرده لشعبها غضب قطاعات واسعة من العرب والمسلمين، الذين فسر الكثير منهم الأمر وفقاً لخلفيات دينية وحضارية. وأسهم في تكريس هذه المشاعر والقناعات، الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق، وما عاناه المسلمون في البوسنة وفي الشيشان وبورما وكشمير وجنوب الفيليبين… وغيرها.
5- أثار نجاح الثورة الإسلامية في إيران مخاوف عدد من الأنظمة العربية والغربية؛ كما أثار مخاوف وقلق بعض قطاعات المسلمين السّنة. وفي الوقت الذي عملت فيه أنظمة عربية على زيادة التعصب الطائفي تجاه إيران، هروباً من استحقاقات الإصلاح الداخلي أو من مواجهة العدو الصهيوني، فقد ارتاحت الأنظمة الغربية لتأجيج المشاعر الطائفية بين المسلمين، لإشغال الناس عن قضاياهم الكبرى في التغيير والإصلاح والنهضة وفي تحرير فلسطين. ومن جهة أخرى، فإن السلوك الإيراني في العراق وسورية واليمن لم يكن مفهوماً لدى قطاعات كبيرة من المسلمين، وتحديداً السنَّة؛ وأُعطي تفسيرات ذات طبيعة طائفية، استعْدَت الكثيرين تجاه الشيعة. كما أن السلوك الطائفي للحكومات التي توالت على حكم العراق بعد الاحتلال الأمريكي، قد زاد من تأجيج هذه المشاعر. كما وُجدت بؤر أخرى للصراع أخذت تفسيراً طائفياً كما في البحرين وشرق السعودية والباكستان… وغيرها.
نحو مخرج مناسب:
إن التعصب الطائفي والمذهبي لا يقتصر على المسلمين ومناطقهم، بل هناك تعصب منتشر في العالم قد يكون مسيحياً أويهودياً أو بوذياً أو هندوسياً… وهناك أنظمة عالمية لا تسلم سياساتها من خلفيات دينية وثقافية تتسبب في تأجيج الصراعات. إن النزاع الطائفي قد يجر المنطقة إلى حالة من التمزق والصراعات والتفكيك، لا يستفيد منها سوى أعداء الأمة. وهذا النوع من الصراعات هو صراعٌ أعمى ومدمر للجميع؛ بما فيها تلك الأنظمة التي تلعب اللعبة الطائفية أو تسلك مسلكاً طائفياً.
وإن أولى خطوات العلاج تكمن في احترام إرادة شعوب المنطقة وحقها في تقرير النظام السياسي الذي تريده، وفي منع التدخل الخارجي، وفي إتاحة البيئة الإيجابية الحرة للتيارات الإسلامية المعتدلة للعمل، والكف عن محاولات تهميشها واستئصالها.
المصدر: مجلة الجزيرة الالكترونية، العدد 24، شباط/فبراير، 2014
أضف ردا