بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
“المصالحة وإنهاء الانقسام”، ثلاث كلمات لا يكاد يختلف عليها فلسطينيان، رغبة من الجميع في استكمال عناصر القوة للمشروع الوطني الفلسطيني وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي.
المصالحة مصلحة فتحاوية، حيث ترغب فتح في استعادة دورها وبسط نفوذها على مؤسسات ومناطق تواجد الشعب الفلسطيني. وهي مصلحة حمساوية، حيث ترغب حماس في التخفف من أثقال الحصار على قطاع غزة، واستعادة حيويتها في الضفة الغربية، والمشاركة الفاعلة في مؤسسات المنظمة والسلطة. وهي مصلحة للفصائل الفلسطينية، ولعموم الفلسطينيين والعرب والمسلمين.
ستكون هناك أجواء فرحة غامرة بتشكيل الحكومة الفلسطينية، ولكن بعد أن تنتهي “الأفراح والليالي الملاح”، وتبدأ الحكومة التي يقودها أبو مازن أو رامي الحمد لله، أو غيرهما في العمل على الأرض، “وتذهب السكَرة وتأتي الفكرة”، كيف سيكون الوضع في اليوم التالي؟
ماذا سيحدث بعد أن تنتهي شرعية حكومة حماس، ويبقى المجلس التشريعي الذي تملك فيه حماس الأغلبية معطلا إلى حين إجراء الانتخابات، وبعد أن تتركز السلطة الفعلية مرة أخرى في يد أبو مازن الذي يدير فتح والسلطة والمنظمة؟ هل سيعتمد تحقيق بنود المصالحة الخمسة على “النوايا الحسنة” لأبو مازن دون ضمانات تلزمه أو تجبره على التنفيذ؟
سيناريوهات محتملة
نحن أمام عدد من السيناريوهات المحتملة لما يمكن أن يحصل على الأرض بعد تشكيل الحكومة الفلسطينية العتيدة، نلخص أبرزها في ثلاثة احتمالات:
الأول- الكل يكسب
يفترض هذا السيناريو أن “فتح” و”حماس” صادقتان في تطبيق اتفاق المصالحة، وكما أن حماس ستتخلى عن السلطة في قطاع غزة بشكل سلس، وتسلّم معابر القطاع للحرس الرئاسي، وتسمح بعودة الآلاف من المحسوبين على فتح إلى وظائفهم الإدارية والأمنية، فإن فتح لن تستغل الوضع، بل ستبادر إلى إطلاق سراح المعتقلين السياسيين في الضفة الغربية، وتطلق الحريات، وتسمح لحماس وباقي الفصائل بحرية العمل السياسي.
كما لن تتعرض فتح للمقاومة وفصائلها وبناها التحتية في القطاع، وستوجد بيئة مناسبة لانتخابات حرة نزيهة، وستتوالى خطواتها العملية في إعادة بناء منظمة التحرير وتفعيل مؤسساتها، عبر برنامج عمل وطني تشترك فيه كافة الفصائل، مع مراعاة أحجامها وأوزانها السياسية والفعلية على الأرض.
ولن تخضع قيادة المنظمة والسلطة ولا فتح لأي ضغوط تُمارس عليها من الكيان الصهيوني أو أميركا أو نظام الحكم في مصر، بشأن ضرب حماس أو تهميشها أو تعطيل مسارات المصالحة، وسيسلك الطرفان سلوكا مسؤولا يراعي المصالح العليا للشعب الفلسطيني، ويديران الخلافات بشكل حضاري ومؤسسي، من خلال “الإطار القيادي المؤقت” المتفق عليه، كما ستتوقف الحملات الإعلامية والتحريضية بين الطرفين.
الثاني- حماس تدفع الثمن
يفترض هذا السيناريو أنه بغض النظر عن بنود اتفاق المصالحة، وما رافقه من احتفالات وتطمينات، فإن حماس سلَّمت رقبتها في الضفة وغزة لفتح ولأنصار مسار التسوية، دون ضمانات فعلية، وأنها ستدفع ثمن ذلك بما يتوافق مع المسار الذي اختطه أبو مازن وقيادة فتح والسلطة.
يفترض هذا السيناريو أن حماس ستتنازل عن شرعية حكومتها في غزة، وستخسر بالتالي أيّ دعم عربي أو إسلامي أو دولي رسمي كان يتعامل معها على هذا الأساس مثل الدعم القطري أو الدعم التركي، وأن مسؤوليها لن يكون بإمكانهم التحرك السياسي بسهولة، بعد أن رجعوا إلى كونهم مجرد حزب في بيئة سياسية تديرها وتتحكم فيها حركة فتح.
ستعود حركة فتح إلى قطاع غزة، وتتولى السلطة، وستدير المعابر، وسيعود أكثر من خمسين ألفا من مؤيديها إلى الأجهزة الأمنية والإدارية في القطاع، وسيبدأ برنامج إعادة “فتحنة” الوزارات والمؤسسات، وستزداد شعبية فتح من خلال تنسيق تخفيف الحصار بالتعاون مع الجانبين الإسرائيلي المصري اللذين سيرحبان بفتح ونهاية حكم حماس في القطاع دون أثمان تُذكر، بعد أن عجزت الحصارات والحروب عن ذلك.
وبعد أن ينتهي شهر العسل الذي تكون السلطة قد بدأته ببعض الإجراءات التطمينية الشكلية إلى حين تمكنها من السيطرة، ستعود فتح وقياداتها إلى عقلية “الاستفراد” بقيادة الساحة، والتي لم تُغيرها طوال 45 عاما مضت.
وستتوافق بسهولة مع الضغوطات الإسرائيلية والأميركية والمصرية والخليجية باتجاه تهميش حماس وقصقصة أجنحتها، وسيتناسب ذلك مع عقلية فتح ومع التزاماتها السياسية في اتفاقات أوسلو وسياقات التسوية السلمية، كما سيتناسب ذلك مع الموجة القاسية المرتدة التي تستهدف إنهاء الثورات العربية، وضرب التيار الإسلامي (أو ما يعرف بتيار الإسلام السياسي) الذي تُعد جماعة الإخوان المسلمين أبرز قواه المحركة، وحماس هي بالتأكيد جزء فاعل في هذا التيار. وبالإضافة إلى إدارة السلطة في القطاع، سيتوافر لعشرات الآلاف من عناصر فتح السلاح الذي يحتاجونه، وسيكون من بينهم آلاف “الدحلانيين”، الذين لهم ثاراتهم وحساباتهم التي يريدون تصفيتها مع حماس، والذين سيسعون لتنفيذ أجندة الانقلابيين في مصر ضدّ حماس في القطاع.
وبالطبع، ستكون حملات التحريض جاهزة في إعلام فتحاوي وعربي ودولي يقف ضدّ حماس وضدّ “الإسلام السياسي”، وستُختلق الذرائع لتشويه حماس وضربها، بما يؤدي إما لعزلها عن مجمل العملية السياسية الفلسطينية، أو مشاركتها في بيئة مسمومة غير مواتية بما يعني عمليا إسقاطها وتهميشها.
وستجد حماس نفسها ضعيفة غير قادرة على الدفاع عن نفسها، ولا تسمح لها الظروف باستعادة الحكومة ولا تفعيل المجلس التشريعي، ولا القيام بحسم عسكري في القطاع، فالنظام الانقلابي في مصر و”إسرائيل” سيقفان إلى جانب سلطة عباس، ولن يسمح لها هذه المرة بالسيطرة على القطاع من جديد، وقد يتم توفير غطاء لدخول قوات عربية “مصرية” لدعم “الشرعية” التي تقودها فتح في القطاع.
ولأن قيادة فتح والسلطة ملتزمتان بمسار التسوية وبوقف المقاومة، فإن إجراءات تحجيم وإضعاف قوى المقاومة سوف تبدأ بشكل تدريجي متصاعد، بحجة احترام التزامات السلطة لاتفاقات أوسلو.
أما وقد تمكَّن أبو مازن وفتح من السيطرة على القطاع، فإن عملية إصلاح منظمة التحرير والأجهزة الأمنية ستوضع على الرَّف إلى أجل غير مسمى، وستعود الأجهزة الأمنية للسلطة في الضفة (والتي تكون قد تمددت إلى قطاع غزة) إلى سيرتها القديمة في مطاردة عناصر حماس والمقاومة.
وسيتم طبخ الانتخابات على نار فتحاوية مناسبة، وستضيع احتجاجات حماس وصرخاتها في ضجيج الكثير من وسائل الإعلام العربي، الذي رأينا بأم أعيننا مدى كذبه وتشويهه الحقائق، خصوصا في مصر وضدّ التيار الإسلامي تحديدا.
باختصار، فإن هذا السيناريو يقول لحماس وأنصارها: أنتم ضعفاء ومحاصرون ومضطرون للمصالحة، وعليكم أن تدفعوا الثمن، فالعمل السياسي قائم على موازين القوى واستغلال الفرص والمصالح، وليس على حسن النوايا.
الثالث- المصالحة المتدرجة
يعترف هذا السيناريو بوجود صعوبات عملية تحتاج إلى مبادرات بناء ثقة جدية متبادلة بين فتح وحماس، وإلى احتمال وقوع عمليات تعطيل لمسار المصالحة الأصلي وحرفه عن مساره، لخدمة طرف دون آخر.
ولذلك ينبني هذا السيناريو على أساس أن يتم تنفيذ إجراءات المصالحة بشكل متدرج وسلس، بحيث تتوازى مع خطوات تسليم السلطة في القطاع خطوات في إطلاق الحريات والعمل السياسي في الضفة، وخطوات في مجالات بناء الثقة، وخطوات متزامنة في تفعيل منظمة التحرير، وفي إصلاح الأجهزة الأمنية في الضفة (وليس في القطاع فقط)، وأن يتم تفعيل دور “الإطار القيادي المؤقت” المشترك للفصائل، وألا تتم الانتخابات إلا بعد الاطمئنان إلى كافة إجراءات النزاهة والشفافية، وأن يكون أبناء الضفة والقطاع جاهزين تماما لخوض هذا الاستحقاق، وأن يتزامن تشكيل المجلس التشريعي في الداخل مع تشكيل المجلس الوطني لمنظمة التحرير.
مناقشة السيناريوهات
يبدو السيناريو الأول مثاليا غير واقعي في ضوء التجربة الفلسطينية، وفي ضوء الواقع الحالي العربي والإسلامي والدولي، وهو أقرب إلى التمنيات منه إلى إمكانات التنفيذ على الأرض.
ويبدو السيناريو الثالث واقعيا، وأكثر مناسبة للحالة الفلسطينية، التي تحتاج أكثر ما تحتاج إلى برنامج بناء ثقة، وإلى خطوات عملية تعيد الوحدة الوطنية الفلسطينية إلى حالتها الصحية، قبل الدخول في استحقاقات كبرى كالانتخابات وغيرها.
ولكنه سيناريو يفتقر -في الوقت ذاته- إلى الضمانات، وسيتعرض إلى ضغوط شديدة من قبل خصوم إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وخصوم التيارات الإسلامية، وخصوم برنامج المقاومة.
أما السيناريو الثاني (حماس تدفع الثمن)، فيبدو -للأسف- أنه الأكثر واقعية في ظلّ الظروف السياسية الحالية، وفي ظل التركيبة القيادية لحركة فتح، وفي ظلّ التزاماتها تجاه “إسرائيل” وتجاه أميركا ومسار التسوية، وفي ظلّ عقليتها الاستفرادية وخصومتها التاريخية مع حماس والإسلاميين.
وأيضا في ظلّ موجة عربية مضادة للثورات وحركات التغيير الإسلامية، وفي ظلّ ما يبدو أنه ضعف لحماس بعد خسارتها دعم محور الممانعة السابق (سوريا، إيران، حزب الله)، وبعد وقوع الانقلاب في مصر.
إنَّ ما قد يزيد من مخاوف تحقق هذا السيناريو هو سلوك الأجهزة الأمنية للسلطة في الضفة، ودخولها على خطّ فبركة الاتهامات ضدّ حماس في مصر والعالم العربي.
ثم إن محمود عباس عندما زار مصر أيَّد الانقلاب وصرَّح أن “الناس لم تعرف خطورة حماس إلا بعد سقوط الإخوان في مصر”، بل إن مصدرا رفيعا في الوفد المرافق لعباس في زيارته لمصر، وصف ما حدث في مصر بأنه “معجزة إلهية”، وادعى أن أميركا و”إسرائيل” دبّرتا صعود حماس للسلطة. (حسبما ورد في جريدة الحياة في 12/11/2013).
كما أن نشاطات محمد دحلان المدعومة بقوة من دولة خليجية، والذي تمّ الترحيب به بقوة أيضا لدى سلطات الانقلاب في مصر، لا تشي بمستقبل هادئ ومستقر لقطاع غزة ولا لحماس وقوى المقاومة.
ثم إن التزام عباس بمسار التسوية السلمية والمفاوضات يجعله في وضع يحتاج فيه إلى بسط جناحه على قطاع غزة وعلى حماس، لتأكيد شرعيته وتمثيله كافة الشعب الفلسطيني، ولكن دون المساس باستحقاقات التسوية، ودون إغضاب الطرف الإسرائيلي والأميركي، وهو ما يعني عمليا تعطيل أيّ إصلاحات حقيقية للبيت الفلسطيني أو إشراك حماس بفاعلية في مؤسسات المنظمة والسلطة.
استحقاقات المصالحة الجادة
إنّ الحديث الجاد عن بدء إجراءات المصالحة وتشكيل الحكومة الفلسطينية، سعيا لإجراء الانتخابات خلال ستة أشهر، يحتاج إلى عدد من الضمانات الأساسية لإنجاح التجربة، وليس لإدخال المشروع الوطني الفلسطيني في مأزق جديد، وجولة أخرى من الصراع الداخلي المدمر. وأبرز هذه الضمانات:
1. تفعيل دور “الإطار القيادي المؤقت” المشترك للفصائل الفلسطينية، بحيث يكون دوره مركزيا وحاسما في تنفيذ مسار المصالحة.
2. تنفيذ مجموعة إجراءات لبناء الثقة على الأرض في الضفة والقطاع، بما يضمن إطلاق الحريات، والإفراج عن السجناء السياسيين، وحرية العمل السياسي، ووقف الملاحقات الأمنية، وحرية تشكيل الجمعيات والمؤسسات، وإيجاد آليات ضامنة للعمل في السلطة ومؤسساتها وفق معايير الكفاءة والاستحقاق.
3. عدم المساس بالبنى التحتية للمقاومة في قطاع غزة، واعتبار ذلك مكسبا وطنيا فلسطينيا، وعدم السماح بعودة الفلتان الأمني إلى قطاع غزة.
4. تهيئة البيئة المناسبة لعمل انتخابات حرة نزيهة في الضفة (بما فيها القدس) والقطاع، وبعد أن يكون الجميع جاهزا للتعامل مع هذا الاستحقاق، وبحيث تكون بشكل متزامن مع إعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني.
5. السير بشكل متوازٍ في عملية الإعداد للانتخابات مع عمليات إعادة تفعيل منظمة التحرير وإصلاح الأجهزة الأمنية والمصالحة المجتمعية.
6. ألا تحدث أيّ اتفاقات من قبل قيادة فتح في مسار التسوية مع الجانب الإسرائيلي بما ينعكس سلبا على عملية المصالحة برمتها.
7. أن يُعد أيّ خرق للنقاط السابقة خرقا لمسار المصالحة بما يستدعي وقف الانتخابات، وإعادة النظر في الحكومة المؤقتة، وإعادة تفعيل المجلس التشريعي الذي تمّ تعطيله.
أضف ردا