تقدير استراتيجي (66) – نيسان/ أبريل 2014.
ملخص:
انفجرت العلاقة بين رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ورئيس جهاز الأمن الوقائي السابق محمد دحلان بشكل لم يسبق له مثيل، ودخلت عدة عوامل، داخلية وخارجية، على الصراع الذي استُخدمت فيه أدوات كثيرة بهدف السيطرة على حركة فتح والسلطة الفلسطينية وعملية صناعة القرار فيهما.
وليس من المتوقع أن يكف دحلان عن محاولاته الطموحة في التطلع إلى قيادة فتح والسلطة، خصوصاً مع توفر بيئة إقليمية داعمة له. غير أن عباس ما زال يملك أوراق قوة أكثر داخل فتح وخارجها؛ كما أن البيئة الشعبية والفصائلية الفلسطينية ما زالت على الأغلب تنظر بشكل سلبي أو متحفظ لدحلان، وهو ما يُضعف حظوظه في الوصول إلى مواقع قيادية على مستوى الشعب الفلسطيني. وإذا لجأ الطرفان إلى التهدئة والوصول إلى حلول توافقية، فإنها على الأرجح لا تملك عناصر النجاح والاستمرار.
النزاع بين عباس ودحلان واتجاهاته المستقبلية:
مسار العلاقة:
انقلبت العلاقة بين رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ورئيس جهاز الأمن الوقائي سابقاً في قطاع غزة محمد دحلان، من علاقة تحالفية شهدت مصالح متبادلة بينهما، إلى صراع مرير. ومثّل ذلك حالة متميزة في قَلْب معسكر التسوية السلمية، وكانت له تداعياته على الأوضاع التنظيمية داخل حركة فتح، وعلى مجمل الأوضاع الفلسطينية.
في تونس، تعرّف محمود عباس إلى محمد دحلان، الشاب العضو في منظمة الشبيبة الفتحاوية القادم من قطاع غزة في أثناء الانتفاضة الأولى التي انطلقت أواخر سنة 1987. هذه العلاقة كانت تتسع وتتعمق كلما طالت المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وكلما وصل الرجلان إلى مراكز حساسة داخل هيكلية السلطة الفلسطينية.
كان هناك معطيات كثيرة فرضت نفسها لترفع من مستوى التعاون أو التحالف بين عباس ودحلان. فبعد الانتفاضة الثانية في أيلول/ سبتمبر 2000، وفشل قمة كامب ديفيد في توقيع اتفاق سلام فلسطيني إسرائيلي جديد، برزت حاجة إسرائيلية أمريكية لتحجيم ياسر عرفات ومن ثمّ التخلص منه. ففي حين اضطر عرفات للتنازل عن جزء من صلاحياته، تحت الضغوط الأمريكية، وتعيين عباس رئيساً للوزراء في سنة 2003؛ فقد قاد دحلان حملة إعلامية وشعبية في صيف 2004 ضدّ عرفات. وقد توفى أبو عمار في تشرين الثاني/ نوفمبر 2004 في ظروف غامضة، تدل العديد من مؤشراتها إلى اغتياله مسموماً، وإلى حدوث اختراق محتمل للدائرة الضيقة المحيطة بعرفات. وبعد ذلك تولى عباس الرئاسة، بينما ازداد نفوذ محمد دحلان في تلك الفترة.
ومن جهة أخرى فقد أسهمت عوامل كثيرة في التوتر بين عباس ودحلان، منها الحسم العسكري الذي قامت به حركة حماس في قطاع غزة في حزيران/ يونيو 2007 وانهزام محمد دحلان وأنصاره أمامها، ولجوئه إلى الضفة الغربية. واكتشاف عباس أن دحلان يجتمع سراً بقيادات فتحاوية في الضفة الغربية، ويطرح عليها إسقاطه بحجة أنه ضعيف، وتوجيهه انتقادات شديدة لأبناء عباس واتهامهم باختلاس الأموال، واستغلال موقع والدهم. وقيامه بتجنيد مجموعات شبابية في أكثر من منطقة في الضفة الغربية وبتسليحها، ومحاولة اختراق الحرس الرئاسي.
عندئذ قرّر أبو مازن إبعاد دحلان، فأجرى مناقلات في عدد من المواقع الأمنية، وفصل عناصر من الحرس الرئاسي، وحرّك ضده ملفات فساد مالي، وضغط على قيادات فتحاوية للابتعاد عنه، وأخيراً لجأ إلى فصل دحلان من اللجنة المركزية لحركة فتح في 11/6/2011، ونُشرت نتائج التحقيقات مع دحلان في وسائل الإعلام لتقديمه باعتباره شخصاً فاسداً. عند ذلك، اضطر دحلان للابتعاد، فانتقل إلى الإمارات العربية المتحدة، وعمل هناك مستشاراً أمنياً عند أحد الأمراء. وبقي دحلان حوالي عامين في دائرة الظِّل.
عودة دحلان:
عاد دحلان منذ أشهر إلى العمل بقوة في الساحة الفلسطينية، ودخل في صراع أشدّ مع محمود عباس. وترجع أسباب عودته إلى قيام بعض الأنظمة العربية بالاستفادة من خبراته وإمكاناته لمواجهة الإسلاميين، خاصة في الدول التي شهدت تغيرات سياسية وثورية واجتماعية، وأدّت إلى سقوط أنظمة مثل مصر وليبيا وتونس. وبسبب هذا الدور عزّز دحلان من النظرة الإيجابية إليه لدى عدد من الأنظمة العربية المعادية لتيارات الإسلام السياسي، كما عزّز علاقاته بالأمريكيين والأوروبيين وغيرهم، واستخدم عدة وسائل إعلامية في حربه ضدّ محمود عباس. وقد وجد دحلان عند عباس عدداً من الثغرات ونقاط الضعف التي عمل على استغلالها؛ ومنها على سبيل المثال تراجع دور حركة فتح، وعدم حصول أي تقدّم في عملية التسوية السلمية، والمشاكل الاقتصادية للسلطة، وافتقار شخصية عباس للكاريزما التي كان يتمتع بها عرفات، بالإضافة إلى تراجع شعبية عباس.
يعتقد دحلان أن الوصول إلى رئاسة السلطة يجب أن يمر بحركة فتح، والوصول لرئاسة حركة فتح يجب أن يمر باللجنة المركزية، لذلك وسّع دحلان نشاطه في لبنان والأردن وغزة وأنفق ملايين الدولارات عبر زوجته جليلة، تحت غطاء جمعية إماراتية ترأسها زوجة مسؤول إماراتي كبير، على مشاريع إنسانية واجتماعية. وقد وسّع دحلان حربه على عباس بهدف الوصول إلى السلطة، بعدما فشلت عدة وساطات عربية أهمها من مصر ودولة الإمارات في إقناع عباس بإعادة دحلان لمواقعه.
وبدأ عباس يشعر أن الرمال تتحرك من تحته، بعدما عمل دحلان على استقطاب مئات الشباب من حركة فتح، وبعد أن استقبله المشير عبد الفتاح السيسي، وبعد أن قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما إن عباس “تقدّم في السن”. عندئذ صَعَّد عباس حربه على دحلان أمام وسائل الإعلام، واتهمه باغتيال ياسر عرفات والقائد في حركة حماس صلاح شحادة.
صراع على فتح:
بغض النظر عن الاعتبارات الذاتية والمصالح الشخصية الضيقة في الصراع بين عباس ودحلان، فإن للصراع جوانب أخرى تتعلق بالسيطرة على حركة فتح التي لها موقع فلسطيني مهم، وهي قلب منظمة التحرير الفلسطينية، وقلب إدارة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، ولها انتشار في دول عدة أهمها سورية والأردن ولبنان، حيث التواجد الفلسطيني الكثيف للاَّجئين الفلسطينيين.
وحركة فتح تتبنى نهج الاعتراف بـ”إسرائيل” والتفاوض معها وتدافع عن التنسيق الأمني. وبالتالي فإن الإمساك بحركة فتح وجسمها التنظيمي يُعدّ مكسباً على المستويات الشعبية والسياسية والرسمية، من أجل تمرير أي صفقة سياسية أو اتفاق في إطار التسوية. كما أن الإمساك بحركة فتح في هذا التوقيت الإقليمي يكمل دائرة المواجهة مع الحركات الإسلامية وقوى المقاومة.
ولا شكّ أن الصراع بين عباس ودحلان يعكس عمق الأزمة داخل حركة فتح بجوانبها التنظيمية والسياسية. ففي حين يحمّل أنصار عباس مسؤولية ما جرى لمحمد دحلان، فإن أنصار دحلان يرون أن انحدار شعبية فتح وتراجع قوّتها إلى هذا المستوى جاء في عهد محمود عباس. وبالتالي فإن الصراع بين عباس ودحلان يُظهر أن حركة فتح تعيش أزمة عميقة تتجلى في أزمة القيادة بعد غياب عرفات، وأزمة ترهل البنية المؤسسية والتنظيمية، وأزمة تحديد المسارات الاستراتيجية، بسبب فشل التسوية وعدم قدرة الحركة على الرجوع لخيار المقاومة، وضعف أداء السلطة في الضفة الغربية واستمرار المشاكل الاقتصادية، وضعف أداء الجهاز الحكومي.
وحتى لو حُسم الصراع لمصلحة أي من الطرفين، فإنه لا توجد مؤشرات حقيقية على قدرة من يمسك بزعامة فتح على إنقاذها سياسياً وشعبياً، وتحسين أدائها في الملفات التفاوضية المفتوحة، أو في إنقاذ بنية حركة فتح الإدارية والتنظيمية.
وعلى ما يبدو فإن قيام بعض الجهات بدفع محمد دحلان للإمساك بالسلطة داخل فتح لا يبتعد عن المناخ الإقليمي السائد، الذي يدفع باتجاه دعم شخصيات أكثر قبولاً لدى الأمريكيين والإسرائيليين والأوروبيين ودول “الاعتدال العربي” للإمساك بقرار هذه المجتمعات ومنها المجتمع الفلسطيني.
السيناريوهات المحتملة:
أولاً: المصالحة:
تتمتع حركة فتح بمرونة عالية، وقدرة كبيرة على إدارة الاختلاف والتنوع في داخلها، والوصول إلى تسويات وفق إمكانية ونفوذ وشعبية اللاعبين داخلها، مما يتيح الفرصة لتجاوز مشكلة صراع عباس -دحلان. غير أنه قد بُذلت جهود فتحاوية وعربية لإجراء مصالحة بين عباس ودحلان تقضي بإعادة الأخير إلى صفوف حركة فتح، لكن عباس رفضها كلها، رغم الإغراءات المالية الشديدة. ومع ذلك، فإن هذا الاحتمال لم يتلاشَ، وتشير بعض المعطيات إلى أنه وبعد الحرب الإعلامية الأخيرة بينهما أعيد استئناف جهود المصالحة، لكن لم تبرز إلى الآن معطيات إيجابية ظاهرة.
ثانياً: استمرار الصدام:
تشير حدة الصراع بين الرجلين إلى وجود صعوبة كبيرة في تنفيذ المصالحة بينهما، لأن أي مصالحة قد تؤدي على المدى البعيد إلى إزاحة محمود عباس عن السلطة، وإتاحة الفرصة لدحلان لمحاولة الوصول إلى مواقع رئاسة فتح ومنظمة التحرير والسلطة. وتعتقد بعض الأوساط الفلسطينية أن شخصية محمود عباس التي لا تميل للتسامح مع الخصوم، لا تسمح بإجراء مصالحة حقيقية مع دحلان. كما أن شخصية دحلان المستعجلة المغامرة لا تساعد على الوصول إلى توافقات راسخة ثابتة. وهو ما يجعل احتمال استمرار الصراع مفتوحاً.
ثالثاً: التهدئة والمعالجة:
من المحتمل تجميد هذا الصراع، ومحاولة ضبطه وتحجيمه، بحيث يبتعد عن النسق الإعلامي والسياسي المكشوف؛ لأنه ألحق الضرر بسمعة عباس ودحلان، وأضعف صورة السلطة، ونشر مساوئ الطرفين. وبالتالي فإن عباس الذي يخشى من تكرار سيناريو إسقاط ياسر عرفات أو اغتياله لا يتقبل فكرة عودة دحلان، وقد عمل في الفترة الأخيرة على تحسين صورته سياسياً وإعلامياً وشعبياً، فرفض خطة كيري للتسوية، وتمسّك بصفقة إطلاق الأسرى، ووقّع على 12 طلباً للانضمام لاتفاقيات دولية. كما أن بيت دحلان “الزجاجي”، كما يرى الكثيرون من خصومه، لا يحتمل أن يدخل في مواجهات مع عباس أو غيره؛ ولذلك قد يحبذ دحلان عدم المضي في المواجهة بهذا النسق.
خلاصة:
الصراع بين عباس ودحلان هو صراع على مواقع النفوذ وليس حول شأن سياسي أو دفاعاً عن حقوق الشعب الفلسطيني، أو على تعزيز مشروع الصمود الفلسطيني أمام الاحتلال. وهذا يلحق ضرراً بحركة فتح وبيئتها التنظيمية، وهو أحد تجليات أزمات فتح في البنية والقيادة والمسار السياسي.
سيستمر دحلان على الأرجح في سعيه للسيطرة على مفاتيح القرار في حركة فتح، وسيحاول الاستفادة ما أمكن من البيئة العربية الحالية المتاحة لمزيد من المناورة وتوسيع النفوذ. غير أن عباس ما زال لديه القدرة على كبح تطلعات دحلان في ضوء نفوذه الأوسع داخل فتح، وفي ضوء شعبيته الأوسع فتحاوياً وفلسطينياً، وفي ضوء مكانته كرئيس للسلطة ولمنظمة التحرير، والتي ما زالت تلقى قبولاً عربياً ودولياً. كما أن لدحلان نفسه مشاكله الكبيرة، وتواجهه رحلة طويلة جداً في إمكانية تغيير الصورة السلبية التي حملتها عنه قطاعات شعبية وفصائلية فلسطينية واسعة.
توصيات:
1. العودة إلى الأطر التنظيمية، وتكريس العلاج المؤسسي الدستوري للمشاكل الداخلية.
2. تقديم الأولويات الوطنية والمصالح العليا للشعب الفلسطيني على غيرها من الحسابات الشخصية والفئوية.
* يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ رأفت مرة بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.
أضف ردا