بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
أيا يكن الاسم الذي يحبذ الباحثون أو السياسيون أو الناس إطلاقه على الحكومة التي أدارت قطاع غزة في السنوات السبع الماضية (2007-2014) مثل حكومة تسيير الأعمال، أو الحكومة المقالة، أو حكومة حماس، أو حكومة إسماعيل هنية، فإنها حكومة تستحق وقفة تقدير وعرفان، كما تستحق وقفة نقد وتقييم.
لا يبدو تقييم أداء الحكومة التي قادتها حماس في القطاع أمرا سهلا في الوقت الذي تشهد فيه الساحة العربية حالة استقطاب سياسي حاد في ضوء الهجمة المرتدة ضد الثورات وحركات التغيير العربية، وفي ضوء الحملة الإعلامية غير المسبوقة ضد ما يعرف بـ”الإسلام السياسي”، وفي ضوء تراجع أداء العمل المقاوم.
غير أن إشكالية التقييم لا تبدو فقط في وجود الأجواء الموبوءة، وإنما في الأسس التي يمكن الاستناد إليها في عملية التقييم، إذ يحلو للكثيرين وضع التحسن الاقتصادي والرفاه المعيشي معيارا أساسيا للتقييم، حيث إنه المعيار الأكثر شيوعا عالميا، بينما يضيف آخرون معايير الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني والحريات.. وغيرها.
ولكن هل من المعقول لنظام هو عمليا تحت الاحتلال وتحت الحصار الخانق برا وبحرا وجوا، ويقود شعبا يتبنى برنامجا وطنيا في المقاومة والعودة والتحرير أن تتم محاسبته كما يحاسب نظام الحكم في سويسرا أو سنغافورة أو اليابان؟ وهل ما يجب أن يحاسب عليه هذا النظام أساسا متعلق بتوافر السلع الاستهلاكية ووسائل الرفاه والمتعة، أم بتوافر عناصر القوة والحماية والصمود، وهل من العدل محاسبة الثورات كما تحاسب الدول؟
هذا لا يعني بالطبع السكوت على أن تتخذ أي جهة من الثورة أو من الأوضاع الاستثنائية مبررا للوقوع في الفساد بأشكاله أو التعدي على الحريات أو انتهاك الحقوق، ولكن المطلوب أن يتم تقييم ما إذا كانت الجهة قد أعطت أفضل ما لديها وفق الإمكانات المتاحة لتحقيق الأهداف المرجوة.
ابتداء، لم تكن “حكومة حماس” التي قادها إسماعيل هنية مجرد “طرف انقسام”، بل حكومة “قبضت على الجمر” وهي تعبر عن تيار فلسطيني وعربي وإسلامي واسع يحافظ على الثوابت ويرفض مسار التسوية، ونجحت في فرض احترام الخط المقاوم في كل مكان، وكانت حكومة شرعية تحظى وما زالت بأغلبية مطلقة داعمة في المجلس التشريعي الفلسطيني الذي عطله الرئيس عباس وقيادة السلطة في رام الله، وهي حكومة جرت محاولة الانقلاب عليها من خلال الفلتان الأمني.
وحسب النظام الأساسي الفلسطيني (الدستور)، تتحول حكومة إسماعيل هنية التي أقالها الرئيس عباس إلى حكومة تسيير أعمال، وهو ما لم يفعله عباس، إنما شكل حكومة طوارئ ولم يرجع إطلاقا لأخذ الثقة من المؤسسة التشريعية الفلسطينية للسلطة. وكانت حماس في وضع مريح في المجلس التشريعي طوال السنوات الماضية يمكنها من حجب الثقة عن حكومة عباس ومنح الثقة لأي حكومة تشكلها حماس. وبالتالي، فإن محاولة تصوير أن حماس عادت إلى “الحضن” الفلسطيني وإلى “الشرعية” الفلسطينية وأنها أنهت “انقلابها” في القطاع غير صحيحة.
لم تكن حكومة إسماعيل هنية مجرد حالة تنافسية مع حكومة رام الله، إذ إن هناك فرقا هائلا بين خط يتبنى برنامج المقاومة ويدفع أثمانها الباهظة، وبين خط يتبنى برنامج التسوية ويذوق “عُسيلتها”.
وهناك فرق هائل بين خط يتعرض للحصار الإقليمي والدولي، وتتم محاولات إفشاله وإسقاطه، ويدير وضعا يكاد يكون مستحيلا (أو أقرب إلى كرة لهب) في قطاع غزة، وبين خط يحظى بالرضا الإقليمي والدولي، ويُفرش له “السجاد الأحمر” في أوروبا وأميركا، ويتلقى مساعدات مالية بمئات الملايين من الدولارات سنويا من هذه الدول، بينما يتابع تنسيقه الأمني مع الطرف الإسرائيلي، ويعده “مقدسا”، ويواصل مطاردة قوى المقاومة وخلاياها.
ومن جهة ثانية، فإن حكومة هنية حققت في إدارتها قطاع غزة نجاحات بارزة لخط المقاومة، وعبرت عن عزة الإنسان الفلسطيني وكرامته، ووصلت الليل بالنهار في تطوير البنى التحتية للمقاومة وفي تدريب المجاهدين، ورعت قوى المقاومة الأخرى وسمحت لها بالتجهيز والتدريب والعمل.
لقد شعر كل فلسطيني وعربي ومسلم بالعزة والفخار وهو يرى أبناء قطاع غزة يلتحمون مع قوى المقاومة ومع حكومة هنية في دحر العدوان الإسرائيلي الشرس، والذي خرج يجر أذيال الخيبة بعد 23 يوما من المعارك في ما عرف بعملية الرصاص المصبوب أو ما سمته المقاومة حرب الفرقان (27/12/2008-18/1/2009)، وهو الشعور ذاته عندما لقَن قطاع غزة بقيادة “حكومة حماس” الإسرائيليين درسا كبيرا في صد العدوان على القطاع في الفترة من 14-22/11/2012 في ما عرف بعملية عمود السحاب، أو ما سمته المقاومة حرب حجارة السجيل.
إذ لم يعد قطاع غزة مجرد أرض وسماء مستباحة لسفك الدم الفلسطيني بعد أن تمكنت قوى المقاومة من الرد بصواريخ وصلت في مداها إلى تل أبيب والقدس، وهددت نحو 60% من سكان الكيان الإسرائيلي، لتشكل نوعا من توازن الردع أجبر القيادة الإسرائيلية على الهدنة، وعلى الاندحار والموافقة على فك الحصار عن القطاع.
هذا الإنجاز لقوى المقاومة يمكن أن يقارنه الإنسان بالاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة في يوم واحد سنة 1956، وكذلك احتلاله في يوم واحد سنة 1967 في مواجهة الجيش المصري في كلتا الحالتين.
ويحسب لحكومة هنية في القطاع تحقيق إحدى أفضل صفقات تبادل الأسرى في تاريخ المقاومة الفلسطينية بعد أن تمكنت في ظروف قاسية جدا من الاحتفاظ بالأسير الإسرائيلي جلعاد شاليط لأكثر من خمس سنوات إلى أن تم إطلاق سراح أكثر من ألف من الأسرى الفلسطينيين من مختلف فصائل المقاومة، من بينهم 320 أسيرا وأسيرة محكومين بالمؤبد.
هناك من يحاول أن يقارن بطريقة “غير بريئة” فيدعي أن الهدنة في قطاع غزة مع إسرائيل مشابهة لالتزامات السلطة في رام الله تجاه إسرائيل أيضا، بل ويضيف أن حماس تقوم بـ”حماية” الحدود الإسرائيلية، والمقارنة الظالمة هنا تتجلى في أن هناك فرقا هائلا بين سلطة في غزة تدير برنامج المقاومة وتضبط إيقاعه، وبين سلطة في رام الله تدير برنامج استئصال المقاومة، وأن هناك فرقا هائلا بين حكومة في غزة تدرب عشرات الآلاف من المقاومين وتطور الصواريخ والأسلحة الدفاعية، وبين حكومة في رام الله منشغلة في قمع تيارات المقاومة ومؤيديها وتفكيك خلاياها، وهناك فرق هائل بين هدنة عسكرية معمَّدة بالدم في القطاع، وبين اتفاقية تسوية سلمية جعلت السلطة في رام الله سلطة وظيفية تخدم أمن الاحتلال.
من جهة ثالثة، قد يظن كثيرون أن إدارة حكومة هنية للاقتصاد في قطاع غزة كانت (من الناحية المهنية) أسوأ من نظيرتها في رام الله، كما قد يتوقع باحثون أنه في ظل الحصار الخانق والاعتداءات الإسرائيلية المدمرة فإنه من الطبيعي أن يكون الأداء الاقتصادي للقطاع أضعف من نظيره في الضفة.
غير أن الحقائق والأرقام الرسمية للسلطة في رام الله نفسها تقول غير ذلك، فوفق بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في رام الله فإن نصيب قطاع غزة من الناتج المحلي الإجمالي لمناطق السلطة الفلسطينية ارتفع من 23.8% سنة 2008 إلى 27.4% سنة 2013، بينما انخفض نصيب الضفة الغربية للفترة نفسها من 76.2% إلى 72.6%، وطوال السنوات الخمس الماضية (2009-2013) كان معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في قطاع غزة أعلى منه في الضفة الغربية (مثلا 17.6% مقابل 10.4% سنة 2011، و6.6% مقابل 5.6% سنة 2012، و6.9% مقابل صفر تقريبا سنة 2013).
وبالطريقة نفسها ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي في قطاع غزة بمعدلات أفضل عما هو عليه بالضفة الغربية طوال الفترة من 2009-2013. هذا مع العلم أن السلطة في رام الله تلقت دعما خارجيا (خصوصا من أوروبا وأميركا) بلغ نحو 5,947 ملايين دولار خلال الفترة من 2009-2013، وهو دعم يفوق بأضعاف مضاعفة ما تلقاه قطاع غزة من دعم خارجي في الفترة نفسها.
اللافت للنظر أيضا أن قطاع غزة حقق الاكتفاء الذاتي من الخضروات وبنسبة 97%، وحقق اكتفاء شبه ذاتي من الفواكه بنسبة 80% تقريبا، كما نشرت جريدة القدس العربي في 22/4/2014.
وبذلك لا يصعب الاستنتاج أن حكومة حماس في القطاع أدارت الاقتصاد بكفاءة أفضل من نظيرتها في الضفة على الرغم من أوضاعها المعقدة، وعلى الرغم من عملها في بيئة معادية تحاصرها وتحاول إسقاطها، وأنه لو أتيح لها ظروف عادية أو مماثلة لتلك التي في رام الله لقفز مستوى أدائها وإنجازها.
ومن جهة رابعة، فإذا كنا نسجل ضرورة إطلاق الحريات واحترام حقوق الإنسان فإننا نلاحظ أن الأداء الأمني في التعامل مع الحريات كان في قطاع غزة أفضل منه في الضفة الغربية، حتى وفق إحصاءات جهات تحظى برعاية السلطة في رام الله.
فمثلا بلغت الشكاوى المسجلة لدى الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في رام الله 789 شكوى سنة 2012 منها 563 شكوى في الضفة و271 شكوى في القطاع، أما المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان فقد سجل 723 حالة اعتقال تعسفي و1137 حالة استدعاء و117 حالة تعذيب سنة 2013 في الضفة، أما في قطاع غزة فسجل في السنة نفسها 84 حالة اعتقال تعسفي، و217 حالة استدعاء و22 حالة تعذيب.
أما من ناحية التنسيق الأمني، فحسب تصريح قائد المنطقة الوسطى الجنرال نيتسان ألون فإن أجهزة السلطة في رام الله اعتقلت 2200 مقاوم في الفترة من 2009-2010، ونحو سبعمائة مقاوم سنة 2011.
وكشفت حكومة الاحتلال الإسرائيلي أن أجهزتها قامت بـ2968 عملية مشتركة مع قوات الأمن الفلسطينية سنة 2010، كما عقدت معها 686 اجتماعا مشتركا في السنة نفسها.
كما حظيت أجهزة الأمن في رام الله مثلا بدعم أميركي مقداره 130 مليون دولار في سنة 2009. هذا في مقابل حالة الحرب الإسرائيلية مع قطاع غزة، وانعدام التنسيق الأمني، بينما يترجم الموقف الأميركي بحصار وصواريخ وقذائف يصبها الإسرائيليون على رؤوس أبناء القطاع.
وحتى بالنسبة للشعور بالأمن والأمان فإن استطلاعات الرأي -التي تجريها مؤسسات تقيم في الضفة الغربية ومدعومة غربيا أو من السلطة- تشير إلى أن شعور المواطنين في القطاع بالأمان أعلى من مثيله في الضفة، فقد نجحت السلطات في غزة بالقضاء على الفلتان الأمني وعلى المربعات الأمنية للعائلات، وفي بسط الأمن بكل مناطق القطاع.
وبلا شك، فإن أداء حكومة هنية لا يخلو من الثغرات والقصور، فقد كان على هذه الحكومة أن تبذل جهودا أوسع في استيعاب القوى الفلسطينية الأخرى في إدارة قطاع غزة، وفي تقديم نموذج أكثر انفتاحا في العمل الوطني الفلسطيني، وفي إطلاق المزيد من الحريات.
لا يتسع المقال للكثير من التفصيلات، ولكن ينبغي الاعتراف بأن هذه الحكومة قامت بعمل متميز، خصوصا عندما نضع في اعتبارنا البيئة المعقدة والمعادية التي أحاطت بها، مع شح الإمكانات وتواصل العدوان والحصار.
مع تمنياتنا لحكومة “التوافق الوطني” الجديدة بأن ترتقي لمستوى تطلعات شعبها وأمتها.
أضف ردا