بقلم: د. فايز أبو شمالة (خاص – مركز الزيتونة).
وما غزة إلا بعض فلسطين التي يحاصرها الكيان الصهيوني بالفقر والبارود، لذلك قررت غزة بكامل إرادتها أن تتحدى أعداءها، وأن تفرض وجودها بقوة السلاح. والهدف من ذلك أبعد من فتح المعابر، وفكّ الحصار؛ الهدف هو تشكيل النموذج الذي يجب أن تحاكيه الضفة الغربية في فكّ قيودها، ولا سيما بعد أن أثبت نهج المقاومة الذي تبنته غزة مصداقيته حتى هذه اللحظة، لتصير بذلك غزة هي الناطق الرسمي باسم القضية الفلسطينية التي يمتد تاريخها إلى ما قبل اتفاقية أوسلو بعقود، وتصير من خلال فوهات البنادق ممثلاً لمطالب كل الشعب الفلسطيني الباحث عن الحرية، والرافض للعيش الذليل تحت سطوة الاحتلال الإسرائيلي.
المقاومة فكرة لا يجتثها العدوان
إن ما يجري على أرض غزة من تصدٍ للعدوان، ومن مجابهة عسكرية وصلت إلى حدّ الندية في الميدان، لينعكس بتأثيره الإيجابي على مجمل القضية الفلسطينية، وسيتجاوز بردة فعله حدود قطاع غزة، وسيرسم معالم مرحلة سياسية جديدة لا تعتمد المفاوضات طريقاً وحيداً لحل الصراع مع العدو الإسرائيلي، وإنما تتبنى كافة الوسائل المتاحة لدى الشعب الذي يحارب عدواً يعمل بلا كلل على استئصال فكر المقاومة من عقول بعض الفلسطينيين، ويحرص على تجريدهم من مكونات بقائهم الروحي. لذلك حارب العدو الإسرائيلي طوال الفترة الماضية غزة بشراسة، وعمد إلى تشنيع فكرة المقاومة باعتماده نهج عزل غزة عن العالم الخارجي، وحصارها داخلياً بالفتنة والانقسام، ومن ثم تقطيع أوصالها الاجتماعية، وقطع تواصلها الجغرافي مع الضفة الغربية، ليقدم غزة نموذجاً منفراً للبطالة والفقر والدمار، وفي الوقت نفسه، حاول أن يقدم الضفة الغربية المحتلة نموذجاً للاستقرار والازدهار.
المقاومة الفلسطينية تقرر مصير فلسطين
ومنذ اليوم الأول لفشل العدوان على غزة، صار مستقبلها السياسي والاقتصادي محكوماً بقدرات المقاومة الفلسطينية على المواجهة الميدانية، وبالتالي صار مستقبل القضية الفلسطينية برمته محكوماً لهذه النتائج، بل صار مستقبل دولة الكيان الصهيوني نفسه محكوماً بالنتائج التي ستنجلي عنها المعركة. ويرى الكاتب أن ذلك ما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى القول: إننا نخوض على حدودنا الجنوبية حرب وجود، فإما نكون أو لا نكون، ليأتي بعد ذلك شمعون بيرس رئيس الدول الصهيونية، ويقول: يجب أن ننتصر في معركة غزة، ويا ويل “إسرائيل” لو هزمت في الحرب على غزة. إن هذه التصريحات المستندة إلى الواقع، لتؤكد أن الذي سيثبت في الميدان سيكون هو الأقدر على فرض شروطه على الطرف الذي تتفكك مقومات مقاومته في مقابل قدرات الآخر، وفي تقدير الكاتب أن لهذه المواجهة الميدانية المصيرية ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأول:
أن توظف “إسرائيل” كامل طاقتها العسكرية، وتحرك آلة بطشها لاحتلال قطاع غزة بالكامل، بهدف اقتلاع المقاومة الفلسطينية من جذورها ـ كما يتوهم المتطرفون ـ ولكن هذا الاحتمال بات مستبعداً جداً، ولا سيما بعد أن حذرت منه شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في تقريرها الذي قدمته إلى الحكومة الإسرائيلية بكامل هيئتها. وقد كان لهذا التقرير الذي تعمد رئيس الوزراء تسريبه للصحافة بالغ الأثر على مجمل قرارات الحكومة الإسرائيلية في هذا الشأن، وبغض النظر عن جملة التصريحات الإعلامية المتشددة التي صدرت عن أقطاب التطرف الصهيوني. نجاح هذا الاحتمال يترك مصير غزة في يد الصهاينة، يقررون بشأن مستقبله ما يرغبون.
الاحتمال الثاني:
أن تضعف المقاومة الفلسطينية من خلال صبّ القذائف الإسرائيلية الانتقامية صباً على رؤوس المدنيين، ومن خلال مواصلة الحصار والتدمير الهادف إلى استنفاذ مخزون المقاومة، واستنزاف قدرتها، بحيث تتراخى قبضة المقاومة، ويتراجع تأثيرها على حياة الإسرائيليين، فتعود الحياة في التجمعات الإسرائيلية إلى طبيعتها. وهذا ما تتمناه “إسرائيل”، وما سعت إليه، ولكن مجريات الأحداث الميدانية بعد نحو خمسين يوماً من المواجهة تعاكس الأماني الإسرائيلية، وتؤشر إلى طول نفس المقاومة. إن َّنجاح هذا الاحتمالُ يبقي أمر غزة على ما هو عليه، ويبقي القضية الفلسطينية رهينة طاولة المفاوضات العبثية، بل وسيمد في عمر المفاوضات عشرين عاماً إضافياً.
الاحتمال الثالث:
أن تواصل المقاومة الفلسطينية حرب الاستنزاف بمستواها الراهن، وأن تواصل التوتير العسكري المحسوب بدقة، مع شلّ التفوق العسكري الإسرائيلي من خلال التخندق في الأنفاق، وإرباك الحياة الاقتصادية والمدنية الإسرائيلية، وفي هذه الحالة سيشكل الجمهور الإسرائيلي مادة الضغط الإضافية على قيادة الكيان، ولا سيما أن استطلاع الرأي الذي أجرته صحيفة يديعوت أحرنوت عشية الموافقة على تهدئة 72 ساعة في تاريخ 5/8/ 2014؛ قد أشار إلى أن 18% من الإسرائيليون يرون أن “دولة إسرائيل” قد انتصرت في المعركة، بينما يرى 28% أن حركة حماس هي التي انتصرت في المعركة، في الوقت الذي يرى 48% من الإسرائيليين أن نتائج المعركة كانت تعادل بين الكيان الصهيوني والمقاومة الفلسطينية. وفي تقدير الكاتب أن التعادل بحد ذاته يمثل نصراً للمقاومة، وهذا ما سيجبر العدو الإسرائيلي على الركوع، والتوصل إلى اتفاق تهدئة مع المقاومة الفلسطينية وفق شروطها، وهذا هو الاحتمال الأقرب للتحقق.
ما الامكانيات التي تُخبئها الأيام القادمة لغزة؟
أولاً: تحقيق التهدئة من خلال المبادرة المصرية التي باتت لها الحظوة لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي في الفترة الأخيرة، وهي المبادرة ذاتها التي رفضها الكيان الصهيوني، حين ضَمَّنها الوفد الفلسطيني شروطه، ومع ذلك فقد أمست المبادرة المصرية بالية، وقد عفّ عليها الزمن من وجهة نظر المقاومة الفلسطينية، التي أعلنت عن دفنها تحت ركام المباني المدمرة.
ثانياً: تحقيق التهدئة من خلال قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي، تسعى إلى صياغته كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا مدعومة من أمريكا. وسيكون هذا القرار بمثابة خشبة الخلاص للإسرائيليين ولا سيما إذا وافق هواهم السياسي الذي يشترط أن يتم إعمار غزة عن طريق السلطة الفلسطينية، ويشترط أن يكون تعمير غزة مقترناً بنزع سلاح المقاومة، هذا القرار لو صدر عن مجلس الأمن فإنه سيلبي رغبة المتطرفين الصهاينة الرافضين لفكرة الجلوس مع حماس، والتفاهم معها، ويأتي استجابة لاستحثاث بعض الأوساط الإسرائيلية التي تمثلهم وزيرة القضاء الإسرائيلي، زعيمة حزب (هاتنوعا) تسيبي ليفني، وهي التي سعت طويلاً إلى تسويق هذه الفكرة، وفي تقدير الكاتب أن هذا القرار لن يكون ملزماً للمقاومة الفلسطينية ما لم يتضمن بندين ضروريين:
1ـ وقف العدوان الإسرائيلي، ومن ثم فكّ الحصار بمعناه الشامل عن قطاع غزة.
2ـ إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967.
هذان الشرطان الفلسطينيان لا يتوافقان مع مساعي الكيان الصهيوني الذي سيرفض كل قرار صادر عن مجلس الأمن يدعو إلى فك الحصار، ولا يربط بين تعمير غزة ونزع سلاحها.
ثالثاً: تحقيق التهدئة من خلال وساطة عربية إقليمية دولية، تستجيب لشروط المقاومة في فك الحصار عن غزة، وتأخذ بعين الاعتبار حاجات الشعب الفلسطيني السياسية والإنسانية، وفي الوقت نفسه تستجيب لمطالب الكيان الصهيوني الأمنية لعدد من السنين القادمة.
وما النتيجة؟
بناء على ما سبق يمكن الاستنتاج أن مستقبل قطاع غزة محكوم بما ستسفر عنه التطورات في الأيام القادمة، وفي تقدير الكاتب أن المقاومة التي أثبتت قدرتها الميدانية، قادرة أيضاً على فرض شروطها السياسية التي ستؤثر على المشهد الفلسطيني، ولا سيما إذا أخذت بعين الاعتبار الأمور التالية:
1ـ إذا تحققت التهدئة عن طريق المبادرة المصرية التي تعطي للسلطة الحق في الإشراف على المعابر، وفي التواجد على حدود 1948 مع الكيان الصهيوني، وتعطي السلطة الحق في مراقبة الصادر والوارد، وفي الإشراف على تعمير ما دمره العدوان على غزة، ففي هذه الحالة ستظهر على السطح قوتان سياسيتان، وهما قوة المقاومة المدعومة من كافة أطياف الشعب الفلسطيني، وقوة السلطة التي تحظى بالدعم الدولي. هذه الثنائية سيتواصل معهما الشد والجذب داخل الساحة الفلسطينية. إنها ثنائية الرؤية السياسية التي يحاول أحد طرفيها شدّ الضفة الغربية إلى طريق غزة المقاوم، ويحاول طرفها الثاني جذب غزة إلى طريق الضفة الغربية.
2ـ إذا تحققت التهدئة عن طريق قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي، فمعنى ذلك أن إدخال مواد البناء سيكون خاضعاً لرقابة دولية، وهذا لا يعني تعزيز مكانة السلطة في قطاع غزة، وإنما يعني تشريع الباب لمزيد من المفاوضات التي ستؤثر سلباً على ما حققته المقاومة من إنجاز، وسيكون الحديث عن إعادة تشغيل المطار وإنشاء ميناء غزة، قرين نتائج المفاوضات التي ستجريها السلطة مع الكيان الصهيوني في فترات لاحقه.
3ـ إذا تحققت التهدئة عن طريق وساطة عربية وإقليمية ودولية، يتم من خلالها الاعتراف بالواقع الميداني الجديد، وتأخذ بعين الاعتبار مصالح الشعب الفلسطيني، فمعنى ذلك أن الكيان الصهيوني قد يحظى بالأمن الذي يفتش عنه الإسرائيليون لعدد من السنين، وفي المقابل قد يحظى الفلسطينيون في غزة بحقهم في تطوير كل مناحي حياتهم بعيداً عن الحصار الإسرائيلي، وسيمهد اتفاق التهدئة هذا إلى عودة الترابط بين الضفة الغربية وغزة، وسيسمح للسلطة الفلسطينية بممارسة دورها الوظيفي في قطاع غزة، دون التضييق على أنشطة المقاومة.
اليوم التالي لانتهاء العدوان
ستشرق الشمس في اليوم التالي وفي عيون غزة دمعة، وعلى شفتيها بسمة، وفي قلبها رجاء بالتخلص من مساحات الحزن التي سكنت البيوت، إنها غزة التي ستعرف كيف تواسي نفسها؟ وكيف تقطب جرحها؟ وهي تنتشي فخراً بقدرتها على الصمود حتى تحقيق الانتصار. في اليوم التالي سيعود الناس إلى بيوتهم المدمرة، وإلى أراضيهم المقطعة الأوصال، فالناس في غزة تعشق بقايا الحجر الذي تأسس عليه البيت، وتحضن جذع الشجرة الذي يحفظ لها الذاكرة، وسيبدأ الناس بإزالة غبار المعارك التي تراكم على النفس الفلسطينية قبل إزالة الأتربة وركام القصف الذي تكدس في الشوارع.
في اليوم التالي لانتهاء العدوان سيكون الناس أحوج إلى المحبة والتسامح والتسامي فوق الجراح، وستكون غزة أحوج إلى الوحدة الوطنية بمعناها الدقيق والشامل، بحيث يتجاوز سكانها مرحلة العتاب واللوم واتهام البعض في التقصير أو القصور في أداء الواجب.
توصيات:
1- على المقاومة الفلسطينية الحذر من الوقوع في مصيدة التهدئة مقابل التهدئة، مع ضرورة مواصلة الاستنزاف المربك لحياة العدو الإسرائيلي إلى حين التوصل إلى تهدئة مشروطة.
2- عدم السماح لأي طرف بالحديث عن نزع سلاح المقاومة مهما كلف الثمن.
3- التنبه إلى ضرورة فكّ الحصار بشكل كامل عن قطاع غزة، وعدم الاكتفاء بفتح المعابر.
4- لا بأس أن تتحمل السلطة الفلسطينية مسؤوليتها عن حياة الناس في قطاع غزة، وأن تشرف على كل المعابر والحدود، ولكن ضمن الشراكة الفلسطينية الكاملة لكافة قوى المقاومة.
5- من الأهمية بمكان أن يحرص رجال المقاومة على التواجد في لجنة تعمير غزة، والتشبث بهذا الطلب مهما كلف الثمن، فرجال المقاومة هم الضامن الوحيد للشفافية والنقاء وسلامة الأداء.
6- ضرورة التذكير الدائم بأن الاحتلال الإسرائيلي هو السبب المباشر للحرب.
7- من الأهمية بمكان أن يُدرك المجتمع الدولي أن أصل الصراع مع العدو الإسرائيلي يرجع إلى سنة 1948، تلك السنة التي قامت فيها “دولة إسرائيل” على حساب ملايين اللاجئين في غزة والضفة الغربية والشتات، مع التركيز على أن نحو 70% من سكان قطاع غزة هم لاجئون، لهم أرضهم وبيوتهم ومدنهم وقراهم في محيط غزة.
8- من الضروري التأكيد في أيّ اتفاق على الترابط بين غزة والضفة الغربية، بما في ذلك التبادل التجاري، وإطلاق سراح أسرى الدفعة الرابعة.
9- يجب التأكيد على أن اتفاقية أوسلو قد دفنتها الصواريخ الفلسطينية تحت الأنقاض، فأوسلو التي تشترط مراقبة الإسرائيليين للبنادق الفلسطينية قد انتهت مع وجود السلاح المقاوم.
10- لقد أحدث العدوان الإسرائيلي على غزة هزة وجدانية، ومتغيرات استراتيجية في تفكير الناس، وفي وعيهم السياسي، لذلك فمن الضروري أن تصير الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني عام، يضم الشخصيات الوطنية، والفصائلية السياسية، وكل الفعاليات الميدانية والتجمعات الشعبية في قطاع غزة والضفة الغربية وفي الشتات، بهدف التوافق على موقف سياسي فلسطيني موحد يتناسب ومرحلة الانتصار، وإعادة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني وانتخابات قيادة تمثل بشكل صحيح، وتعبر عن طموحاته وتطلعاته السياسية.
أضف ردا