تقدير استراتيجي (69) – آب/ أغسطس 2014.
ملخص:
تعيش الضفة الغربية منذ انتهاء انتفاضة الأقصى حالة من الهدوء النسبي، وتراجعاً كبيراً في ممارسة المقاومة للاحتلال، باستثناء بعض الأشكال التي يمكن وصفها بـ”المقاومة الناعمة”.
وتتلخص سيناريوهات المستقبل بخصوص المقاومة بالضفة الغربية بثلاثة اتجاهات:
الأول أن تستمر أشكال المقاومة الناعمة التي تنفذ ضدّ الاحتلال منذ سنوات، وهو سيناريو من المتوقع حدوثه بالتزامن مع أحد السيناريوهين الآخرين.
وأما السيناريو الثاني فهو أن تتطور أشكال المقاومة الناعمة لتتحول إلى مقاومة شعبية شاملة غير مسلحة، وهو سيناريو ممكن التنفيذ في البيئة الحالية للضفة، ولكنه يحتاج إلى إجراءات لا بدّ من اتخاذها من السلطة الفلسطينية والفصائل على حدّ سواء.
ويبقى السيناريو الثالث، وهو دخول الضفة الغربية في مرحلة جديدة من المقاومة المسلحة على غرار المرحلة الثانية من انتفاضة الأقصى، وهو سيناريو مستبعد الحدوث في الظروف الحالية بسبب المواقف السياسية والإجراءات الأمنية للسلطة في الضفة، وبسبب مجموعة الإجراءات الإسرائيلية المضادة؛ غير أنه يملك أرضية خصبة للسير باتجاهه خصوصاً في حالة مراجعة السلطة لأدائها، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أساس جعل المقاومة رافعة وقاطرة للعمل الوطني.
واقع المقاومة في الضفة الغربية:
تشهد الضفة الغربية هدوءاً نسبياً منذ انتهاء انتفاضة الأقصى، حيث تراجعت أو توقفت مقاومة الاحتلال بشقيها المسلح والشعبي، باستثناء بعض الفعاليات المرتبطة ببناء الجدار العازل، أو مقاطعة منتجات المستعمرات، إضافة إلى بعض الأحداث المعزولة التي تحدث من فترة لأخرى كردة فعل على جرائم الاحتلال.
وقد ازدادت حالة الهدوء بعد الانقسام الفلسطيني في حزيران/ يونيو 2007، إذ أحكمت السلطة الفلسطينية بعد هذا الانقسام سيطرتها الأمنية على الضفة الغربية، وحظرت نشاطات حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وعملت على تنفيذ برنامج استراتيجي لبناء عقيدة جديدة لقوات الأمن الفلسطينية؛ تمكنت من خلالها من استخدام هذه القوات لمنع أي فرصة لقيام مقاومة فلسطينية في الضفة الغربية.
أنواع المقاومة:
تقر القوانين والأعراف الدولية والتجربة التاريخية حق الشعب الفلسطيني بممارسة كافة أنواع المقاومة لدولة الاحتلال، بل إن الشعب الفلسطيني مطالب باستمرار الاحتكاك والتناقض مع مشروع الاحتلال لضمان ديمومة الصراع مع هذا المشروع، بغض النظر عن آليات وديناميات الاحتكاك مع المحتل.
ولكن المقاومة لا تقتصر على نوع واحد، بل إن شعوب العالم، ومن ضمنها الشعب الفلسطيني، مارست أنواعاً غير محدودة من المقاومة، بناء على ظروف الواقع، وطبيعة الصراع، وإمكانيات الشعوب المقاومة، وموازين القوى مع دولة الاحتلال.
وبناء على التجربة التاريخية للشعب الفلسطيني، يمكن تقسيم المقاومة الفلسطينية للاحتلال إلى ثلاثة أقسام:
أولاً: المقاومة الناعمة: ويقصد بها أنواع الاحتجاج الناعمة ضدّ ممارسات الاحتلال مثل النشاطات الدورية ضدّ الجدار العازل، ونشاطات مقاطعة منتجات المستعمرات، وغيرها من الفعاليات الرمزية التي لا تؤخذ صفة الديمومة، وتتجنب قدر الإمكان الاحتكاك مع جنود الاحتلال.
ثانياً: المقاومة الشعبية: وهي المقاومة التي يخوضها جماهير الشعب الفلسطيني بشكل منظم، ولكن ليس على أسس فصائلية. وتقوم هذه المقاومة أساساً على المشاركة الجماهيرية وليس على مشاركة الفصائل، دون أن يعني ذلك تغييب دور الفصائل في الحشد والتعبئة والتنظيم. وتجمع المقاومة الشعبية بين أساليب ناعمة مثل العصيان المدني، والإضرابات، ومقاطعة منتجات الاحتلال، وبين الاشتباك غير المسلح و”شبه السلمي” مع الاحتلال. ولعل أهم مثال على هذا النوع في تاريخ الثورة الفلسطينية هو انتفاضة الحجارة التي انطلقت سنة 1987.
ثالثاً: المقاومة المسلحة: ويقصد بها مقاومة الاحتلال عبر الطرق المسلحة، على اختلاف طبيعة ومدى التسليح. ويتميز هذا النوع من المقاومة بسيطرة الطابع الفصائلي وتراجع الدور الشعبي من الناحية العملياتية، إذ إن الفصائل المقاومة هي الأقدر على تنظيم المسلحين وتدريبهم وقيادة تحركاتهم، وتأمينهم بالسلاح، وتغطية مقاومتهم سياسياً وأمنياً وإعلامياً.
ومن أهم الأمثلة على هذا النوع من المقاومة، المرحلة الثانية من انتفاضة الأقصى، التي تسلحت بالبنادق وبالقنابل، وبالعمليات الاستشهادية، والمقاومة الفلسطينية التي تمظهرت في غزة بسلاح الصواريخ والقذائف والأنفاق وسلاح الأفراد في المواجهات البرية، بعد الانسحاب الإسرائيلي من القطاع، وخصوصاً بعد سيطرة حركة حماس على غزة في منتصف حزيران/ يونيو 2007.
العوامل الدافعة للمقاومة في الضفة الغربية:
ثمة عوامل سياسية واقتصادية ووطنية، تمثّل دافعاً للمقاومة في الضفة الغربية؛ بأنواعها المختلفة، منها:
• زيادة الإيمان الشعبي بمشروع المقاومة، خصوصاً بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، وما مثلته المقاومة الفلسطينية في القطاع من رمز للتحرر الفلسطيني، وللتصدي لجيش الاحتلال بقوة مؤثرة، وإن كانت غير مساوية لقوته. وبالرغم من وجود اختلافات فلسطينية وعربية في قراءة نتيجة الحرب، بين من يراها انتصاراً ومن يراها هزيمة وألماً، إلا أن أي بحث في مزاج الشارع العربي وليس فقط الفلسطيني، سيدل على أن هذا الشارع يشعر باعتزاز كبير بمشروع المقاومة، وأن هذا المشروع حقق نقاطاً كبيرة خلال العدوان.
• التراجع المستمر في الآمال المعقودة على مشروع التسوية والمفاوضات؛ وهو أمر يكاد يكون محل إجماع من كافة فئات الشعب الفلسطيني. بل إن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس نفسه، أكد مرات عديدة خلال الأعوام الماضية أن المفاوضات لم تحقق شيئاً للفلسطينيين، وأن السلطة قد تلجأ لخيارات أخرى للحصول على حقوق الشعب الفلسطيني.
• وجود جيش الاحتلال عملياً في مناطق الضفة الغربية، ما يمثل إمكانية كبيرة لوجود حالة اشتباك بين المواطنين وجيش الاحتلال، دون اللجوء إلى أنواع من المقاومة التي تؤدي إلى الحروب، وهي “ميزة” غير موجودة في قطاع غزة.
• البدء في خطوات تحقيق الوحدة الفلسطينية، وتوقيع اتفاق المصالحة، وتشكيل وحدة الوفاق الوطني بناء على هذا الاتفاق. وقد شكلت تجربة الفلسطينيين في أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة دافعاً جديداً للوحدة الوطنية، إذ تزامنت وحدة الفصائل المقاومة في الميدان، مع وحدة المستوى السياسي من خلال الوفد الفلسطيني الموحد الذي فاوض باسم جميع الفلسطينيين بالقاهرة. ويعول على الوحدة الفلسطينية بتوسيع هامش تحرك الفصائل الفلسطينية تجاه الاشتباك —بكل أنواعه— مع الاحتلال، كما تشكل الوحدة مناخاً سياسياً مواتياً للوصول إلى برنامج وطني يتبنى المقاومة كمشروع استراتيجي لمواجهة مشروع الاحتلال.
• المكاسب التي حققها الشعب الفلسطيني على مستوى الرأي العام العالمي، والذي بدأ يتجه أكثر لتأييد الرواية الفلسطينية وتكذيب الرواية الصهيونية للصراع. وقد زادت نسبة التأييد للفلسطينيين في العالم حسب استطلاعات رأي ودراسات عديدة في أوروبا وأمريكا خلال العدوان الإسرائيلي على غزة. وتؤثر حالة التأييد هذه على إحساس الفلسطينيين بجدوى المقاومة، إذ إن دعم الرأي العام العالمي لرواية الفلسطينيين يؤدي إلى رفع تكلفة الاحتلال بمواجهة المقاومة الفلسطينية، ما قد يسهم في دفع الاحتلال لتقديم “تنازلات” أكثر للشعب الفلسطيني.
العوامل المعيقة للمقاومة في الضفة الغربية:
في مقابل العوامل الدافعة للمقاومة في الضفة الغربية، فإن هناك عوامل وظروفاً معيقة لها؛ تتعلق بالظروف الموضوعية والتجربة التاريخية للشعب الفلسطيني، وبنتائج مشروع أوسلو، منها:
• تراكمات التجربة النضالية لفلسطينيي الضفة الغربية في انتفاضة الأقصى، فقد قدم أهل الضفة في هذه الانتفاضة عدداً كبيراً من الشهداء والضحايا، والمعتقلين، والبيوت المهدمة. ويبدو من الطبيعي أن تؤثر هذه التراكمات على الاستعداد الشعبي لخوض تجربة مماثلة قد تكلف أثماناً باهظة دون أن تحقق إنجازات سياسية ووطنية تليق بالأثمان المدفوعة.
• تفكك البنى التنظيمية والقوة العسكرية لمعظم الفصائل الفلسطينية بعد انتفاضة الأقصى، بفعل الضربات التي تعرضت لها الفصائل من جيش الاحتلال، والخسائر التي تكبدتها على صعيد الشهداء والمعتقلين.
• التضييق الكبير والملاحقات الأمنية التي عانت وتعاني منها حركتا حماس والجهاد الإسلامي من قبل السلطة الفلسطينية، وخصوصاً بعد الانقسام في منتصف حزيران/ يونيو 2007، ما يضعف قدرتها على الإسهام بالدور المطلوب منها في المقاومة بالضفة الغربية.
• التغييرات الاجتماعية التي أعقبت انتفاضة الأقصى والانقسام الفلسطيني، والتي غيرت في المزاج الشعبي لبعض الشرائح في الضفة الغربية، وأدت إلى تحولات تدريجية في تطلعات فئات من مواطني الضفة الغربية من “شعب تحت الاحتلال”، إلى مواطن يسعى لتحقيق متطلبات “الرفاه”، بفعل السياسات التي اتبعتها حكومات سلام فياض في إطار مشروعها الذي يتلاقى بشكل أو بآخر مع خطط “السلام الاقتصادي”.
• العقيدة الأمنية الجديدة التي أعيد تأسيس قوى الأمن الفلسطينية عليها بعد الانقسام، أو ما عرف بـ”الفلسطيني الجديد” الذي عمل على صناعته الجنرال كيث دايتون بالتعاون مع السلطة الفلسطينية. إن عقيدة أجهزة الأمن الفلسطينية الجديدة تمثل عائقاً أمام المقاومة في الضفة، في حين كانت هذه الأجهزة جزءاً أساسياً من المقاومة في انتفاضة الأقصى.
• السيطرة الأمنية الكبيرة لجيش الاحتلال في معظم مناطق الضفة الغربية، والجدار العازل، والطرق الالتفافية، وغيرها من عناصر السيطرة الإسرائيلية التي تقلل من هامش الحركة لفعاليات المقاومة، بكافة أنواعها.
• وجود قرار استراتيجي للسلطة الفلسطينية بمنع كافة أنواع المقاومة في الضفة الغربية باستثناء النوع الأول الذي اصطلحت هذه الورقة على تسميته بـ”المقاومة الناعمة”. أما حركة فتح، فبالرغم من إعلانها في أكثر من مؤتمر لمجلسها الثوري عن تبنيها للمقاومة الشعبية، إلا أنها لم تتخذ قراراً فعلياً ولا عملاً ميدانياً بهذا الاتجاه، ربما بحكم ارتباطها بقرار السلطة.
• تكبيل المواطن الفلسطيني اقتصادياً بسبب ارتباط السلطة الفلسطينية “عضوياً” بالاحتلال من الناحية الاقتصادية.
• ضعف إمكانية القيام بأي نوع من المقاومة بالمعنى الشامل المستمر، بسبب قيود أوسلو التي ربطت السلطة بالاحتلال من خلال التنسيق الأمني والسيطرة على الحدود والاقتصاد والضرائب، ما يجعل أي قرار للسلطة تجاه التمرد على هذه القيود مكلفاً —بالمعنى “الوجودي”— على السلطة.
السيناريوهات المحتملة:
أولاً: الاستمرار في ممارسة المقاومة الناعمة، من خلال بعض الفعاليات المناهضة للاحتلال، دون الاشتباك المباشر مع جنوده المنتشرين بالضفة الغربية. وهو سيناريو من المتوقع حدوثه سواء بمفرده، أو بالتزامن مع السيناريوهين التاليين، إذ إن فعالياته لا تتعارض معهما.
ثانياً: تطور المقاومة الناعمة الموجودة حالياً إلى النوع الثاني وهو المقاومة الشعبية الأكثر إيلاماً وتكلفة على الاحتلال، والتي تشمل قطاعات أكبر من مواطني الضفة الغربية. وبينما تدعم العوامل الدافعة للمقاومة المبينة أعلاه حدوث هذا السيناريو، فإن العوامل المعيقة المذكورة آنفاً تؤثر سلباً على فرصه بالتحقق. ولذلك، فإن حدوث هذا السيناريو الذي يمثل الخيار الأفضل للفلسطينيين بناء على تجربتهم التاريخية النضالية، يحتاج إلى تقوية العوامل الدافعة للمقاومة، والتخفيف من المعيقات من خلال جهد وطني مشترك.
ثالثاً: اشتعال المقاومة المسلحة في الضفة الغربية على غرار سيناريو انتفاضة الأقصى. ويبدو هذا السيناريو مستبعد الحدوث في الظروف الراهنة بالنظر إلى طبيعة الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية في الضفة الغربية، والتي تمّ التطرق إليها سابقاً. غير أنه يملك أرضية خصبة، خصوصاً إذا ما أعادت السلطة تعريف دورها في ضوء تطبيق برنامج المصالحة الفلسطينية والمشاركة الفاعلة لقوى المقاومة في صناعة القرار الفلسطيني.
توصيات:
• تعزيز الوحدة الفلسطينية التي تسهم في إنجاح فرص المقاومة في الضفة الغربية. وتنفيذ برامج لبناء الثقة بين فصائل وقوى الشعب الفلسطيني.
• إعادة النظر في ارتباطات السلطة بقيود أوسلو، والتأكيد على دورها في إنهاء الاحتلال، وليس في تكريس الاحتلال من خلال أدوار وظيفية تخدمه وتتسبب في بقائه.
• الاتفاق على برنامج وطني فلسطيني موحد، يتبنى المقاومة الشعبية في الضفة الغربية، ويمارس التعبئة الجماهيرية، وصولاً إلى المقاومة بكافة أشكالها.
• إزالة قيود السلطة الفلسطينية الأمنية والسياسية عن فصائل المقاومة وخصوصاً حركتي حماس والجهاد، لإعطائهما الفرصة بممارسة دورهما في تفعيل خيار المقاومة.
• ممارسة تعبئة إعلامية تعلي من دور الشعب والفرد الفلسطيني، بدلاً من الخطاب الحزبي الفصائلي.
• العمل تدريجياً على توجيه الاقتصاد في الضفة ليكون اقتصاداً انتاجياً ومقاوماً، وليس اقتصاداً استهلاكياً رفاهياً.
* يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ فراس أبو هلال بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.
أضف ردا