بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
لعل النموذج الرائع الذي قدمته حماس وقوى المقاومة في غزة، في حرب “العصف المأكول” أو عدوان “الجرف الصامد”، هو من أكثر لحظات التاريخ الفلسطيني والعربي والإسلامي الحديث تألقاً. وفي الوقت نفسه، فإن النموذج العربي الرسمي (خصوصاً في البيئة الاستراتيجية المحيطة بفلسطين) تجاه فلسطين والمقاومة، هو الأسوأ منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين قبل نحو مائة عام ومنذ إنشاء الكيان الصهيوني قبل نحو 66 عاماً.
***
منذ أن اندلعت الثورات وحركات التغيير في العالم العربي في مطلع سنة 2011 والمنطقة تشهد حالة من السيولة واللا استقرار والتَّشكُّل وإعادة التشكُّل. الموجة الأولى القوية التي تسببت في إسقاط أربع أنظمة عربية وباهتزازات داخلية عنيفة في عدد من الأنظمة الأخرى، أظهرت تصدُّر الإسلاميين للمشهد السياسي، وثقة الجماهير التي تنشد التغيير بهم. غير أن هذه الموجة ما لبثت أن تبعتها موجة مرتدة تمكنت فيها بعض الأنظمة وقوى الدولة العميقة السابقة من استعادة زمام المبادرة، وتعطيل مسار التغيير الديموقراطي و”الربيع العربي” الذي كانت تشهده المنطقة، وأدخلت المنطقة في صراع إرادات وحالات تنازع وفوضى واضطراب لم تخرج منها حتى الآن. غير أن ذروة نجاحات الموجة المضادة تمثل في سيطرة العسكر على مصر. وقد ترافق مع هذه الموجة حملة شرسة ضدّ التيارات الإسلامية التي بدت كنقيض للأنظمة الفاسدة والمستبدة السابقة، وكبديل محتمل ترضى به الجماهير.
وبين تدافع الموجات كانت القضية الفلسطينية تشهد مداً وجزراً واسعين، كما كانت قوى المقاومة والقوى المؤيدة لمشاريع التسوية تشهد صعوداً وهبوطاً وخضات كبيرة في أجواء تلاطم موجات “صراع الإرادات”.
***
جاءت الثورات العربية لتفرض واقعاً جديداً يدعم بشكل أقوى حركات المقاومة ويقاوم التطبيع. ولذلك، ما إن بدأت هذه الثورات حتى نقلت إذاعة الجيش الإسرائيلي عن مصادر رفيعة في مكتب نتنياهو قولها إن قلقاً كبيراً يسود دوائر صنع القرار في تل أبيب. رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ووزير الدفاع إيهود باراك قال إن “إسرائيل تواجه زلزالاً إقليمياً”. أما شاؤول موفاز رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكنيست، فرأى أن ما حدث في مصر وتونس هو “إنذار استراتيجي لإسرائيل”؛ بينما وصف الوزير موشيه يعلون ما يحدث بأنه “زلزال تاريخي”.
أدركت “إسرائيل” أن تغير البيئة الفاسدة والمستبدة حولها إلى بيئة حيوية نهضوية صاعدة يشكل خطراً وجودياً. ولذلك، وصف نتنياهو معاهدتي السلام الموقعتين مع مصر والأردن واصفاً إياهما بأنهما “ذخر استراتيجي”. كما تحدث أشكنازي رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق في 10/2/2011 بوضوح أن الاستقرار في المنطقة العربية هو بالنسبة لـ”إسرائيل” أهم من الديموقراطية.
وحذر نتنياهو، في خطاب له أمام الكنيست في 7/2/2011، من أن مصر يمكن أن تقع في أيدي الإسلاميين المتطرفين نتيجة للانتفاضة في البلاد. كما حذر رئيس الدائرة السياسية والأمنية في وزارة الدفاع الإسرائيلية الجنرال احتياط عاموس جلعاد من أن صعود الإخوان المسلمين في مصر سيقلب موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط، وأنه سيجر المنطقة إلى دوامة من عدم الاستقرار، وسيغير موازين القوّة في المنطقة إلى الأسوأ، محذراً من أن “الإخوان المسلمين يشكلون القوة الحقيقية في المنطقة، مثل حركة حماس، وهم يتطلعون إلى السيطرة على منطقة الشرق الأوسط بأكملها”. ووجه جلعاد تحذيراً من ظهور إمبراطورية إسلامية في منطقة الشرق الأوسط بقيادة الإخوان المسلمين في مصر والأردن وسورية.
ولم تخف قوى التغيير وخصوصاً الإسلاميين عداءها لـ”إسرائيل”، وإن بدت بشكل عام أكثر انشغالاً واستغراقاً في الشأن المحلي، وأحرص على عدم الدخول في مواجهات سابقة لأوانها. فقد قال المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين محمد بديع “إن إسرائيل لن تهنأ بالنوم بعد اليوم، ولن تعرف طريق الأمن والاستقرار ما دامت تستهين بحقوق الفلسطينيين”، وأضاف أن الثورات العربية التي أطاحت بالأنظمة القمعية الفاسدة، تمثل مقدمة لإنهاء الظلم والعلو الصهيوني وتحرير المقدسات ووضع حد للاستكبار الصهيوني (حسبما نشرته صحيفة الخليج الإماراتية، 20/5/2011).
الطرف الإسرائيلي الذي كان الأشد قلقاً على مصيره مع اندلاع الثورات، أضحى (بعد نحو سنتين) الأكثر ارتياحاً على صورة التشرذم ومشاهد الصراع الدموي والتفتت الطائفي والعرقي، وضعف الدولة المركزية، والهجوم على “الإسلام السياسي”. وبينما كان الطرف الإسرائيلي معزولاً ومستهدفاً من القوى الصاعدة، أمسى يجد نفسه مع حلفاء إقليميين محتملين يلتقون معه في أجندة محاربة “الإسلام السياسي”، وفي بقاء أنظمتهم التي تقمع إرادة شعوبها، والتي تلتقي في خطِّها العلماني والمصلحي مع أمريكا والقوى الغربية.
***
الموقف الإسرائيلي لم يُخفِ سعادته الكبيرة بإيقاف عجلة الديموقراطية في مصر، وإنهاء دور “الإسلام السياسي”، وعودة العسكر، واعتبر ذلك بدءاً لطيّ صفحة الربيع العربي؛ لدرجة أن شمعون بيريز رئيس الكيان الإسرائيلي طالب المسؤولين الإسرائيليين بالكفّ عن إظهار سرورهم بالانقلاب، حتى لا يُحرج ذلك قادة الانقلاب، وحتى لا يثير حفيظة المصريين.
وقد قالت صحيفة معاريف الإسرائيلية إن أوساط الجيش الإسرائيلي تنظر إلى السيسي على أنه عبقري وبطل. أودي سيغل، معلق القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي، قال إن نتنياهو هو أكثر الناس سعادة على وجه الأرض بسقوط مرسي؛ وحسب المحطة الثانية في الإذاعة العبرية فقد أصبح نتنياهو منشغلاً بدعم الانقلاب في مصر أكثر من انشغاله بالملف النووي الإيراني.
الانقلاب في مصر كان بالنسبة للكثير من المسؤولين والخبراء الإسرائيليين يعني أن مكانة “إسرائيل” الاستراتيجية الإقليمية ستتعزز؛ كما عبر عن ذلك افرايم هليفي رئيس الموساد الإسرائيلي السابق. أما وزير الاقتصاد نفتالي بينيت فرأى أن اتهام الرئيس مرسي بالتخابر مع حماس يعني أن الشراكة الاستراتيجية مع مصر ستتعاظم بشكل غير مسبوق.
من الصعب الاسترسال في ذكر الأمثلة على السعادة الإسرائيلية البالغة بالانقلاب في مصر، غير أنه يمكن الرجوع مثلاً إلى ملف المعلومات الذي أصدره مركز الزيتونة حول الموقف الإسرائيلي من الأحداث في مصر ليجد العشرات من الشواهد الموثقة على ذلك.
***
وقبيل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بدا أن هناك خارطة إقليمية تتشكل وأن بعض القوى الإقليمية والدولية ستتقاسم الكعكة، وأن الضحية والخاسر الأكبر هو الإسلام السياسي السني المعتدل، والمقاومة الإسلامية الفلسطينية.
فقد عادت “إسرائيل” إلى وضع إقليمي مريح تلعب فيه دور السيد والشرطي، بينما يقوم “الفخار بتكسير بعضه” في المنطقة، ومن لا يخطب وُدَّها فإنه يتجنبها أو يتقي شرَّها.
وعاد محور “الاعتدال” للتماسك والتناغم مع السياسة الأمريكية في المنطقة، ولمحاربة الإسلام السياسي أو محاصرته. وهو ما شكَّل نقطة تقاطع مهمة مع الجانب الإسرائيلي في إنهاء حكم حماس في قطاع غزة. وهو ما رأى فيه البعض تحالفاً جديداً، وغير أنه ليس هناك ما يثبت أنه تحالف “رسمي”، لكن عديدين يرونه تحالفاً “عملياً” بغض النظر عن مدى ترسيمه أو تنسيقه.
وفي أجواء العدوان على غزة، كان الطرف الإسرائيلي كان أكثر صراحة في الحديث عن هكذا تحالف، فقد أشار نتنياهو إلى العلاقة المتميزة التي نتجت مع دول المنطقة، وأنها ذخر مهم لـ”إسرائيل”. وتحدثت وزيرة العدل الإسرائيلية تسيبي ليفني عن أن هناك توافقاُ بين “إسرائيل” ومصر على خنق حماس. أما اسحق هرتسوغ رئيس حزب العمل وزعيم المعارضة الإسرائيلية فتحدث في مقابلة لصحيفة يديعوت أحرونوت في 15/8/2014 عن “حلف آسرٍ في المنطقة يشمل مصر والأردن والسلطة الفلسطينية [في رام الله] والسعودية ودول الخليج”؛ مؤكداً أن “إسرائيل جزء منه” وأن هذا الحلف يُعبِّر عن رؤيا إقليمية. ونوه يوسي بيلين الذي كان وزيراً للعدل الإسرائيلي ورئيساً لحركة ميرتس في مقال نشره في صحيفة “إسرائيل هايوم” إلى أنه يتضح من سلوك مصر والسعودية أنها معنيتان أن تنجح “إسرائيل” في القضاء على حماس. وقالت صحيفة “جيروزاليم بوست” في مقال تحليلي نشرته في 10/7/2014 إن مصر وإسرائيل تشكلان يداً واحدةً ضد حركة المقاومة الإسلامية (حماس). أما موقع صحيفة (معاريف) على الإنترنت، فقد وصف العلاقة المصرية الإسرائيلية بأنها وصلت إلى مرحلة “التحالف الشجاع”.
بشكل عام، كان الموقف المصري أكثر وضوحاً، إذ بينما كانت غزة تحت القصف والمذابح والدمار، تابع النظام المصري الحصار وتدمير الأنفاق، وسمح بالهجوم الإعلامي على حماس وقوى المقاومة وتشويهها والإساءة إلى رموزها، وأسهم سلوكه السياسي والأمني في إضعاف التفاعل الشعبي المصري مع المقاومة. وقدم النظام مبادرة للتهدئة أعدها مسبقاً بالتنسيق مع “إسرائيل” وأعلنها دون استشارة قوى المقاومة. وهي مبادرة تنزع أية مكاسب محتملة متعلقة بإلزام “إسرائيل” بفكّ الحصار، ولذلك رحب بها الجانب الإسرائيلي ورفضتها المقاومة. ولم يُبد النظام المصري مرونة إلا تحت ضغط إنجازات المقاومة، وبعد موافقة الطرف الإسرائيلي على تقديم تنازلات… لدرجة أن أمنون أبراموفيتش، كبير المعلقين في قناة التلفزة الصهيونية الثانية قال في منتصف تموز/ يوليو 2014 “إن نظام الجنرالات في القاهرة أكثر تطرفاً في التعاطي مع حماس من إسرائيل”. كما نائب وزير الجيش الأسبق، داني دانون، فقال في 8/8/2014 إن “المصريين طلبوا منا قبل أسبوعين مواصلة ضرب حماس ومنع المفاوضات، لأن حماس لم تتألم بما فيه الكفاية”.
أما باقي أنظمة “الاعتدال” العربي فلم يخرج عنها تصريحات رسمية تتحدث عن تحالف مع “إسرائيل”، فهذا لو صحَّ، سيكون محرقة لشعبيتها وسط جماهيرها. غير أن السلوك على الأرض كان يظهر بروداً سياسياً، وضعفاً إعلامياً في التعامل مع العدوان على قطاع غزة، ولم يتحسن هذا الوقف إلا مع تزايد سخونة الحرب وطول أمدها، وتزايد الضحايا والدمار، وتعاظم إبداعات المقاومة.
***
ولأن حماس قررت الوقوف إلى جانب الإرادة الشعبية للجماهير العربية، فقد وجدت نفسها تخسر قاعدة ارتكازها اللوجيستية الأساسية في سورية، وتدفع ثمناً كبيراً لخصومة النظام السوري معها، ولحالة البرود مع باقي “محور الممانعة”، وتحديداً حزب الله وإيران التي توقفت عملياً عن الدعم المالي للحكومة في قطاع غزة.
بدا الطرف الإيراني في وضع إقليمي مريح نسبياً قبيل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فقد وقع اتفاقاً بشأن برنامجه النووي مع القوى الكبرى. ودعم النظام السوري بحيث تمكن من البقاء، وأخذ زمام المبادرة، واسترجاع السيطرة على العديد من المناطق المهمة، كما أن حلفاءه الحوثيين حققوا تقدماً واسعاً في اليمن، بينما ظلَّ شريكه حزب الله الفاعل الرئيسي في السياسة اللبنانية، في الوقت الذي قامت فيه دول الخليج بتحسين علاقاتها مع إيران. وكان ما يزال اللاعب الأبرز في السياسة العراقية.
وبدا أن المنطق يشير إلى أن حماس ستضطر للجوء “للحضن الإيراني” بسبب الوضع الصعب الذي وجدت نفسها فيه في القطاع. غير أن هذا لم يحدث. وبالرغم من أن خيط العلاقة بين الطرفين لم ينقطع، إلا أن العلاقة شهدت بعض التحسن قُبيل الحرب مع زيارة وفد من حماس لإيران.
الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والصمود والإبداع والأداء البطولي لحماس ولقوى المقاومة، أسقط كل دعاوى وشكوك “محور المقاومة” تجاه حماس… وكشف أن المقاومة الفلسطينية حافظت على بوصلتها في مقاومة العدو… في الوقت الذي غرقت فيه إيران وحلفاؤها في المشاكل الداخلية للمنطقة، بينما كانت تتعرض لاتهامات قطاعات واسعة في العالم العربي أنها تستهلك إمكاناتها في قمع إرادة الشعب السوري.
تواصلت إيران وحزب الله مع حماس وأكدتا دعمهما لها في دفاعها عن قطاع غزة، غير أن هذا التواصل افتقد إلى الحرارة والسرعة التي كانت تميز مواقفها سابقاً. وتحمل الأيام القادمة إمكانية تسخين العلاقة بين الطرفين، بعد أن أثبتت حماس وقوى المقاومة الفلسطينية أنها الرافعة والقاطرة الحقيقية للمقاومة، وأنها مركز أي “محور مقاومة” حقيقي ينشأ في المنطقة، وبعد أن ظهرت مؤخراً آفاق مقلقة لإيران وحلفائها في سورية والعراق.
***
كشف الأداء البطولي للمقاومة في القطاع حقيقة التحالفات وتقاطعات المصالح، التي نشأت قُبيل العدوان الإسرائيلي. كما أنه حمل في الوقت نفسه فرصة لإعادة ترتيب الأوضاع الإقليمية، من خلال:
– إعادة الاعتبار لقوى المقاومة الفلسطينية ودورها الرئيسي في ترتيب البيت الفلسطيني والشراكة الحقيقية في إدارة المشروع الوطني الفلسطيني.
– إعادة الاعتبار للإسلام السياسي السني الوسطي المعتدل، وإعادة التفاف الجماهير العربية حوله، وإزالة وتنظيف كل ما فعله الإعلام الأسود من محاولات لتشويهه.
– إعادة تحجيم التيارات الإسلامية المتطرفة التي شوهت النموذج الإسلامي مع تغييب وملاحقة التارات الإسلامية المعتدلة.
– تراجع الحملات المسعورة لسحق التيارات الإسلامية، واضطرار العديد من الأنظمة لإعادة حساباتها، بعد فشل محاولاتها في هذا الإطار، وتزايد حدة الغضب الشعبي عليها بسبب تقصيرها أو تواطئها في العدوان.
– دخول الطرف الإسرائيلي في أزمة استراتيجية جديدة وتصاعد حالة القلق الداخلي بعد فشله في ضرب المقاومة ونزع سلاحها. ودخوله كذلك في أزمة سياسية داخلية بسبب فشل حكومة نتنياهو والجيش الإسرائيلي في أداء مهامهما.
ومع ذلك، فإن ما أنجزته المقاومة هو عامل “محفز” للتغيير في الأوضاع الإقليمية ولكسر الهجمة المرتدة ضدّ “الإسلام السياسي” وقوى المقاومة. ولكنه لم يتطور بعد ليكون عاملاً “حاسماً” في التغيير، ذلك لأن عملية التغيير الإقليمية تحركها عوامل عديدة ولاعبون كبار إقليميون ودوليون، غير أنه يبقى عنصراً مهماً في عملية “التدافع” وفي “صراع الإرادات” وعملية التشكل وإعادة التشكل التي تشهدها المنطقة.
أضف ردا