كلمة الأكاديميين والباحثين في الاحتفالية التي أقامها “مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات”، بمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيسه، قدمتها د. بيان نويهض الحوت (بيروت: 26/11/2014).
أيها الحفل الكريم،
في هذه الأيام التي نحياها من المستغرب أن يشعر المواطن العربي بفرح. غير أنني أشعر اليوم بفرح، لأننا نحتفل بالإنجازات العلمية الكبيرة التي استطاع أن يقدمها مركز علمي عربي واحد، في مدى عشر سنوات، كانت السنوات الأسوأ التي مرت على الأمة العربية في تاريخها المعاصر، باستثناء أيام النصر في عامي 2006 و2009، وأيام ثوراتٍ تراوحت بين انتصارات وانكسارات.
ولو سُئلت: ما هو الإنجاز الأكبر لمركز الزيتونة؟ لقلت: إنه في كيفية تصديه للعقبات والتحديات، بالمجابهة والبحث العلمي الدقيق والمتواصل.
وفي كل عام، يقدم هذا المركز هديته للباحثين والأكاديميين، وهي نتاجه الذي أصبح مصدراً لا بدّ منه للباحث في القضايا الفكرية والسياسية والمصيرية التي تمس حاضر الأمة ومستقبلها، وبشكل خاص، قضيتها الفلسطينية وصراعها مع العدو الصهيوني؛ أما هدية المركز الكبرى… فهي لا تُحمل باليد، ولا تُرى بالعين، بل تحيا في الوجدان، إنها الأمل الذي منحته هذه الزيتونة الوارفة الظلال لكل باحث وطالب علم، فبات يشعر بأنه ليس وحيداً، فهناك من يرعى الفكر والجهد والرأي.
واسمحوا لي —في هذا المجال— أن أخص بالذكر ثلاثة مراكز علمية معنية بالكتاب الفلسطيني، وثلاثة أكاديميين مؤرخين، لكل منهم أثر لا يُنسى في رعاية الأبحاث العلمية، وفي إصدار أفضل المراجع عن القضية الفلسطينية والصراع العربي – الصهيوني، وفي توزيع الكتاب عالمياً، وهؤلاء هم: البروفسور وليد الخالدي أمين سر مؤسسة الدراسات الفلسطينية منذ إنشائها، والدكتور أنيس صايغ، رحمه الله، مدير مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية، والدكتور محسن صالح المؤسس والمدير العام لمركز الزيتونة.
ومن المراكز العلمية أنتقل إلى الباحثين والأكاديميين، وإلى قضية تُعتبر من أبرز القضايا التي تعنيهم بشكل مباشر، وهي قضية توفير المصادر للباحثين وطلاب العلم في أي مكان كان. والسؤال: كيف؟
أخواتي وإخواني…
من عاش النكبة في صغره، ومن شاهد بعينيه كيف تعرض وطنه لأبشع أنواع الاستعمار الاستيطاني، يعرف جيداً أن العدوان الصهيوني على الأرض، وعلى البشر، وعلى الحجر، وعلى الشجر، تفوّق عليه عدوان لا يتحدث الناس عنه كثيراً، وهو العدوان على الكتاب والذاكرة والمكتبات الخاصة والعامة. وحتى يومنا هذا، ما زالت المكتبات التي استولى عليها الإسرائيليون، أيام النكبة، لم تًسترد بعد، وما زالت أمضى أسلحتنا في الصراع العربي – الصهيوني هي أسلحة الفكر والكتاب والكلمة.
لن أتطرق إلى الجهود التي انطلقت منذ الستينيات في القرن العشرين، في أكثر من عاصمة ومدينة عربية، لإنشاء المكتبات الفلسطينية، ولجمع الكتب النادرة والمخطوطات والوثائق والدوريات، وما زالت الجهود تُبذل. أما اليوم، فنحن نعيش في العصر الإلكتروني، في عصر يسود فيه الاعتقاد بأن المصادر لم تعد مشكلة لأي بحث كان، فشبكة الإنترنت تمد الباحث بالمصادر والمراجع. فهل هذا الاعتقاد وهم أم حقيقة؟
هو الاثنان معاً. هو حقيقة عندما تطرح جامعة كبرى أو يطرح مركز علمي مرموق مكتبته إلكترونياً، وقد يطرح مجموعة مكتبات، وللمثال موقع questia الذي يحتوي على أكثر من ثمانين ألف كتاب وأكثر من عشرة ملايين مقال؛ غير أن هذا الاعتقاد وهم حين يتوقع الزائر من “غوغل” أو غيرها المعجزات، فشبكة الإنترنيت، على الرغم من كونها أحدثت انطلاقة علمية عالمية هائلة، فهي في الواقع لا تعطينا إلا ما كان قد أعطي لها، ولذلك… فهي تحتوي على أخطاء، وفي الوقت نفسه تحتوي على موسوعات علمية بكاملها وعلى كتب نادرة، فما هي مواصفات الموقع الجديد الذي نبحث عنه؟ ومن هم أصحاب القرار؟ والجواب بإيجاز.
في اعتقادي أننا نحن “الأكاديميين والباحثين العرب” أصحاب القرار والمسؤولون عن إنشاء موقع على شبكة الإنترنيت، غايته تأمين المصادر والمراجع للباحث عن الصراع العربي – الصهيوني/ الإسرائيلي، وعن فلسطين وقضيتها، أولاً؛ ونحن علينا أن نتحمل المسؤولية في وضع هذا الموقع على سكة النجاح، ثانياً؛ وعلينا أيضاً تقع المسؤولية في المساهمة بتطوير الموقع نحو مؤسسة بحثية، ثالثاً.
أخواتي وإخواني،
أرجو أن تسمحوا لي —أخيراً— بدعوتكم للقيام بزيارة سريعة عبر الزمن، للمعلم الكبير، أفلاطون، وهو مُحاط بتلاميذه في ناحية من بستان جميل، يقع في ضواحي أثينا، زرعت فيه أشجار الزيتون، وقامت على جوانبه التماثيل والمعابد. هناك أنشأ أفلاطون مدرسته التي لم تُعرف باسمه يوماً، بل باسم صاحب البستان Academus، فعُرفت مدرسته باسم “الأكاديمية”.
منذ عهد تلك الأكاديمية الأولى تواصل العمل الأكاديمي مرتبطاً بالمكان وأهمية المكان، فأبرز الجامعات يُطلق عليها أسماء المدن والأماكن. أما بعد ولوج العالم عصر الإنترنيت، فبات الكثيرون يتصورون بأن المواقع على شبكة الإنترنيت تتفوق على مكتبات الجامعات أهميةً. أما الحقيقة فهي أن الكتاب في القرن الواحد والعشرين ينتشر ويُقرأ بقدر ما تتقن الشعوب تعاملها مع المصدرين: المكتبات الأكاديمية المتعارَف عليها، والمواقع على شبكة الإنترنيت.
وأختم بتقديم وافر الشكر لمركز الزيتونة، باسمي وباسم زملائي الأكاديميين والباحثين، مع أمنيتنا بأن يحتوي برنامج أعمال المركز للسنة القادمة، بإشراف الأخ الدكتور محسن صالح، على التواصل مع المؤسسات والمراكز العلمية والجامعات، بهدف التعاون على إنشاء الموقع الجديد المُرتجى، على شبكة الإنترنت. ولِم لا تكون شجرة الزيتون، هذه الزيتونة المباركة التي تعيش في فلسطين واليونان منذ آلاف السنين، شعاراً للموقع الجديد؟
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 1/12/2014
أضف ردا