بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
إذا كان صانع القرار الفلسطيني تحدوه الرغبة الحقيقية في التحرير والاستقلال فعليه أن يقف مليا أمام إشكالية الاعتماد على الآخر ماليا في إنجاح برنامجه الوطني وبناء مؤسساته.
ولأن العمل لفلسطين لن يوجد على كوكب آخر غير الأرض فإنه إن لم تكن لديه أرض يسيطر عليها فسيكون عرضة للضغط والابتزاز و”احترام أصول الضيافة” إذا وجد في بلدان خارج فلسطين، وإذا وجد تحت الاحتلال فسيكون عرضة لكل إجراءاته واشتراطاته، أما إذا أراد أن يسبح عكس التيار الإقليمي والدولي الحالي -كما في قطاع غزة- فإن الحصار والدمار والحروب تنتظره.
وفي كل الأحوال فإن مواجهة المشروع الصهيوني العالمي تتطلب إدارة تحالفات وعلاقات وتوفير بيئات داعمة، مع الحذر من الوقوع في مصيدة الخصوم والأعداء التي كثيرا ما تستخدم المال السياسي وسيلة لتطويع وحرف المسيرة وتشويهها وتعطيلها، وإذا كان من لا يملك طعامه لا يملك قراره فإن أولئك الذين يرهنون مصادر دخلهم أو بعضها بقوى وجهات تخالف أجنداتهم الوطنية يضعون في مهب الريح خططهم ومشاريعهم وأحلامهم.
وُجدت السلطة الفلسطينية منذ البداية في بيئة لا تمكنها من القيام على رجليها، سواء بسبب استمرار الاحتلال، أم بسبب طبيعة اتفاقات التسوية السلمية، أم بسبب حداثة سن السلطة، ولذلك أصبحت المساعدات والتمويل الخارجي مصدرين رئيسيين من المصادر التمويلية للسلطة.
غير أن هذا المال الذي يأتي معظمه من دول غربية على علاقة قوية بـ”إسرائيل” ولها رؤيتها الخاصة بمسار التسوية واستحقاقاتها هو مال مسيس يرتبط بأجندات هذه الدول -وعلى رأسها الولايات المتحدة الحليف الأكبر لـ”إسرائيل”- ولذلك استخدم هذا المال لضبط التزام السلطة بمسار التسوية وشروط الرباعية، وأصبح أحد معوقات الوحدة الوطنية الفلسطينية، كما استخدم جانب من هذا المال لتلبية الالتزامات الأمنية الفلسطينية تجاه الاحتلال الإسرائيلي.
حجم الظاهرة
تشير دراسة أعدها نصر عبد الكريم وباسم مكحول وصدرت عن معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) في سنة 2005، واستندت في بياناتها إلى معطيات وزارتي التخطيط والمالية أن السلطة الفلسطينية تلقت فعليا منحا ومساعدات بقيمة ثلاثة مليارات و495 مليون دولار في الفترة من 1994-2000، أي بمعدل سنوي مقداره 499 مليون دولار في تلك الفترة.
وإذا كان إيراد السلطة -من غير المساعدات الخارجية- مثلا سنة 1995 لم يتجاوز 226 مليون دولار، وكان نحو ثلاثمائة مليون سنة 1996، ونحو 327 مليونا سنة 1997 يتبين لنا أن المساعدات الخارجية كانت تزيد أحيانا عن الإيرادات الأخرى للسلطة.
وخلال الفترة من 2000-2013 بلغ مجموع المنح والمساعدات المقدمة للسلطة وفق إحصائيات سلطة النقد الفلسطينية 13 مليارا و931 مليون دولار. وإذا ما تم جمع كافة الإيرادات (إيرادات الجباية المحلية والمقاصة مع الإيرادات الخارجية) للفترة من 2000-2013 والبالغة 33 مليارا و583 مليون دولار فإن نسبة إيرادات المنح والمساعدات إلى باقي الإيرادات ستكون 41.5% وبمعدل سنوي مقداره 995 مليون دولار.
أما نسبة إيرادات المقاصة -وهي الأموال التي يجبيها الاحتلال الإسرائيلي لصالح السلطة- إلى باقي الإيرادات فستكون 37.6% بمعدل سنوي مقداره 903 ملايين دولار، وهذا يعني باختصار أن 79% من الإيرادات الكلية للسلطة خلال الفترة من 2000-2013 كانت مرتهنة أو مرتبطة بالعدو الإسرائيلي أو بالدول المانحة.
هيمنة غربية
وحسب البيانات التي جمعها نصر عبد الكريم وباسم مكحول من التقارير الصادرة عن وزارتي التخطيط والمالية، فإن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية قدمت القسط الأكبر من المساعدات والمنح خلال الفترة من 1994-2003 بما مجموعه أربعة مليارات و283 مليون دولار، وبنسبة 65.4%، بينما قدمت الدول العربية مجتمعة مليارا و203 ملايين دولار بنسبة 18.4%، وقدمت اليابان 482 مليون دولار بنسبة 7.4%، والمؤسسات الدولية 435 مليون دولار بنسبة 6.6%، وتصدرت الولايات المتحدة -كبلد منفرد- قائمة الدول المانحة بما مجموعه مليار و28 مليون دولار وبنسبة 15.7%.
وفي الفترة من 2007-2013 تابع الاتحاد الأوروبي -من خلال الآلية الفلسطينية الأوروبية- والولايات المتحدة دورهما الحاسم والحيوي في دعم ميزانية السلطة، فقدمت الآلية الفلسطينية الأوروبية مليارين و702 مليون دولار أي بنسبة 33.3% من مجمل الدعم الدولي (وما يساوي مجموع الدعم العربي تقريبا)، وقدمت الولايات المتحدة دعما للميزانية في الفترة نفسها مقداره مليار و204 مليون دولار أي بنسبة 14.8% من مجمل الدعم الدولي.
وكانت الولايات المتحدة قد خفضت مساعداتها لميزانية السلطة في سنتي 2011 و2012 إلى 51.7 مليون دولار، وصفر على التوالي بالترافق مع تعطل مسار التسوية السلمية، ثم قفزت مساعداتها إلى 349 مليون دولار سنة 2013 مع إعادة انطلاق مسار التسوية في صيف تلك السنة. وقدم البنك الدولي مساعدات بقيمة مليار و374 مليون دولار بنسبة 16.9% من الدعم الدولي.
وهذا يعني أن الدعم الغربي والمؤسسات -التي يهيمن عليها البنك الدولي- ظلا اللاعب الرئيسي في الدعم الخارجي القادم للسلطة برام الله.
الدعم العربي
من الواضح أن إسهام الدول العربية كان ضئيلا في الفترة من 1994-2000 التي سبقت انتفاضة الأقصى، إذ قدمت ما مجموعه ثلاثمائة مليون دولار من أصل ثلاثة مليارات و495 مليون دولار تم التبرع بها، وبنسبة 8.6% فقط من مجمل المساعدات، وهو ما يشير إلى الدور الهامشي للبلاد العربية في إنشاء السلطة ودفع عجلتها الاقتصادية في سنواتها الأولى.
ويمكن ملاحظة أن المساعدات العربية تضاعفت في الفترة التي شهدت تصاعد انتفاضة الأقصى، لتسهم في دعم السلطة ودعم صمود الشعب الفلسطيني، فقفزت المساعدات إلى 903 ملايين دولار في الفترة من 2001-2003 وبنسبة 29.5% من مجمل المساعدات.
وتشير الإحصائيات إلى أن الدول العربية قدمت دعما لميزانية السلطة في رام الله مقداره ملياران و529 مليون دولار في الفترة من 2007-2013، بمعدل سنوي مقداره 361 مليون دولار، وهو ما يمثل 31.1% من الدعم الدولي الذي وصل لميزانية السلطة، أما باقي الدول والجهات المانحة فقدمت في الفترة نفسها دعما مقداره خمسة مليارات و593 مليون دولار بمعدل سنوي مقداره 799 مليون دولار، وهو ما يمثل 68.9% من الدعم الإجمالي.
وقد تصدرت السعودية التمويل العربي لميزانية السلطة في رام الله في الفترة من 2007-2013 بما مجموعه مليار و293 مليون دولار أي نحو 51.1% من مجمل الدعم العربي ونحو 15.9% من الدعم الدولي، وحلت الإمارات في المرتبة الثانية بما مجموعه 637 مليون دولار، أي بنحو 25.2% من مجمل الدعم العربي، وحلت الجزائر ثالثة بنحو 10.8% من الدعم العربي، تلتها قطر بنحو 6.3% من الدعم العربي.
أي أن أربع دول عربية اشتركت في تغطية 93.4% من المساعدات العربية المقدمة لدعم ميزانية السلطة، بينما شاركت العراق والكويت ومصر وعُمان في تمويل الـ6.6% المتبقية، مع ملاحظة أن السعودية والإمارات وحدهما غطتا أكثر من ثلاثة أرباع هذه المساعدات، وهو ما يؤكد دور خط “الاعتدال” العربي في دعم السلطة برام الله في دعم مسار التسوية السلمية.
مال سياسي
شكل فوز حماس في الانتخابات سنة 2006 نموذجا واضحا لإشكالية المال السياسي الذي يقدمه المانحون للسلطة الفلسطينية، فقد وجدنا أنفسنا فجأة أمام حالتي “ابن الأميرة” وحالة “ابن الجارية”، فقد توقف الدعم المالي المباشر الذي يصل للحكومة، كما توقف تحويل أموال المقاصة التي تجبيها “إسرائيل”، وتعرضت الحكومة الفائزة بثقة المجلس التشريعي لمحاولات إفشال وإسقاط وحصار مكشوفة، لأنها لا تتوافق مع المعايير الموضوعة غربيا وإسرائيليا لمسار التسوية السلمية.
وحتى يتم الالتفاف على حكومة إسماعيل هنية، فقد قام الاتحاد الأوروبي في سنة 2006 بإيجاد آلية بديلة بحيث يتم إيصال منحه ومساعداته بشكل مباشر، ودون المرور بقنوات حكومة السلطة الفلسطينية التي تقودها حماس، ولتحقيق ذلك أسس ما تسمى الآلية الدولية المؤقتة أو الآلية الفلسطينية الأوروبية (PEGASE).
ولأن العالم الغربي -وتحديدا الولايات المتحدة- يسيطر على نظام التحويلات المالية، ولأن معظم هذه الدول قررت فرض حصار على حكومة إسماعيل هنية فإن التحويلات المالية الأخرى أصبحت تمر عن طريق مؤسسة الرئاسة الفلسطينية، أو بطرق لا تتحدى الحظر الأميركي الغربي أو تتهرب منه.
وبعد أن سيطرت فتح على السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وسيطرت حماس على قطاع غزة في منتصف سنة 2007 دفعت القوى المؤيدة لمسار التسوية السلمية باتجاه دعم الحكومة التي عينتها قيادة فتح في الضفة الغربية، كما دفعت باتجاه استمرار حصار حكومة تسيير الأعمال التي تقودها حماس في القطاع.
وقد تلا مؤتمر أنابوليس الذي عقد في 27/11/2007 لدفع مسار التسوية مؤتمر آخر عقد في باريس هو “مؤتمر المانحين لقيام الدولة الفلسطينية” في 17/12/2007 بمشاركة 87 دولة وهيئة دولية، حيث تعهدت الدول والهيئات المانحة بتقديم مساعدات لحكومة سلام فياض في رام الله بقيمة 7.4 مليارات دولار على مدى ثلاث سنوات.
كان مؤتمر المانحين مثالا واضحا على دور “المال السياسي” في دعم طرف فلسطيني على حساب طرف آخر، وفي دعم مسار فلسطيني على حساب مسار آخر، وفي دعم “شرعية” رئاسة السلطة الفلسطينية على “شرعية” المجلس التشريعي للسلطة، وفي تفعيل دور الرئاسة والحكومة التي عينها الرئيس، وفي تعطيل دور السلطة التشريعية والحكومة التي يمكن أن تنبثق عنها.
وقد عبر مشهد “المال السياسي” عن نفسه بقوة مرة أخرى إثر تشكيل حكومة الوفاق الوطني في مطلع حزيران/يونيو 2014 عندما رفضت هذه الحكومة صرف رواتب موظفي قطاع غزة الذين عينتهم حكومة تسيير الأعمال بقيادة إسماعيل هنية، والذين حملوا على أكتافهم أعباء إدارة القطاع وحمايته لسبع سنوات، بحجة أن الحكومة في رام الله التي تسيطر عليها فتح لم تعينهم، أو بحجة أن المانحين ومقدمي المساعدات و”إسرائيل” سيعترضون على ذلك.
وفي الوقت نفسه، استمرت هذه الحكومة بتقديم الرواتب لعشرات الآلاف من الموظفين ممن انقطعوا عن أعمالهم منذ صيف 2007، وممن حافظوا على ولائهم للسلطة في رام الله.
المال السياسي وغير البريء وجد طريقه أيضا إلى مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني من خلال محاولة إفساد الطبقة المثقفة، وإعادة ترتيب أولوياتها واهتماماتها وفق احتياجات الممولين وأصحاب المنح، ومن خلال توفير مبالغ كبيرة تهيئ مستوى معيشيا عاليا لهؤلاء، ليتم تنفيس الحالات الثورية وتهميش دعاتها، وتعزيز ونشر الحالات التي تتكيف مع متطلبات “الرفاهية تحت الاحتلال” أو مسار التسوية.
يخطئ صانع القرار الفلسطيني إن ظن أنه سيحقق يوما وحدة وطنية وبناء تمثيليا شاملا، ومؤسسات فاعلة، ويحرر الأرض والمقدسات ويبني اقتصادا إنتاجيا، ويبقى في الوقت نفسه مستمتعا بتدفق المنح والمساعدات الأميركية والغربية.
وعليه، فإن جانبا أساسيا من استقلال القرار الفلسطيني مرتبط أساسا باستغنائه عن هكذا مساعدات، وبالبحث عن وسائل دعم وصمود بديلة تعزز قوته ومناعته وتدفعه للعمل في أجواء نضالية صحية، وليس بالاضطرار لدفع أثمان على حساب حقوقه وعزته وكرامته، ومشروعه في التحرير والاستقلال.
أضف ردا