بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
منذ سنة 2006 يصدر عن معهد لودر التابع لجامعة بنسلفانيا الأميركية تصنيف سنوي لمراكز التفكير (Think Tanks). وهو تصنيف يحاول أن يحدد أفضل مراكز التفكير على مستوى العالم، أو على مستوى مناطق محددة مثل أميركا الشمالية وأوروبا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط… كما يقدم تصنيفاً لأفضل مراكز التفكير في تخصصات محددة، كالأمن القومي والاقتصاد والتعليم والطاقة والسياسة الخارجية والتكنولوجيا… وغيرها.
وفي أواخر شهر يناير/كانون الثاني 2015 صدر أحدث تصنيف عالمي لمراكز التفكير عن سنة 2014؛ وشملت الدراسة التي خرج عنها التصنيف 6,618 مركزاً مسجلاً لدى “برنامج مراكز التفكير والمجتمعات المدنية” (TTCSP).
ومراكز التفكير هي مؤسسات تهتم بأبحاث السياسات العامة وتحليلها، وتوفر المعلومات، وتقدمها بطريقة مفهومة وموثوقة، وتستقرئ المسارات المستقبلية المحتملة؛ وبالتالي تقوم بتقديم النصح والمشورة محلياً وعالمياً، لتعين صانع القرار في الجهات الرسمية وغير الرسمية (مؤسسات، شركات، أحزاب…) في اتخاذ القرارات المناسبة. (انظر لمزيد من التفصيل حول مراكز التفكير ودورها، التقرير الصادر عن معهد لودر حول هذه المراكز لسنة 2014، ص 42-6).
ومن خلال اطلاعنا على نتائج التصنيف لسنة 2014 يمكن تسجيل بعض النقاط والملاحظات:
أولاً: تستحوذ مراكز التفكير في أميركا الشمالية وأوروبا على نحو 60% من عدد مراكز التفكير في العالم. فهناك 1,989 مركزاً في أميركا الشمالية، و1,822 مركزاً في أوروبا. غير أن عدد مراكز التفكير في الولايات المتحدة وحدها هو 1,830 مركزاً. كما أنه من الملاحظ أن أكثر من نصف مراكز التفكير هذه تتبع الجامعات في هذه البلدان. ومن الملاحظ أيضاً أن نحو رُبْع المراكز (حوالي 400 مركز) في الولايات المتحدة تتخذ من واشنطن العاصمة مقراً لها.
وهذا يعني أن مراكز التفكير تحظى بمكانة متقدمة في العالم الغربي قياساً بباقي مناطق العالم. كما يُعبِّر وجود نحو 28% من مجموع مراكز التفكير في العالم بالولايات المتحدة وحدها عن الدور الحيوي الذي تلعبه -أو تسعى للعبه- هذه المراكز في صناعة السياسات والقرارات لكبرى القوى العالمية.
ثانياً: مقارنة بالولايات المتحدة، تأتي الصين في المرتبة الثانية بـ429 مركزاً، وبريطانيا ثالثة بـ287 مركزاً، وألمانيا رابعة بـ194 مركزاً، والهند سادسة بـ192 مركزاً. ثم تأتي على التوالي كل من فرنسا والأرجنتين وروسيا واليابان وكندا. وهذا يعني أن الدول الكبرى والاقتصادات الكبرى تحظى بأعلى أعداد مراكز تفكير.
أما في منطقة الشرق الأوسط (مع تحفظاتنا على استخدام هذا المصطلح) وشمال أفريقيا التي يوجد فيها 521 مركز تفكير؛ فنجد أن مصر تحظى بالمرتبة 17 عالمياً بـ57 مركزاً، يليها الكيان الصهيوني “إسرائيل” بـ56 مركزاً. أما إيران فلديها 34 مركزاً، ولتركيا 31 مركزاً.
غير أن العدد هو مجرد مؤشر واحد من مجموعة مؤشرات على دور مراكز التفكير وتأثيرها؛ فتأثير مراكز التفكير على صانع القرار وعلى الحياة العامة، وجدية ونوعية الدراسات والاستشارات التي تقدمها، وأجواء الحرية التي تتمتع بها، وجهات التمويل التي تقف وراءها، والأجندات الوطنية أو الخارجية التي تتبناها، وقدرتها على الاستفادة من الأدمغة والعقول والخبراء في التخصصات المختلفة، وعلى تقديم حلول للمشاكل الحقيقية التي تعاني منها بلدانها…، كلها مؤشرات يجب أن توضع في الاعتبار عند تقييم أداء هذه المراكز.
ثالثاً: حسب نتائج التصنيف الذي أعلنه معهد لودر، فإن الولايات المتحدة تتصدر قائمة أفضل مراكز التفكير في العالم لسنة 2014، حيث يحتل معهد بروكينغز (Brookings Institute) المرتبة الأولى عالمياً، وتحتل المراكز الأميركية ستا من المراتب العشر الأولى، وإحدى عشرة من المراكز الخمسين الأولى. ويقف إلى جانب بروكينغز من الولايات المتحدة مركز كارنيجي ثالثاً، ومركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) رابعاً، وراند سابعاً، ومجلس العلاقات الخارجية (CFR) ثامناً، ومركز وودرو ويلسون عاشراً.
أما بريطانيا فتقف منافساً قوياً للولايات المتحدة بمركزين ضمن العشرة الأوائل هما شاتام هاوس (House Chatham) ثانياً، والمعهد العالمي للدراسات الإستراتيجية (IISS) تاسعاً. ولبريطانيا ثمانية مراكز ضمن الخمسين الأولى. ولا نكاد نجد منافساً لأميركا وبريطانيا في قائمة الخمسين الأولى إلا من ألمانيا (ستة مراكز) وبلجيكا والصين (أربعة مراكز لكل منهما)؛ أما اليابان وكندا وروسيا وكوريا الجنوبية فحظيت بمركزين لكل منها.
وفي المنطقة العربية والإسلامية لا نجد في قائمة الخمسين الأولى إلا اسماً واحداً لمركز أميركي يتخذ من لبنان مقرا له، هو كارنيجي الشرق الأوسط الذي جاء في المرتبة الـ37.
أما مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية -وهو مركز مصري- فإنه يقع في المائة الأولى، وحصل على المرتبة الـ51. ويوجد في المائة الأولى إلى جانبه مركزان تركيان (المرتبتان 74 و87)، ومركز إندونيسي (المرتبة 69) ومركز ماليزي (المرتبة 90) ومركز بنغلاديشي (المرتبة 97). وبغض النظر عن الملاحظات المنهجية والعلمية التي يمكن أن تؤخذ على هذا التصنيف، فإنه يعطي انطباعاً عاماً بضعف أداء وتأثير مراكز التفكير في عالمنا العربي والإسلامي.
رابعاً: يتمتع الكثير من مراكز التفكير العالمية بوضع متين ومستقر ومغرٍ مالياً. وتتلقى دعماً واسعاً من جهات رسمية وخيرية وشركات ولوبيات ضغط وأصحاب نفوذ وأحزاب… و”فاعلي خير”. أي أن ثمة إدراكاً رسمياً وغير رسمي لدور مراكز التفكير وتأثيرها، وثمة محاولات للاستفادة منها أو لتوظيفها بما يخدم برامج الجهات المانحة.
وتشير إحدى الدراسات حول أعلى أو أفضل عشرين مركز تفكير أميركياً إلى أن معدل الميزانية السنوية للمركز الواحد هو 29 مليون دولار حسب إحصائيات 2011؛ وأن مركز راند لديه ميزانية سنوية بـ263 مليون دولار وأكثر من ألفي موظف، يليه مركز بروكينغز بميزانية سنوية بنحو تسعين مليون دولار ونحو 530 موظفاً.
وتشير الدراسة إلى أن متوسط معدل قيمة الممتلكات (الاستثمار المالي والممتلكات الموقوفة) هو 67 مليون دولار لكل مركز. مع ملاحظة أن قيمة ممتلكات مركز بروكينغز هي 299 مليون دولار، وكارنيجي 253 مليون دولار. ولاحظت الدراسة أن نسبة عالية من موظفي وباحثي هذه المراكز تزيد رواتبها على مائة ألف دولار سنوياً.
خامساً: حسب نتائج التصنيف العالمي في سنة 2014 لمراكز التفكير بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (الدول العربية وإيران وتركيا وقبرص والكيان الإسرائيلي)، فإن فروعا لمراكز أميركية تحتل ثلاثة مواقع متقدمة، وعلى رأسها كارنيجي الشرق الأوسط الذي حصل على المرتبة الأولى، وبروكينغز الدوحة في المرتبة الثالثة، وراند قطر في المرتبة الـ15.
ويعطي هذا التصنيف الكيان الإسرائيلي موقعاً متقدماً بوجود 12 مركزاً يتبعه ضمن الـ55 مركزاً الأولى، من بينها المركز الخامس لمعهد دراسات الأمن القومي (INSS)، والمركز التاسع لمركز بيغين/السادات للدراسات الإستراتيجية.
ويعطي التصنيف لمصر عشرة مراكز ضمن الـ55 الأولى، ولتركيا خمسة مراكز، ولكل من المغرب ولبنان أربعة مراكز، ولكل من الإمارات وقطر والأردن والكويت ثلاثة مراكز. وقد حظي مركز الأهرام بالمرتبة الثانية في هذه المنطقة، وحظي مركز الجزيرة للدراسات (قطر) بالمرتبة السادسة، ومركز دراسات الخليج (السعودية) على المرتبة الثامنة، ومركز الدراسات الإستراتيجية (الأردن) على المرتبة العاشرة.
وفيما يتعلق بالتصنيف للشرق الأوسط يجب تسجيل بعض الملاحظات:
الأولى هي الحضور الإسرائيلي القوي في هذا التصنيف؛ وهو يعود في جانب منه إلى الاعتراف الرسمي والمؤسسي والعلمي الإسرائيلي بدور مراكز التفكير، التي تلعب دوراً مشابهاً لما تلعبه المراكز في أميركا وأوروبا.
والثانية الحضور المتفوِّق لمراكز دراسات أميركية لها فروع في المنطقة العربية (بروكينغز وكارنيجي وراند).
والثالثة أن هذه النتائج ربما عكست حالة الضعف وغياب الدور الذي تعاني منه مراكز التفكير العربية والإسلامية. كما تعكس حالة التخلف التي تعيشها أمتنا؛ فهناك الكثير من المراكز في منطقتنا هي من قبيل الديكور والوجاهة لدى بعض الأنظمة. وهي لا تستطيع أن تتنفس إلا تحت سقف النظام وقبضته الغليظة.
وهناك مراكز لا تعدو كونها مكاتب علاقات عامة، وواجهات لوزراء وعسكريين كبار متقاعدين لدواعي الظهور في المنتديات ووسائل الإعلام، أو واجهات لجهات خارجية. أما تلك المراكز الحرة الجادة فهي إن سلمت من أساليب التضييق المختلفة، فلن تجد في أغلب الأحيان آذاناً صاغية من الأنظمة الرسمية التي تعيش تحت سلطتها.
والرابعة أنه في المقابل فإن هناك إشكالية مرتبطة بطريقة التصنيف التي تقتصر على تلك المراكز المسجلة في القائمة التي جمعها مركز لودر، والتي تمت مراسلتها للمشاركة في “مسابقة” التصنيف. ولا يبدو مثلاً أن أحد أكثر المراكز العربية قوة ونشاطاً وفاعلية وهو “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” (في قطر) حاضر أصلاً في التصنيف. كما لم تُدعَ مراكز فاعلة مثل “مركز الزيتونة” في بيروت للمشاركة في التصنيف…، وهو ما قد يؤثِّر في دقة التصنيف ومصداقيته.
والخامسة أننا لا نعلم على وجه الدقة من هم الذين قاموا بعملية التصنيف فيما يتعلق بالشرق الأوسط؟ وما مدى اطلاعهم الدقيق على أنشطة المراكز وتأثيرها في مجتمعاتها ومجالات تخصصها؟ وحتى مدى فهم المُحكِّمين للغة العربية أو التركية أو الفارسية التي يتحدث بها أهل المنطقة؟ وما هو حجم أنصار “إسرائيل” ضمن المجموعة المختارة للتصنيف؟ وهل لدى المُصنِّفين مواقف سياسية مسبقة تجاه قضايا حساسة كالموقف من دعم الكيان الصهيوني، ومن الصراع العربي الإسرائيلي، ومن الإسلام السياسي، ومن الثورات والتغيرات في العالم العربي…، بحيث توضع بعض المراكز في خانة “المغضوب عليهم” أو في خانة “التطرف”… وغيرها.
والسادسة أننا غير متأكدين من أن هذا التصنيف يعتمد في التقييم على الدور والفعالية والتأثير لهذه المراكز على صانع القرار والمهتمين في العالم الغربي، أم على صانع القرار والمهتمين في المنطقة العربية والإسلامية.
وبعبارة أخرى؛ فإن عدداً من المراكز التي أخذت تصنيفاً متقدماً لا تكاد تجد لنفسها قراء ومتابعين ومهتمين في منطقتنا العربية والإسلامية، بقدر ما تجد من مهتمين غربيين يقرؤون نسختها الإنجليزية.
وبالتالي فإن هذا التصنيف يجد مصداقية أكبر من خلال حضوره في المجلات العلمية ووسائل الإعلام الغربية، أكثر مما يجد مجاله في الوسط الأكاديمي والإعلامي العربي. فمثلاً نلاحظ أن حضور وتأثير مراكز الأهرام والجزيرة والعربي للأبحاث… هو أضعاف مضاعفة لحضور وتأثير مركز كارنيجي الشرق الأوسط الذي حصل على التصنيف الأول.
وسابعاً فإن الرسالة السلبية التي قد يفهمها البعض -والتي يحملها هذا التصنيف (بغض النظر عن نيات أصحابه)- هي أنه يقول لنا إنه ما دامت المراكز الأولى عندكم هي مراكز أميركية، وما دام التصنيف الأفضل لبلدان المنطقة هو للجانب الإسرائيلي، “فلا تتعبوا أنفسكم في التفكير، فنحن نفكِّر عنكم”!!
أما الرسالة الإيجابية التي يمكن استنتاجها فهي أن منطقتنا العربية والإسلامية تحتاج حاجة ماسة إلى مراكز تفكير علمية جادة، تعمل في بيئة حرة، وتكون لها أجندات وطنية وعربية وإسلامية حقيقية، ولا تصب في خانة الدراسات والتوصيات التي تسوّق القوالب والوصفات الأجنبية الجاهزة، ولا تقدِّم الوصفات التي تدعم أنظمة الفساد والاستبداد، وطرق بقائها وقمع شعوبها.
أضف ردا