الصفحات الأولى من “دراسة علميّة: البرنامج النووي الإيراني بين إشكاليات الواقع واحتمالات المستقبل … أ.د.عطا محمد زهرة” (نسخة نصيّة HTML)
النص المعروض هو للصفحات الأولى من الدراسة العلميّة … للاطلاع على الدراسة كاملةً اضغط هنا (80 صفحة، 1.7 MB)
دراسة علميّة: البرنامج النووي الإيراني بين إشكاليات الواقع واحتمالات المستقبل … أ.د.عطا محمد زهرة* [1]
تمهيد:
لم يثرِ أي ملف دولي في السنوات القليلة الماضية جدلاً كالذي أثاره الملف النووي الإيراني، فقد كان الشغل الشاغل للباحثين ومراكز الأبحاث وأجهزة الاستخبارات، والمنظمات المعنية باستخدامات الطاقة النووية، لأكثر من عشر سنوات. وذلك بعد التحول في موقف الدول الغربية من البرنامج النووي الإيراني وخصوصاً الولايات المتحدة، لقد كانت الأخيرة الراعية والمشجعة للشاه محمد رضا بهلوي في هذا المجال في إطار ما عرف بـ”الذرة من أجل السلام”، لكنها أصبحت المناوئة بقوة لآية الله علي خامنئي، لا سيّما مع الحديث عن مخاطر هذا البرنامج على الأمن والسلام الدوليين.
وظهر الكثير من الدراسات حول هذا البرنامج، ونشط المحللون في عرض تصوراتهم بخصوصه وخصوصاً خلال الشهور الأخيرة من سنة 2013، التي شهدت مفاوضات ماراثونية بين إيران ومجموعة 5+1 أو P5+1، والتي انتهت بالتوصل إلى اتفاق مبدئي في جنيف، قضى بتعليق العمل في هذا البرنامج مقابل وقف جزئي للعقوبات المفروضة على إيران، الأمر الذي دعا البعض إلى توقع القضاء على المشروع النووي الإيراني بصورة نهائية. فهل يمكن القول بأن ذلك الاتفاق كان فعلاً بداية الطريق نحو نهاية الطموح الإيراني؟
إن الإجابة عن هذا التساؤل تقتضي تناول هذا الموضوع في خمس نقاط رئيسية، نلقي في الأولى نظرة سريعة على الطموحات والدوافع الإيرانية المرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني، ونتتبع في الثانية مسيرة هذا البرنامج، ونتعرف في الثالثة على تداعياته وتطوراته، ونتعرف في الرابعة على جوانب الخيار الدبلوماسي في التعامل معه، ونصل في الخامسة إلى ما يمكن تصوره فيما يتعلق بمستقبله.
أولاً: الطموحات والدوافع:
كتب الكثير حول طبيعة البرنامج النووي الإيراني، ومع ذلك يمكن القول بأنه ليس هناك اتفاق حول هذا الجانب. ويلاحظ عموماً وجود ثلاثة اتجاهات واضحة؛ الأول يقر بأن هذا البرنامج سلمي تماماً، بينما يصر الثاني على أنه ذو طبيعة عسكرية، أما الثالث فإنه يقف حائراً متردداً بين الاتجاهين السابقين.
ولا بدّ من الاعتراف بأنه ليس من السهل تحديد طبيعة هذا البرنامج بمجرد الانحياز إلى واحد من هذه الاتجاهات، لا سيّما وأن إيران تحيط برنامجها بكثير من الغموض والتعتيم على غرار ما فعلت بعض الدول مثل باكستان والهند و”إسرائيل” ، ثم إن التحليل الموضوعي يقتضي بدايةً دراسة مجموعة المتغيرات المرتبطة به، فهي وحدها التي تسمح بذلك.
وباستعراض المتغيرات المختلفة ذات الصلة، يمكن حصرها في مجموعتين تتعلق الأولى بطموحات القيادات الإيرانية فيما يتصل بالطاقة النووية، سواء في العهد الملكي أم العهد الجمهوري، وترتبط الثانية بطبيعة الدوافع التي تقف خلف إقامة البرنامج النووي في هذين العهدين المختلفين.
والمتغيرات في هاتين المجموعتين تتفاعل مع بعضها البعض، ولا يكفي الاقتصار في هذا المجال على دراسة واحد أو اثنين منها فقط، فالنظرة الموضوعية تقتضي التعرف على متغيرات كل مجموعة على حدة.
1. طموحات القيادات الإيرانية:
تلتقي القيادة السياسية الإيرانية، بغض النظر عن منطلقاتها الفكرية، حول نوعين من التطلعات يدوران بصفة عامة حول حلم امتلاك القدرة النووية من جهة، وتطوير الطاقة النووية السلمية من جهة ثانية.
أ. حلم امتلاك القدرة النووية:
لقد راود حلم امتلاك قدرة نووية القادة الإيرانيين منذ أيام الشاه في منتصف القرن العشرين، لا سيّما مع وجود ثروة بترولية تسمح بتمويل المشروع النووي، وفي ظلّ التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية، والدور الذي اضطلعت به إيران كشرطي في وجه النفوذ السوفييتي أيام الحرب الباردة .
ولم يؤثر في ذلك التوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية سنة 1968، إذ إنها أعطت إيران، وفقاً للمادة الرابعة، حقّ إنتاج واستعمال وتطوير الطاقة النووية للأغراض السلمية، وامتلاك المواد والأجهزة والمعلومات التكنولوجية المتعلقة بها.
وعبّر الشاه عن هذا التوجه سنة 1974 عندما قال “نحن من بين أولئك الذين لا يمتلكون أسلحة نووية، ولذلك فإن الصداقة لدولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية مع ما تمتلكه من ترسانة نووية مسألة حيوية جداً”. ولكي يكون هذا الاستنتاج مبنياً على حقائق واضحة نذكر ما قاله أكبر اعتماد، أول رئيس لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية (AEOI) The Atomic Energy Organization of Iran آنذاك: “ٕان مركز بحوث طهران النووي أجرى تجارب على البلوتونيوم Plutonium المنتزع من الوقود المستهلك باستخدام عوامل كيماوية” . ومن المعروف أن مثل هذه التجارب تدخل في باب الاتجاه نحو صناعة السلاح النووي.
ب. تطوير الطاقة النووية السلمية:
أعلن القادة الإيرانيون في أوائل التسعينيات، أي في أعقاب استئناف العمل بالبرنامج النووي، أنهم يسعون إلى تحقيق إنجازات سلمية بالكامل، وأن اهتمامهم بالتكنولوجيا النووية لا يخرج عن ذلك. وأكدوا مراراً أن تطوير الطاقة النووية بإتقان دورة الوقود النووي، يدخل ضمن حرص إيران على أن تصبح في المستقبل مزوداً للدول الأخرى بالوقود النووي .
وظلوا يصرّون على ذلك، فقد أشارت تصريحاتهم، وما تزال، إلى أن برنامجهم يرمي إلى توفير الطاقة السلمية التي تحتاجها البلاد في مختلف المجالات وخصوصاً في مجالات الكهرباء والصحة والاقتصاد .
ففي أيار/ مايو سنة 1995 أعلن الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رافسنجاني بأن بلاده لا تملك سلاحاً نووياً ولا تسعى للحصول عليه . وفي نيسان/ أبريل 2006، أي بعد عشر سنوات، أعلن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أن إيران انضمت إلى مجموعة الدول التي تمتلك التقنية النووية وأنها مُصممة على الوصول إلى المستوى الصناعي في تخصيب اليوارنيوم .
إن القادة الإيرانيين يرددون دائماً: بأنهم يريدون استخدام التكنولوجيا النووية وما يرتبط بها من علم قيّم لمصلحة الشعب الإيراني، وأنهم سيقومون بذلك دون تراجع مهما كلف الثمن .
2. الدوافع النووية الإيرانية:
علينا أن نسارع إلى القول بأن التحديد الموضوعي لطبيعة الدوافع الإيرانية من وراء البرنامج النووي لا بدّ أن يستند إلى ملاحظة الفرق الجوهري بين الاعتماد على تقديرات واضحة ومعلنة للقيادة الإيرانية نفسها، والاعتماد على تحليلات الباحثين لمعطيات معينة تبدو وكأنها تحكم قرارات تلك القيادة وحركتها في كل الأحوال.
وعموماً يشير أكثر من باحث إلى مجموعة من الدوافع تتشابك وتتفاعل مع بعضها البعض، وهي في الحقيقة على درجة كبيرة من الأهمية، لا سيّما وأنها تقف خلف السياسة النووية الإيرانية، لعل من أهمها خمسة دوافع هي: تدعيم الاقتصاد الوطني، والإسهام في النهضة العلمية الإيرانية، والإسهام في حماية النظام الجمهوري، ومواجهة التحديات الخارجية، وأخيراً تعزيز مكانة إيران الدولية.
أ. تدعيم الاقتصاد الوطني:
لا شكّ أن تدعيم الاقتصاد الوطني الإيراني مسألة على درجة كبيرة من الأهمية، وهي ذات بعد استراتيجي، تفرضها مواطن الضعف في هذا الاقتصاد. فأي قراءة في هذا الخصوص لا بدّ أن تشير بوضوح إلى أمرين أساسيين: الاختلال الهيكلي من جهة، والطبيعة الخاصة لهذا الاقتصاد من جهة أخرى.
يظهر الأمر الأول من خلال عدم تساوي قطاعات الاقتصاد في الإسهام في الناتج المحلي الإجمالي، وبشكل يتناقض مع ما هو معروف في الاقتصادات المتقدمة. فقطاع الزراعة لا يسهم بأكثر من 11.6% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما يحظى قطاع الخدمات بنصيب الأسد حيث يسهم بنسبة 50%، أما قطاع الصناعة فيسهم بنسبة 38.4%، ولكن هذه النسبة تفقد دلالتها الحقيقية إذا عرفنا أن إسهام الصناعات التحويلية لا تتجاوز 11.2% من الناتج المحلي، أما باقي النسبة فهي ناتجة عن الصناعات الناجمة بصورة أساسية عن استخراج النفط .
ويبدو الأمر الثاني في الطبيعة الريعية للاقتصاد الإيراني، فبالرغم من أنه متنوع حيث يضم النفط ومشتقاته، والغاز، والفواكه، والمكسرات، والمنسوجات، والسجاد وغيرها، إلا أن الجزء الأكبر من الصادرات هي من السلعتين الأولى والثانية. فقطاع النفط والغاز يسهم بنحو 30% من الناتج المحلي الإجمالي، ويقدم ما بين 80–85% من مجموع الصادرات الإيرانية. وتحتل إيران عالمياً المرتبة الثانية من حيث احتياطي الغاز والمرتبة الثالثة من احتياطي النفط .
ثم إن المشكلة الحقيقية تكمن في حقيقة أن وجود النفط والغاز لن يستمر لأكثر من ثلاثين عاماً على أحسن تقدير، لأنهما من أنواع الطاقة غير المتجددة. وهذا يعني ضرورة التفكير في توفير موارد بديلة، والطاقة الكهربائية هي واحدة منها. ولهذا ترى بعض الدراسات أن إقامة عشرين محطة كهربائية نووية بكلفة 25 مليار دولار ستكون بمثابة الضمانة الوحيدة لمواجهة الزيادة المستمرة في الطلب على الطاقة، يساعد على ذلك أن اليورانيوم متوفر في وسط إيران، مما يجعل الطاقة النووية أقل كلفة من غيرها .
ونجم عن هذين الأمرين العديد من المشكلات التي أصبح الاقتصاد الإيراني يعاني منها؛ كتراجع الاستثمارات، وارتفاع معدلات التضخم بحيث وصلت إلى ما يقرب من 40% في بعض القطاعات، وارتفاع نسبة البطالة إلى 14.6% بين الشباب وهم أكثر من نصف السكان، وكثرة الديون الخارجية بحيث تجاوزت الـ 20 مليار دولار، هذا فضلاً عن تراجع الريال الإيراني .
هذا هو المناخ العام الذي لا بدّ من النظر إلى البرنامج النووي من خلاله. يتأكد هذا الأمر إذا عرفنا أن إعادة العمل به تمت سنة 1984، ضمن أول خطة خمسية للتنمية، بعد أن تبنت الحكومة الإيرانية خططاً اقتصادية طموحة لتحقيق نمو اقتصادي يصل إلى 5% سنوياً . ومع تقدم العمل في هذا البرنامج خلال السنوات التالية، حصلت إيران على مساعدات فنية من دول عديدة كألمانيا والصين وروسيا.
وكان من المتوقع أن يدعم هذا البرنامج الاقتصاد الوطني بتوفير نحو 20% من الطاقة الكهربائية في البلاد. وتبدو أهمية هذا الهدف إذا تذكرنا حاجة إيران إلى تخفيض استهلاكها من النفط والغاز لتدعيم صادراتها من هاتين المادتين. فمن المعروف أن الاحتياجات النفطية الاستهلاكية تتزايد طردياً مع الزيادة المستمرة في عدد السكان، وقد تتطلب الاستخدام الكامل للإنتاج النفطي.
ب. الإسهام في النهضة العلمية:
تنظر القيادة السياسية الإيرانية إلى البرنامج النووي كجزء من الجهد الذي تبذله الدولة على طريق النهضة العلمية. تظهر ذلك ليس فقط التصريحات الرسمية وإنما أيضاً مواكبة هذا البرنامج للمسار العلمي، بحيث يشير الاثنان إلى رؤية استراتيجية لمستقبل إيران.
فالمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي يؤكد بصفة مستمرة على مواصلة النهضة العلمية بما في ذلك كل ما يتعلق بالتقنية النووية، من ذلك ما جاء في كلمته في 12/3/2009، حيث أوضح أن التطور الذي تحقق في مجال التقنية النووية يشير إلى أن قطار التطور في بلاده يسير بسرعة بالرغم من كون البعض لا يشعر بذلك .
الواقع يظهر بالفعل أن إيران قطعت شوطاً كبيراً على طريق النهضة العلمية، ومظاهر ذلك عديدة، من أبرزها: زيادة عدد الجامعات، والتقدم الصناعي المدني وأخيراً الإنجازات الصناعية العسكرية.
لقد حققت تقدماً ملحوظاً على المستوى العلمي، إذ تضاعف عدد الجامعات خلال فترة قصيرة ووصل إلى 2,276 جامعة حكومية وخاصة. وبلغ ما قدمه الباحثون من إنتاج علمي في سنة 2009 على سبيل المثال نحو 20,228 إنتاجاً علمياً. وهو ما يزيد عن 1% من الإنتاج العلمي العالمي، واحتلت إيران المرتبة الـ 22 عالمياً، وكان لذلك إفرازات عديدة من أبرزها إطلاق القمر الصناعي الإيراني أميد Omid.
وأنجزت إيران الكثير على صعيد الصناعات المدنية، ومنها على سبيل المثال صناعة الأدوية لمختلف الأمراض بما في ذلك السكتات القلبية والجلطات الدماغية، وتصميم المصابيح البيولوجية الصديقة للبيئة، كما قامت منذ أعوام بتصميم طائرة نفاثة تستوعب 150 راكباً.
وأنجز الجيش الإيراني صناعات عسكرية متنوعة ومتطورة كالأسلحة والمعدات الدفاعية والتكتيكية والهجومية، والدبابات والمدافع والرشاشات، هذا فضلاً عن تطوير الصواريخ الباليستية التي اشترتها من كوريا. وكذلك الحال بالنسبة للأنواع الأخرى من الصواريخ والزوارق البحرية.
ولذلك ترفض القيادات السياسية الإيرانية محافظة كانت أم إصلاحية فكرة وقف عملية تخصيب اليورانيوم، لأن هذه العملية تبين مدى التقدم العلمي والتقني الذي وصلت إليه الدولة الإيرانية، وكيف نجح آيات الله خلال فترة قصيرة في إنجاز ما أخفق فيه الشاه .
[1] دكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة القاهرة، وأستاذ في قسم العلوم السياسية في جامعة اليرموك في الأردن منذ سنة 1996 وحتى الآن. له الكثير من الكتب والدراسات والمقالات، كما ناقش وأشرف على الكثير من رسائل الماجستير والدكتوراه.
النص المعروض هو للصفحات الأولى من الدراسة العلميّة … للاطلاع على الدراسة كاملةً اضغط هنا (80 صفحة، 1.7 MB)
أضف ردا