تقدير استراتيجي (77) – حزيران/ يونيو 2015.
مخلص:
بات من المتعارف عليه عند معظم المتابعين للأوضاع الإنسانية في قطاع غزة إلى أي مدى وصلت حالة الاحتقان فيه، وما قد يترتب عليها من سيناريوهات قد تصل إلى قيام مواجهة مباشرة بين المقاومة والاحتلال الإسرائيلي. ومن هنا خرجت بعض الأصوات التي تنادي بضرورة التوصل إلى تهدئة طويلة المدى، والتي تمثلت بمقترحات أبرزها ما قدمه منسق الأمم المتحدة لعملية السلام المنتهية ولايته روبرت سيري، والتي تتضمن مبادرة للتوصل إلى تهدئة لمدة خمس سنوات تسهم في رفع الحصار عن القطاع وإنجاز الإعمار. وعلى الرغم من الحاجة العامة إلى تهدئة طويلة المدى، إلا أن معايير واشتراطات وفهم كل طرف من الأطراف تقف حجر عثرة أمام إمكانية تنفيذها على الأرض.
وعلى ما يبدو فإن المسارات المحتملة للتهدئة طويلة المدى تتلخص في توافر فرصة معتدلة نسبياً للتوصل إلى تهدئة طويلة من خلال قيام مقاربة تُوفِّق بين مطالب المقاومة ومطالب الاحتلال، في ظل مؤشرات تشي بتطور إيجابي طفيف في موقف بعض الأطراف المؤثرة، ولكن يعتري بعضها شيئاً من التردد. أما المسار الثاني فهو التوجه نحو التصعيد، وهو ما قد يؤدي إلى تدحرج كرة الصراع والاشتباك المسلح إلى مدى أبعد من مجرد حرب في قطاع غزة. أما المسار الثالث، وهو الأكثر ترجحياً، فهو استمرار حالة الجمود مع التنفيس المحدود في الحصار منعاً للانفجار، ويترافق مع تصعيد محدود أيضاً بين الطرفين بين الحين والآخر.
مقدمة
أحدث الحصار المفروض على سكان قطاع غزة واقعاً إنسانياً بالغ الخطورة، ولطالما حذرت المؤسسات الدولية من صعوبة الأوضاع المعيشية التي تطال عشرات الآلاف من المشردين الذي يهيمون بلا مأوى، وتدني مستوى المعيشة إلى درجة منخفضة جداً، وإرتفاع مستوى خط الفقر، واعتماد أكثر من ثلثي سكان القطاع على المعونات الخارجية.
بالرغم من ظروف الحصار القاسية في القطاع؛ إلا أن قوى المقاومة الفلسطينية تمكنت فيه من بناء قاعدة مقاومة مؤثرة ضدّ الاحتلال، مما اضطر الجيش الإسرائيلي لشن ثلاث حروب على القطاع حتى الآن، لتفكيك قاعدة المقاومة، أو إضعافها.
لم تتمكن دولة الاحتلال بالرغم من معاناة قطاع غزة الإنسانية، من تحقيق هدفها بإضعاف قاعدة المقاومة في القطاع، وبهذا الشأن يقول “عاموس غلبواع” الرئيس السابق لوحدة الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، إن قطاع غزة وحماس ما زالا يعدان المشكلة الاستراتيجية المركزية في المجال الأمني والسياسي والإعلامي. وحددت التوقعات الاستراتيجية لأجهزة الأمن والاستخبارات في دولة الكيان لسنة 2015 نقاطاً عشر؛ أدرجت خطرين منهما في غزة أولهما؛ حرب جديدة في القطاع، والآخر عملية كبيرة عبر الأنفاق الهجومية.
وفي الوقت الراهن يدور نقاش داخلي في الوسطين السياسي والأمني الإسرائيليين لمواجهة هذه المعضلة، وتطرح أفكار عديدة لمعالجتها؛ من ضمنها التصفية المركزة والهجومات الممنهجة وفق استراتيجية “جزّ العشب” لوقف تطور قاعدة المقاومة، و”عقيدة الضاحية” لتحقيق الردع. ومن الأفكار المطروحة كذلك، تسليم القطاع للسلطة الفلسطينية بدعم دولي وإقليمي. وفي الآونة الأخيرة علت الأصوات التي تنادي بمقايضة الإعمار وفك الحصار مقابل تهدئة دائمة تتضمن نزع سلاح المقاومة.
وفي المقابل فإن المقاومة بحاجة إلى تهدئة للتنفيس عن الحاضنة الشعبية، بإعادة الإعمار، وتحريك دورة الاقتصاد في قطاع غزة.
أولاً: تأثيرات المقاومة على الاحتلال واستراتيجيته في مواجهتها، وأسباب تولد خيار التهدئة طويلة المدى لدى الاحتلال
1- التأثيرات المباشرة للمقاومة على الاحتلال:
– عملت المقاومة على التشويش على الجبهة الداخلية التي تعدُّ الخاصرة الرخوة للعدو، ولأول مرة أقر العدو خطة لإخلاء مستوطنات غلاف غزة التي تبعد مسافة 7 كم عن القطاع، سميت الخطة “مسافة آمنة”، فيما لو اندلعت مواجهة جديدة، وهذا يعني أن المقاومة كشفت الجبهة الداخلية للعدو، ومسَّت مُفردةً أساسية في عقيدة الجيش، التي توجب منع أي عدو خارجي من التشويش على الجبهة الداخلية.
– أوجدت المقاومة ميزان رعب مع الاحتلال بالرغم من الفارق الكبير في ميزان القوى بين الطرفين.
– كسرت نموذج الصورة الذهنية والهالة التي كانت تحيط بالجيش الإسرائيلي، وشرعية القوة التي يمثلها، إذ يُعدُّ الجيش درة التاج للمشروع الصهيوني، وأي عطب يمسه يؤثر بشكل بالغ على المشروع برمته، باعتبار أن القوة تمثل أهم عوامل البقاء لهذا المشروع في المنطقة.
– التأثير المباشر على الركائز الأساسية لنظرية الأمن الصهيونية وهي: الحسم والإنذار والردع والدفاع. إذ لم يعد الاحتلال قادراً على الحسم في مواجهته للمقاومة، بل هو عاجز عن ردعها، ويعاني من شبه عمى استخباراتي في أثناء الصدام معها. فضلاً عن إخفاقه في حماية جبهته الداخلية من صواريخها، وحتى من قواتها الخاصة التي نفذت عمليات مؤثرة خلف خطوط المواجهة. كما أن القبة الحديدة عجزت عن توفير المرتكز الخامس في نظرية الأمن وهو الدفاع.
– ولعجز جنود الاحتلال في المواجهة فإنهم استهدفوا المدنيين للضغط على قيادة المقاومة، مما عرض الاحتلال لضغوط دولية، وبذلك أضحت مواجهته مع المقاومة ذات كلفة أخلاقية عالية، الأمر الذي عزز قطاعات واسعة من الأوساط الغربية للدعوة لمقاطعة “إسرائيل”، ويسمي الاحتلال هذه الظاهرة بـ “نزع الشرعية”، ويعدها من التحديات الاستراتيجية التي يواجهها.
2- المعضلات التي تواجه الاحتلال في التعامل مع المقاومة:
– أولى المعضلات هي الأنفاق التي سترت جسم المقاومة تحت الأرض، وحرمت الاحتلال من استخدام الفارق النوعي في قوته. وأكثر ما يقلق المؤسسة العسكرية هي الأنفاق الهجومية التي تتهدد قوات الاحتلال خلف الجبهة، ومستوطني غلاف غزة.
– الضغط الإعلامي الذي يتحمله العدو حين استهداف المدنيين في أثناء المواجهة، وما يستتبعه من ضغوط دولية.
– المواجهات من نقطة صفر أبرزت الفارق الكبير في الروح القتالية بين الطرفين، وهي من العناصر المهمة للتفوق الاستراتيجي لصالح المقاومة.
– يشكل قطاع غزة والمقاومة فيه معضلة كبيرة للدولة العبرية، فالأخيرة غير قادرة على الحسم العسكري وإزاحة المقاومة بكلف محتملة، ناهيك أن البديل الممكن والمقبول عن حماس لملء الفراغ في قطاع غزة غير متوافر حالياً.
3- استراتيجية الاحتلال لمعالجة المقاومة في قطاع غزة:
تبنت الدولة العبرية استراتيجية مركبة لمواجهة المقاومة، وأجرت عليها العديد من التعديلات، وأهم عناصر هذه الاستراتيجية هي:
– استخدام أسلوب “جزّ العشب”، وهو تكرار الهجمات المركزة على المقاومة في القطاع؛ سواء باستهداف نقاط محددة للمقاومة، أم عبر حملات مكثفة كشأن الحروب الثلاث التي شنها الاحتلال على القطاع. وتضمنت الحملات أساليب عسكرية قاسية مثل نموذج “هانيبعل”، وهو تركيز ناري كثيف على المنطقة التي يؤسر فيها جندي إسرائيلي لإفشال عملية الأسر، مما يعرض المدنيين لخسائر باهظة في الأرواح والممتلكات، وكذلك تنفيذ أسلوب “عقيدة الضاحية” الذي جسده الدمار الهائل في حي الشجاعية، والأبراج السكنية التي دمرت في العدوان الأخير.
– إحكام الحصار على القطاع من جانب الاحتلال ومصر، بهدف محاصرة المقاومة، وتفكيك حاضنتها الشعبية، بحسب نظرية “دع الجرح يتعفن”.
– افتعال فوضى داخلية في القطاع؛ تمهيداً لاختلاق اقتتال داخلي، ليكون مدعاةً لتدخل خارجي بغرض إزاحة المقاومة وتفكيك قاعدتها.
– التواصل مع أطراف إقليمية للضغط على حماس، ولإضعاف خطوط الإسناد الخارجية للمقاومة في القطاع.
ولكن كل هذه الأساليب لم تثمر في إضعاف المقاومة، فبدأ الحديث بصوت عالٍ في المؤسسات الأمنية الإسرائيلية، وحتى بين جنرالات الجيش باستثناء قائده يعلون؛ للمطالبة بإرساء تهدئة طويلة المدى مع المقاومة في غزة، لتوفير الهدوء اللازم لمستوطنات جنوب فلسطين، ولالتقاط الأنفاس، بغية البحث عن بدائل وحلول لمواجهة تهديد المقاومة على المدى الطويل.
ثانياً: البيئة المحلية والجيوسياسية المحيطة بالمقاومة وانعكاساتها على قطاع غزة
1- على الصعيد الدولي، ما زالت شروط الرباعية التي تعد أداة القفل السياسية للحصار قائمة، كما تتواطأ معظم الأطراف الدولية، والسلطة الفلسطينية، وأطراف إقليمية لتعطيل جهود المصالحة الفلسطينية التي من شأنها أن تفضي إلى فك الحصار عن قطاع غزة. ولكن تشي الأنباء عن جهود جارية لفك الحصار عن غزة خارج مظلة الرباعية، ولكنها ما زالت في طور التفاعل، ولم تنضج بعد.
2- على الصعيد الإقليمي، فالسلطات المصرية تقوم بحملة مبرمجة لحصار القطاع، وتشن حملة دعائية إعلامية ضدّ غزة ولتشويه صورة حماس فيها، وإن خفتت نسبياً في الوقت الحالي. والأخطر هو قيام هذه السلطات بإنشاء منطقة عازلة على الحدود المصرية الفلسطينية بطول 14 كم وبعرض سيصل إلى 5 كم، وقد نفذ مرحلتان منها وصولاً للمرحلة الثالثة؛ لاستهداف ما سمي بـ”الأنفاق الاستراتيجية” التي تمتد لأطوال أكثر من كيلومترين؛ ويستخدم الجيش المصري آليات جديدة ومتطورة لهدم الأنفاق، وحقنها بمياه الصرف الصحي، بتنسيق مع سلطات الاحتلال، وبدعم من الولايات المتحدة.
وتغلق هذه السلطات معبر رفح، المنفذ الوحيد للقطاع على العالم الخارجي، ولا تفتحه إلا لأيام محدودة، ولا تسمح سوى لأعداد قليلة من الأشخاص بعبوره. ولكن فيما يبدو أن تطورات قد طرأت أخيراً على الموقف المصري تنبىء أن السلطات المصرية قد أبدت رغبة بالاتصال مع حركة حماس، مما قد يعني بداية تغير نسبي حذر في العلاقة بينهما.
أما الفضاء الإقليمي العام فما زال غير مواتٍ لحركة حماس؛ بالرغم من الانفراج النسبي الذي أعقب تولي الملك سلمان الحكم في السعودية. والحركة تعاني من الفوضى الإقليمية التي أشغلت دول المنطقة، وهي تجد صعوبة في التحرك السياسي في فضاء المنطقة نظراً لحدة الفرز الإقليمي السائد.
3- على الصعيد الداخلي الفلسطيني، فما زال الانقسام الفلسطيني مخيماً على العلاقات الفلسطينية الداخلية، ولم تقم حكومة الوفاق الوطني بواجباتها المستحقة للقطاع حتى الآن تحت ذرائع مختلفة، كان نتيجتها العملية، استمرار معاناة قطاع غزة الهائلة، وتعثر مسار الإعمار ومسارات عمل الأجهزة الحكومية وتسديد رواتب الموظفين.
4- على الصعيد الإنساني؛ يرزح القطاع تحت وطأة الحصار الذي أنتج أزمة إنسانية خانقة، إذ يبين التقرير الأخير للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أن السياسة الممنهجة للحصار الممتدة منذ تسع سنوات أدت لاعتماد ما يقارب من 80% من سكان القطاع البالغ عددهم 8,1 مليون نسمة على المساعدات الدولية، وأن أكثر من 80 ألف شخص من الذين يعيلون قرابة النصف مليون فرد، فقدوا أعمالهم خلال هذه الفترة ؛ مما زاد في ارتفاع نسبة الأفراد الذين يعيشون تحت خطّ الفقر. ويشير التقرير إلى أن 35% من الأراضي الزراعية اقتطعت من قبل الاحتلال لدواعٍ أمنية، وبلغ معدل البطالة لعام 2014 أكثر من 42%، وتوقف حوالي 90% من المشاريع الاقتصادية. وأوضح التقرير أن السلطات المصرية أغلقت معبر رفح على الحدود المصرية لفترة تقدر بنحو 70% من أيام السنة مما زاد في قسوة الحصار، وفاقم من حدة الأزمة الانسانية الخانقة. ويعد العامل الإنساني السبب الأساس الضاغط على المقاومة للقبول بتهدئة طويلة المدى.
ثالثاً: التهدئة طويلة المدى ومحاولات الأطراف المختلفة لإرسائها
نظراً لحاجة كافة الأطراف للتهدئة ولكن ضمن معايير واشتراطات مختلفة، فقد ظهرت عدة أفكار ومقترحات تهدف لإرسائها.
ففي آذار/ مارس 2015 كشف منسّق الأمم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط المنتهية ولايته روبرت سيري، عن مبادرة جديدة تتضمّن هدنة بين الفصائل الفلسطينية و”إسرائيل” لمدة خمس سنوات، وأطلق عليها “استراتيجية غزة أولاً”، وبيّن أن “الاستراتيجية الجديدة يجب أن تكون طويلة الأمد لأربع أو خمس سنوات، وتحت مظلة حكومة التوافق الوطني، تتم خلالها إعادة إعمار قطاع غزة، وتجميد النشاطات العسكرية تحت الأرض وفوقها، ورفع الحصار كلياً وفتح كل المعابر”.
وتحدثت مصادر أخرى أن القنصل السويسري نقل مقترحات بشأن التهدئة لمسؤولين كبار في الاتحاد الأوروبي لهم صلات وثيقة مع “إسرائيل”. وتتضمن هذه المقترحات: فتح كافة المعابر حول قطاع غزة، وإدخال كافة البضائع اللازمة للقطاع، وعدم وضع حظر على أيّ منها، والسماح بحرية الاستيراد والتصدير من وإلى قطاع غزة، وإنشاء الميناء والمطار في قطاع غزة؛ على أن يتم تحديد مدة التهدئة بتوافق الطرفين، ويخضع تمديدها أو تقصير مدتها لتوافق الطرفين كذلك، بينما تكون مدة التهدئة من ثلاث إلى خمس سنوات، تبدأ من توقيع الاتفاق.
ومن الأفكار التي طرحت، بحسب مصادر إعلامية، مقترحات من جهة تركيا وقطر تتضمن تهدئة طويلة مقابل رفع الحصار وفتح ميناء تجاري برقابة الناتو.
ومن أبرز المحاولات التي ما زالت جارية التحرك الذي يقوم به توني بلير بهدف فك الحصار عن غزة ويتضمن تهدئة في القطاع، ويظهر أن مندوب الرباعية السابق قد عرض أفكاره على أطراف عديدة بالمنطقة. وبعض الأوروبيين وخاصة بريطانيا على علم بتحركه وتدعم جهوده، وفيما يبدو أن الطرف الأمريكي على علم بها أيضا، ولعل نتنياهو على دراية بهذه المساعي كذلك.
رابعاً: مواقف الأطراف من التهدئة طويلة المدى
من جهة حماس، فقد أعلن الناطق الرسمي باسمها في غزة سامي أبو زهري، أن أطرافاً دولية تقدمت للحركة بمقترحات بشأن تهدئة طويلة المدى، وأن الحركة تقوم بدراستها، وأن الاستجابة تحتاج لتوافق وطني.
لا شكّ أن المقاومة وقطاع غزة بحاجة لهذه التهدئة مرحلياً، نظراً للوضع الإنساني الكارثي. لكن بعض الاشتراطات التي تتعلق بنزع سلاح المقاومة، أو وقف تطوير العمل المقاوم هي العائق الكبير أمام قبول المقاومة بالتهدئة، أو اقتران مشروعها بما قد يمس الثوابت الوطنية.
أما قيادة السلطة الفلسطينية، فالرئيس عباس يضغط إعلامياً لإفشال مساعي التهدئة طويلة المدى، ويدعي أن حماس تقوم بالتفاوض مع “إسرائيل”، وأن هذه الخطوة ستفضي لفصل القطاع عن الضفة. وترى بعض الأطراف أن عباس يراهن على استمرار الضغوط والحصار على حماس، لإجبارها على الرضوخ لأجندته وأجندة فتح السياسية.
وبخصوص الدولة العبرية، فهي تواجه تحدِّيين في الوقت الراهن، تحدٍّ سياسي مع السلطة وفتح، وتحدٍّ عسكري وأمني مع غزة والمقاومة. أما مع السلطة فهي تماطل كافة الأطراف لتعطيل مسار المفاوضات. ومع المقاومة في غزة؛ فهي ما بين خيارين، الأول: الضغط الاقتصادي عبر الحصار، الذي قد يؤدي لانفجار جديد، وبالتالي لن يحقق هدف إضعاف حماس. والآخر: المواجهة العسكرية التي لم يتحضر الجيش لها بعد، إذ ما زال عاجزاً عن سدّ ثغرات المواجهة الأخيرة في العدوان الأخير.
ولذلك تتحدث المصادر العبرية عن موافقة معظم مسؤولي الأجهزة الأمنية الثلاث على التهدئة، وكذلك جنرالات الجيش، ما عدا وزير الحرب يعلون.
لكن العقبة الكأداء تتمثل في المستوى السياسي، إذ إن الحكومة اليمينية المتطرفة الجديدة؛ ربما لا تستجيب لتوجهات المستويين الأمني والعسكري، خصوصاً أن وزير الحرب يقف في صف الرافضين للتهدئة. كما أن الوضع الحالي يُبقي الانقسام، المفيد للطرف الإسرائيلي، وكذلك الحصار الذي يسهم في إضعاف المقاومة ومحاصرتها، ويضغط على قاعدتها الشعبية، فضلاً عن أن الدولة العبرية لا ترغب في منح أيّ شرعية لحركة حماس. وقد يكون نتنياهو أقرب نسبياً لمسار التهدئة لصعوبة العقبات في قطاع غزة، ولكن التحدي الذي يواجهه هو كيف سيقنع شركاءه في الإئتلاف بأن التهدئة تحقق الأمن باعتباره الأجندة الرئيسة لليمين.
أما إقليمياً، فإن مصر وهي الطرف الإقليمي الأبرز في المعادلة الفلسطينية لا تفضل خيار التهدئة الطويلة المدى، لأنه يوفر مخرجاً للمقاومة في قطاع غزة، ويعد تنفيساً لجهودها الرامية لإضعاف حماس، وهي ربما تعمل على إبطال مساعي هذا النوع من التهدئة.
أما الموقف الأوروبي، فهو في المجمل أقرب لخيار التهدئة طويلة المدى، إذ تشارك أطراف أوروبية بفعالية لدفع الجهود الساعية لإرسائها، وعلى رأسها بريطانيا، ولكن يحتاج تكثيف وتقوية مسار التهدئة ودفع مشروعها قدماً زيادة فاعلية الدور الأوروبي بالتحاق كل من فرنسا وألمانيا وأسبانيا لبريطانيا لذات المسار.
وفيما يخص الولايات المتحدة، فقد ذكرت تقارير إعلامية أن المستشار الجديد للرئيس أوباما لشؤون الشرق الأوسط، روبرت مالي، يميل لإشراك حماس وعدم عزلها، وهو يتمتع بعلاقات جيدة مع العديد من الأطراف الفلسطينية؛ بما فيها حركة حماس، وقد ينعكس هذا التوجه على مساعي التهدئة الجارية، وإن لم يظهر شيء ملموس من ذلك حتى الآن. ومما يرشح أن الإدارة الأمريكية ربما على علم بالجهود الحالية الرامية لإرساء التهدئة.
خامساً: التوجهات المحتملة لمسار التهدئة طويلة المدى
تفاعلات الجهود الرامية لإرساء تهدئة دائمة أو طويلة المدى أمامها فرصة نجاح محتملة بدرجة متوسطة نسبياً، لكنها تواجه كوابح وتحديات كبيرة. وفي ضوء المعطيات البارزة حتى اللحظة يمكن رسم مساراتها المحتملة كالآتي:
1- المسارات المحتملة:
أ- المسار الأول: مسار تحقق التهدئة:
ويتفرع إلى اتجاهين:
1- تمكن الأطراف من إرساء تهدئة طويلة المدى بصورة ما، وفي حال حدوثها سيتحدد شكلها، بناء على معادلة توازن بين مطالب المقاومة والاحتلال.
2- إيجاد حل وسطي يتضمن تنفيس الحصار بشكل ملحوظ مقابل استعادة الجنود الأسرى، وهو مطلب لدى جهات في الطرف الإسرائيلي.
ب- المسار الثاني: مسار التصعيد:
ويتفرع إلى اتجاهين:
1- انفجار الوضع باشتعال مواجهة جديدة على نسق المواجهات السابقة؛ بسبب الضغط الهائل الذي يفرضه الحصار الخانق على القطاع.
2- التصعيد بدرجة أعلى، بتدحرج الأحداث نحو احتلال القطاع من قبل الجيش الإسرائيلي، بهدف تفكيك قاعدة المقاومة وإخضاعها.
ج- المسار الثالث: مسار الجمود:
أن يستمر الوضع على حاله، ويشمل تنفيس محدود للحصار بزيادة عدد شاحنات البضائع المسموح لها بدخول القطاع من جهة الاحتلال، مع لحظات تصعيد محسوبة بين الفينة والأخرى، وعدم انسياق المسار نحو تصعيد عالي الوتيرة، لحاجة الطرفين للهدوء في الوقت الراهن.
2- العوامل المؤثرة في توجه المسار المحتمل وتطوره
– مدى استجابة المستوى السياسي الإسرائيلي للأصوات التي تنادي بتهدئة طويلة المدى، ولتوصيات جهات وازنة في المستويين الأمني والعسكري، الداعمة لخيارها، ومدى قدرة نتنياهو على إقناع شركائه في الإئتلاف الجديد.
– مدى تطور الموقف الأمريكي تجاه تشجيع نتنياهو للتساوق مع خيار التهدئة الطويلة المدى.
– توصل الأطراف الفلسطينية لتوافق داخلي بشأن التهدئة طويلة المدى، وخاصة بين حركتي فتح وحماس.
– زيادة التطور في الموقف المصري بشكل إيجابي تجاه القطاع وحركة حماس والمقاومة بشكل عام.
3- التقدير:
تشير المعطيات الراهنة في ظلّ تفاعل العوامل المؤثرة القائمة حتى اللحظة إلى أن مسار الجمود، مع شيء من التنفيس المحدود هو الأكثر ترجيحاً؛ لأن طرفي المواجهة، الاحتلال والمقاومة، يصعب عليهما تخطي كوابح التهدئة طويلة المدى، وتوفير مستلزماتها، كما أن أطراف أساسية كقيادة السلطة الفلسطينية ومصر غير معنية بإنجاح جهود تهدئة طويلة المدى إذا كانت تمثل ملاذاً لحماس، بينما هما يرغبان بإضعافها. مع ذلك فإن الطرف المصري أخذ مؤخراً يبدي بعض الليونة النسبية تجاه القطاع والمقاومة فيها لكنه يبقى حتى الآن حذراً ومتردداً في مسلكه هذا.
أما الموقف الأمريكي فيشوبه الغموض بهذا الشأن، بينما لن يكون الموقف الأوروبي مؤثراً بشكل ملموس إلا بانضمام كل من فرنسا وألمانيا وأسبانيا لبريطانيا المؤيدة حالياً للتهدئة.
لكن المسار الفرعي من مسارات التصعيد، وهو انفجار مواجهة جديدة على نسق المواجهات السابقة، له فرصة قائمة أيضاً، نظراً للحصار الخانق على القطاع، بالرغم من محاولات التنفيس التي تقوم بها الدولة العبرية، عبر زيادة عدد شاحنات البضائع التي تدخل القطاع. إذ ربما تتطور المواجهات البينية الصغيرة لمواجهة كبيرة، مع أن الطرفين لا يبديان حتى الآن رغبة في إشعال مواجهة جديدة، بسبب أن المقاومة مرهقة من الحرب الأخيرة، بينما جيش الاحتلال لم يفلح بعد في سدّ الثغرات التي واجهها في عدوانه الأخير على القطاع.
أما التهدئة طويلة المدى، فربما يتوافر لها فرصة محتملة بدرجة متوسطة بحذر، نظراً لبعض مؤشرات التغير الايجابي في مواقف بعض الأطراف، إلا أن العقبات التي تعترضها ما زالت ضخمة وتحتاج إلى جهود مشتركة كبيرة وحثيثة من معظم الجهات المعنية.
أما نقيضها الأعلى وهو احتلال القطاع، فهو خيار مستبعد حالياً لأنه صعب التحقق على المدى القريب وبسبب كلفته العالية.
لكن تنفيس الحصار وعقد صفقة تبادل أسرى؛ ربما يجد فرصة في أثناء الحوارات الجارية، وهو خيار إسرائيلي مفضل، خصوصاً لوزير الحرب يعلون، إلا أن فرصته ليست عالية في المدى القريب.
والخلاصة: فالتقدير أن أفق المستقبل القريب في الأشهر القادمة يتذبذب بين بقاء الوضع على حاله مع شيء من التفيس النسبي، أو انفجار مواجهة جديدة على نسق المواجهات السابقة؛ فيما لو خرجت الأمور في القطاع عن السيطرة، أو أن تتدحرج التصعيدات الصغيرة إلى مواجهة كبيرة. أما عقد هدنة طويلة المدى مترافقة مع كسر الحصار عن القطاع، ففرصته محتملة نسبياً، ولكن ما زال دونها الكثير من العقبات المحلية والإقليمية والدولية التي هي بحاجة إلى تفكيك وإعادة ترتيب، قبل المضي قدما في هذا المسار.
سادساً: التوصيات:
1- أن تتم التهدئة طويلة المدى في إطار توافق وطني فلسطيني، يرفض فصل قطاع غزة عن باقي فلسطين، وبما يخدم رفع الحصار، وإعمار قطاع غزة.
2- سلاح المقاومة وقواعدها المناضلة مكسب وطني استراتيجي، لا يجوز المساس به أو تجميده أو نزعه كأحد استحقاقات التهدئة.
3- على قيادة المنظمة والسلطة أن تلعب دوراً أكثر إيجابية في فكّ الحصار عن القطاع وإعادة الإعمار، وفي تفعيل برنامج المصالحة، واستيعاب موظفي القطاع، وعمل الوزارات والمؤسسات.
4- مطالبة النظام المصري بفتح معبر رفح، وإنهاء أي شكل من أشكال تعطيل حرية الحركة للأفراد والبضائع بين القطاع ومصر.
5- المدة الزمنية للتهدئة يتوجب أن لا تمتد لأكثر من خمس سنوات، لأن إطالتها يفضي لاسترخاء الحاضنة الشعبية، مما يضر ببرنامج المقاومة وقاعدتها.
* يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ عبد الرحمن فرحانة بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.
أضف ردا