بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
على حماس أن تتوقف عن وهم تشكيل حكومة تدير الضفة الغربية (مع القطاع) وفق معايير المقاومة المسلحة، كما أن على فتح أن تتوقف عن وهم تشكيل حكومة تدير قطاع غزة (مع الضفة) وفق معايير اتفاق أوسلو والتسوية السلمية.
وما دام الاحتلال الإسرائيلي موجودا على الأرض، خصوصا في الضفة الغربية، يجب تبديد الوهم باعتبار الحكومة الفلسطينية قاطرة للتغيير ومدخلا لنجاح المصالحة، ذلك أن الاحتلال لن يوفر أي بيئة نجاح لحكومة فلسطينية ترعى المقاومة أو تسعى للتخلص منه.
إن تشكيل أي حكومة يجب أن يكون جزءا من منظومة عمل وطني تعيد تعريف السلطة الفلسطينية ودورها، وتديرها كإحدى أدوات الصمود والنضال، وبطريقة تستوعب الجميع دونما تمييز، وتحاول خدمة الشعب الفلسطيني، لا أن تكون أداة وظيفية للاحتلال، ولا أداة للضغط السياسي والأمني لطرف فلسطيني على آخر، وإذا ما أراد الطرف الإسرائيلي فرض رؤيته ومساراته، فيجب أن يتحمل عندئذ المسؤولية المباشرة لاحتلاله. ولذلك فإن عمل الحكومة لا يأخذ مصداقيته إلا مع تفعل الإطار القيادي الموحد، وضمن عملية الإصلاح الشامل لمنظمة التحرير الفلسطينية.
***
مرت في يوم 25/6/2015 الماضي الذكرى التاسعة لعملية “الوهم المتبدد” التي نفذتها حركة حماس بالتعاون مع “لجان المقاومة الشعبية” و”جيش الإسلام”، وأدت إلى مقتل جنديين إسرائيليين وأسر الجندي “جلعاد شاليط”، مما فتح المجال لإحدى أكبر صفقات تبادل الأسرى في التاريخ الفلسطيني الحديث.
لعل التوفيق قد أصاب تسمية العملية باسم “الوهم المتبدد”، إذ قدمت في تلك الفترة دليلا حاسما على التزام حماس بخط المقاومة المسلحة حتى وهي في السلطة، وألغت أي أوهام مرتبطة بذلك.
كما قدمت دليلا قويا على قدرة المقاومة الفلسطينية على تطوير نفسها وتنفيذ عملية أسر نوعية احتفظت بجندي إسرائيلي سرا لسنوات، في بيئة أمنية معقدة، يملك فيها الاحتلال وأدواته قوة طاغية. وهي من ناحية ثالثة ضربت الأوهام الإسرائيلية بالقدرة على استخدام ورقة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال لكسر إرادة الشعب الفلسطيني، وفرضت إرادة المقاومة بتحرير أكثر من ألف أسير، بينهم أكثر من 300 محكومين بالمؤبد.
من جهة أخرى، فإن هذه العملية أعطت مؤشرا لا لبس فيه بعدم إمكانية نقل حماس إلى مربع التسوية السلمية واحتوائها تحت سقف اتفاقات أوسلو واستحقاقاتها. غير أن استتباعات هذه العملية ومجموعة الإجراءات الإسرائيلية التي تلتها (بالإضافة إلى مجموعة إجراءات تلت فوز حماس بالانتخابات) بددت أي أوهام أو توقعات لدى العديد من قيادات حماس ومؤيديها بإمكانية الجمع بين السلطة والمقاومة، تحت الاحتلال الموجود على الأرض، خصوصا في الضفة الغربية.
كانت الرسالة الإسرائيلية واضحة بأن حماس لا تستطيع أن تقدم حالة نجاح في إدارة السلطة الفلسطينية ما دامت تتمسك بخيار المقاومة المسلحة، حتى لو فازت بالشرعية الشعبية والتشريعية، وحتى لو قدمت أفضل الكفاءات والخبرات والبرامج، وحتى لو أرادت الدخول في تهدئة تمكنها من العمل، إذ إن منظومة “اتفاق أوسلو” كانت مبنية أساسا على تطويع قوى المقاومة، وجعلها بدون أظافر أو أسنان وجعل الطرف الفلسطيني من دون أي أوراق قوة ضاغطة على الطرف الإسرائيلي.
ولذلك قصفت القوات الإسرائيلية قطاع غزة في الـ45 يوما التي تلت تشكيل حماس لحكومتها (منذ 31/3/2006) بـ5100 قذيفة مدفعية بمعدل 110 قذائف يوميا، واستشهد نحو 120 فلسطينيا في الأشهر الثلاثة التي تلت تشكيل هذه الحكومة. وارتكبت القوات الإسرائيلية مجزرة راح ضحيتها 14 فلسطينيا في 7/6/2006 منهم سبعة من عائلة واحدة، ثم ارتكبت مجزرة أخرى بعد ذلك بأربعة أيام قتلت فيها 11 فلسطينيا. أي أن الإسرائيليين كانوا يدفعون الأوضاع نحو الانفجار ونحو إنهاء التهدئة بحيث لم يكن من خيار لدى حماس سوى الرد بعمليات انتقامية قبل أن تفقد مصداقيتها وشعبيتها، فقامت بعملية “الوهم المتبدد”.
واتخذ الطرف الإسرائيلي من هذه العملية ذريعة للقيام بعملية “أمطار الصيف” التي استشهد فيها 400 فلسطيني، ثم عملية غيوم الخريف التي استشهد فيها 105 فلسطينيين، وقامت باعتقال 3500 فلسطيني بينهم عشرة من وزراء حكومة حماس.
وفي سنة 2007 كان قد وصل عدد أعضاء المجلس التشريعي المعتقلين المحسوبين على حماس 42 نائبا هم الأغلبية الساحقة لنواب حماس في الضفة الغربية، بمن فيهم رئيس المجلس التشريعي عزيز الدويك. ولسنا بصدد سرد إجراءات الحصار والتضييق والإفشال التي قام بها الاحتلال.
وباختصار فإن مشاريع التحرير وحركات المقاومة لا تستطيع (ولا ينبغي أن تنشغل بـ) تحقيق “الرفاه تحت الاحتلال”، وإلا تحول الاحتلال من نقيض إلى شريك، ومن عدو إلى حليف. والعدو أثبت أنه لا يرغب بتسوية تنهي احتلاله وعدوانه، وإنما في سلطة وظيفية تخدم أغراضه وتخفف التكاليف والأعباء عنه، وهذا ما جرى في الضفة الغربية.
وعندما أصرت حماس على تشكيل حكومة توفر غطاء للمقاومة، أو تخدم برنامجها، أو تقدم حالة نجاح لأنصارها، كان مصيرها الإفشال والإسقاط. ولذلك يجب أن ينتهي أنصار حماس والمقاومة من فكرة تشكيل حكومة أو المشاركة الفاعلة في حكومة تدير الأوضاع في الضفة الغربية بنفس تلك المعايير الموجودة في القطاع. وبعبارة أخرى، فإذا لم يكن “أوسلو” في برنامج حماس، فلن تكون حماس في برنامج “أوسلو”.
أما قطاع غزة، فإن الحالة التي أوجدتها حماس فيه مرتبطة بعدم وجود قوات احتلال إسرائيلي على الأرض، بخلاف حالة الضفة الغربية. وبالتالي فإن طريقة الإفشال التي قام بها الجانب الإسرائيلي كانت بأدوات الحصار الخانق والحروب المدمرة. وإذا كانت المقاومة قد قدمت نموذجا بطوليا في الصمود والتضحية، والاستفادة القصوى من الإمكانات المتاحة، فإنها قدمت نموذجها خارج منظومة “أوسلو”، وفي ظروف معقدة، وفي بيئة إقليمية ودولية معادية أو غير مواتية.
***
قيادة فتح التي تقود منظمة التحرير والسلطة في رام الله أيضا عليها أن تخرج من وهم تهميش أو تركيع أو تطويع حركة حماس، وعليها أن تتعامل بأسرع ما يمكن مع الخلاصة التي ستصلها عاجلا أم آجلا في أن تأخذ حماس وقوى المقاومة حجمها الطبيعي ودورها الحيوي في قيادة المشروع الوطني الفلسطيني، بما ينعكس بشكل فاعل على الأرض على سياسات ومؤسسات وبُنَى منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية.
إن طريقة الإفشال ومحاولة الإسقاط التي سلكتها قيادة فتح برئاسة أبي مازن تجاه الحكومة العاشرة والحادية عشرة (2006-2007) التي شكلتها حماس لم تؤد إلا لتكريس الانقسام، وعبرت عن حالة سوء التقدير والفشل في استيعاب الآخر، والإصرار على الدخول في تكتيكات خاطئة وباهظة التكاليف، تستند إلى محاولة الهيمنة والاستفراد في القرار، ومحاولات الاستفادة من البيئة الإقليمية والدولية لتحييد وتهميش أطراف فاعلة على الساحة الفلسطينية.
إن اتفاق المصالحة الفلسطينية الذي صبر الفلسطينيون أربعة أعوام بانتظار توقيعه (مايو/أيار2011) قد تم التعامل معه من قِبل أبي مازن بشكل انتقائي وتكتيكي، بحيث تم تعطيل المسار الأهم في تفعيل منظمة التحرير وتفعيل الإطار القيادي الموحد، مع الاستمرار في تعطيل المجلس التشريعي الفلسطيني.
ودخل أبو مازن في وهم تشكيل حكومة تلتزم بأوسلو واستحقاقاتها، على أمل الوصول إلى “حلم” إجراء انتخابات في الضفة والقطاع تؤدي إلى فوز فتح، ونزع الشرعية الشعبية التي تمتعت بها حماس.. وعند ذلك سيتابع أبو مازن مساره فيسمح بافتتاح المجلس التشريعي، ومحاولة فرض شروطه على حماس كحزب أقلية ذي دور هامشي. أما وأن حماس ما زالت تتمتع بأغلبية في المجلس التشريعي، فعليها أن تخرج من وهم قيام حكومة فلسطينية تخضع لرقابة ومحاسبة فعلية من المجلس، فهذا ما لا يقبله أبو مازن، وما ترفضه سلطات الاحتلال أيضا.
وعندما تشكلت حكومة الوفاق الوطني برئاسة رامي الحمد الله في أوائل يونيو/حزيران 2014 كانت مسؤولياتها تُركز على إعادة الإعمار وفك الحصار عن قطاع غزة وعلى توحيد المؤسسات الفلسطينية في الضفة والقطاع، والتحضير لانتخابات رئاسية وتشريعية فلسطينية، غير أنها سرعان ما دخلت في أوهام استثمار ضغط الحصار والدمار على القطاع لتفرض على حماس وقوى المقاومة وبشكل انتقائي الشرعية المستمدة من الرئاسة (وليس الشرعية المستمدة من التشريعي) ومعايير “أوسلو” السياسية، ومعايير “فتح” في التعيين والتوظيف والصرف المالي.
وقد حولها ذلك إلى حكومة أزمة بدل أن تكون حكومة مصالحة وحكومة طرف واحد بدل أن تكون حكومة وحدة.. لم يكن المجلس التشريعي الفلسطيني حاضرا في معاييرها والتزاماتها واستحقاقاتها مع أنه الجهة التي تستمد منه شرعيتها، والجهة التي تقوم بمحاسبتها وإعطاء الثقة أو نزعها منها.
ولذلك تواصلت محاولات الإنكار والالتفاف عن تثبيت نحو أربعين ألف موظف من موظفي قطاع غزة، مع استمرار تطبيق معايير “السلامة الأمنية” في الضفة الغربية، واستمرار حملات المطاردة والتضييق على أنصار حماس وقوى المقاومة في الضفة، وكأنه ليس هناك مصالحة وطنية.
لا يمكن لحكومة توافق أن تكون أداة باطشة بيد فصيل فلسطيني معين، ولا يمكن لحكومة توافق أن تكون أداة لفرض المعايير والشروط الإسرائيلية والدولية على قوى المقاومة، بعد أن فشلت هذه القوى في إخضاع المقاومة وتركيعها. ويجب أن تتبدد هذه الأوهام بسرعة قبل أن يضيع الوقت فيما لا طائل منه.
وأخيرا، فإذا كان سقف الاتفاقات الذي أنشأ السلطة لا يسمح لحماس وقوى المقاومة بإدارة حكومة تحت الاحتلال، وإذا كانت المعايير التي تريد فتح تطبيقها في إدارة السلطة لا تتوافق مع الحد الأدنى للمقاومة، فعند ذلك يجب تبديد الوهم باعتبار الحكومة الفلسطينية قاطرة للتغيير ومدخلا لنجاح المصالحة.
ويجب أن تتم عملية مراجعة وتقييم للسلطة الفلسطينية ودورها الوظيفي، وأن يعاد ضبط مسارها بما يتوافق مع المشروع الوطني الفلسطيني في التحرير والاستقلال. وإذا لم يكن ذلك ممكنا عمليا، فعلى الشعب الفلسطيني أن يواصل نضاله، وعلى الاحتلال أن يتحمل نتائج احتلاله ويدفع أثمانه.
أضف ردا