تقدير استراتيجي (79) – أيلول/ سبتمبر 2015.
ملخص:
إن الحرص على مصالح وأمن “إسرائيل” هو المحدد الأساسي لسلوك وسياسات الدول الأوروبية تجاه القوى الفلسطينية المختلفة، ومنها حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، والرغبة الأوروبية في الوصول إلى حلول للقضية الفلسطينية على المدى البعيد، وحل لمشكلات قطاع غزة المتفاقمة على المدى القريب يأتي في هذا السياق. في المقابل فإن حركة حماس، وبعد اشتداد الحصار على قطاع غزة وضعف أداء السلطة الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير في القيام بمسؤولياتها تجاه القطاع، تبذل كل جهد ممكن لفك الحصار والتخفيف عن الشعب الفلسطيني هناك، والحوار مع الأوروبيين هو محاولة في هذا الاتجاه.
يظهر أن السيناريو الأقرب للتحقُّق من خلال الاتصالات الأوروبية مع حماس هو السعي الأوروبي نحو تحقيق التهدئة مقابل الإعمار والتنمية في القطاع؛ وليس من المتوقع أن تقدم حماس أي أثمان سياسية لاتصالاتها مع الأوروبيين، كما أنها ستسعى لأن يكون أي اتفاق محتمل ضمن التوافق الوطني، والحفاظ على المقاومة وحاضنتها الشعبية، ورفض فصل القطاع عن الضفة الغربية.
مقدمة:
تاريخياً ولأسباب متعددة جيوسياسية، ودينية، وثقافية، وحضارية…، حظيت فلسطين وما زالت باهتمام خاص من الدول الأوروبية، لكن هذا الاهتمام ومنذ قيام “إسرائيل” بات يستند إلى حد كبير إلى مصالح هذا الكيان ودوره في الإقليم. في هذا السياق يأتي الاهتمام الأوروبي بحركة المقاومة الاسلامية (حماس) كأحد أهم اللاعبين السياسيين في الشأن الفلسطيني. وبالرغم من وضع الحركة على لائحة الإرهاب الأوروبية في عام 2003 إلا أن التواصل والحوار الغربي مع حماس لم ينقطع ولكنه اتخذ صيغاً غير رسمية؛ اعتمدت فيه أوروبا على شريحة الموظفين الحكوميين السابقين “Ex-Officers” الذين عملوا في الحقل الدبلوماسي لدولهم، أو على الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي كالنرويج وسويسرا.
الاتصالات الأوروبية التي نشطت مع حماس في الأشهر الماضية، من طرف توني بلير والسويسريين والنرويجيين… وغيرهم، لم تأخذ شكل المفاوضات، وإن كانت قد ركزت على موضوع التهدئة مع الجانب الإسرائيلي وإنهاء حصار قطاع غزة وإعادة إعماره؛ كما تطرقت إلى إخراج حماس من قائمة الإرهاب الأوروبية.
وقد أصرَّت حماس على رفض إعطاء أثمان سياسية لهذه الاتصالات؛ كما رفضت تقديم أي أثمان سياسية لاستحقاقات وقف إطلاق النار أو التهدئة مع الجانب الإسرائيلي. ورأت أن هذه الاستحقاقات المتعلقة بفك الحصار وإعادة الإعمار… هي تنفيذ لشروط وقف إطلاق النار في إثر الحرب الأخيرة في صيف 2014 على قطاع غزة؛ والتي تم تأخيرها وتعطيلها من الجانب الإسرائيلي (المستند إلى بيئة إقليمية ودولية تصب لصالحه).
علاقة برؤية وأهداف متباينة:
تختلف رؤية كل طرف لأهمية وطبيعة هذه العلاقة، نظراً لاختلاف الأهداف المرجوة منها، فبينما تسعى أوروبا إلى لعب دور سياسي مساند لـ”إسرائيل” يقود في النهاية إلى الإقرار الفلسطيني وبالذات الحمساوي بشرعية “إسرائيل” ويقبل وجودها، تسعى حماس إلى تعزيز شرعية برنامجها الهادف إلى تحرير فلسطين واعادة حقوق الشعب الفلسطيني التي أهدرت منذ قيام الدول الأوروبية بدور حيوي في إنشاء “إسرائيل”، ويمكن تلخيص أهداف كل طرف من هذه العلاقة بما يلي:
الأهداف الأوروبية من العلاقة مع حماس:
1- التعرف عن قرب على أيديولوجية حماس وفكرها ومواقفها السياسية.
2- قراءة احتمالات وفرص دمج حماس في العملية السياسية، وإمكانية اعترافها بـ”إسرائيل” والتعايش معها.
3- التأثير في حماس وعلى قرارها السياسي تجاه القضية الفلسطينية وآليات حلها، وممارسة الضغط بوسائل مختلفة على حماس للاستجابة للرؤية الدولية لإنهاء الصراع، المستند إلى قرارات الأمم المتحدة وحلّ الدولتين.
4- المحافظة على الدور الأوروبي في الملف الفلسطيني ذي الأهمية الدولية الاستراتيجية، واستثمار لحظة الفراغ التاريخي والاستراتيجي في الإقليم الذي تلاشت أو ضعفت فيه القوى المحلية التقليدية المؤثرة في الصراع.
5- مساعدة “إسرائيل” في رسم سياساتها تجاه حماس كفصيل، وتجاه الحالة الفلسطينية بكل مكوناتها.
أهداف حماس من العلاقة مع أوروبا:
1- تحقيق الإقرار الأوروبي بدور حماس كلاعب لا يمكن تجاوزه في الشأن الفلسطيني.
2- التخلص من قائمة المنظمات الإرهابية الأوروبية، والحصول على الشرعية الدولية التي تُعينها، بالإضافة لشرعيتها الوطنية، في تمثيل وقيادة الشعب الفلسطيني.
3- التخفيف من معاناة الشعب الفلسطيني ورفع الحصار الخانق المفروض عليه، لا سيما في قطاع غزة.
4- عدم حصر الوساطة مع “إسرائيل” في دول معينة، والاستفادة من أوروبا كوسيط مقبول من الطرفين.
5- تجاوز حالة الفراغ السياسي التي يعيشها الإقليم، وعدم ترك القضية الفلسطينية تعيش حالة فراغ ومراوحة، بانتظار التغيير في المشهد الإقليمي والعربي.
فرص تطور العلاقة واحتمالات نجاحها:
تبدو العلاقة بين حماس والأوروبيين قابلة للاستمرار والتطور، وذلك لقوة حماس ودورها الفاعل في الحالة الفلسطينية، سواء في قطاع غزة الذي تسيطر عليه بشكل كامل أم في الضفة الغربية التي، وفقاً للعديد من المؤشرات، تحظى فيها الحركة بشعبية كبيرة، أم في أوساط فلسطينيي الشتات الذين أهملتهم م.ت.ف بشكل كبير بعد قيام السلطة في الداخل. كما أن وصول مشروع التسوية وفق صيغة أوسلو إلى نهاياته وفشله في تقديم حلّ قابل للحياة للقضية الفلسطينية وما ترتب عليه من تراجع للقوى السياسية الراعية له وبالذات حركة فتح، يجعل الأوروبيين حريصين على التعرف على المرشح لوراثة المشروع السياسي الفلسطيني ومحاولة التأثير فيه؛ خصوصاً وأن هذا التراجع يتزامن مع التغيير في الإقليم وانهيار عدد من الدول الرئيسية فيه، وزيادة حضور الحركات الإسلامية بتوجهاتها المختلفة، مما يجعل من بناء علاقة مع حماس كحركة إسلامية معتدلة فكرياً أمراً مهماً.
ستبقى أوروبا هي الجهة الدولية الأكثر حرصاً على “إسرائيل”، بعد الولايات المتحدة، فهي من أَسّس ورعى وحمى هذا الكيان لعقود، ولاعتبارات كثيرة ستبقى حريصة على مصالح “إسرائيل” ودورها، لذا ستتعامل مع كل القوى الفاعلة والمؤثرة في المنطقة والتي يمكن أن تؤثر على مستقبلها. كما أن قرب أوروبا من المنطقة العربية وارتباطها بعلاقة تاريخية بالإقليم يجعلها أقدر على فهم متطلبات التعامل معه. وبما أن التطورات في الإقليم تؤثر بشكل كبير على أوروبا لاعتبارات جيوسياسية واقتصادية وأمنية، فيبدو أن التطرف المتزايد في المنطقة، والمرتبط أساساً بالتطرف الغربي في التعامل مع شعوب وقضايا المنطقة، قد يدفع الغرب للتعامل مع القوى الإسلامية الواقعية والمعتدلة وتعزيز علاقته بها لأسباب براجماتية بحتة.
سيناريوهات الحراك الأوروبي تجاه حماس وقطاع غزة:
السيناريو الأول: أن يكون الحراك تكتيكياً ومناورة تهدف إلى حرق الوقت، وتمكين “إسرائيل” من إعادة ترتيب أوراقها، لا سيما العسكرية منها، وسدّ الثغرات التي كشفت عنها الحرب الأخيرة، والحيلولة دون انفجار الأوضاع في قطاع غزة في توقيت لا ترغبه “إسرائيل”. وكذلك تهدف إلى استكشاف الموقف السياسي لحماس.
والسيناريو الثاني: التهدئة مقابل التنمية: الرغبة في حلّ مشاكل القطاع ورفع الحصار عنه ونقله إلى حالة البناء والتنمية لمنع انفجار حرب جديدة، بهدف العمل على تطويع القطاع “المتمرد”، الذي فشلت ثلاثة حروب في كسر إرادته، عبر إشغاله بالتنمية وبناء حالة اقتصادية وعمرانية يصعب معها على صانع القرار أن يغامر بما يمكن أن يتم بناؤه لأن هناك الكثير مما قد يخسره، وبالتالي يخشى أن يذهب إلى حرب تعيد القطاع إلى الحالة التي هو عليها الآن، وبذلك يتم ردع المقاومة بعيداً عن القوة العسكرية.
أما السيناريو الثالث: أن تكون المبادرة المطروحة للتهدئة مقابل الإعمار هي مدخل وخطوة أولى نحو مسار سياسي جديد تجاه القضية الفلسطينية، يسعى الطرف الأوروبي أن تكون فيه حماس طرفاً رئيسياً وشريكاً أساسياً.
السيناريو المرجح:
السيناريو الثاني هو المرجح، وهو الذي يركز على فكرة التهدئة مقابل التنمية، وذلك للاعتبارات الآتية:
1- فشل الحلول العسكرية في إخضاع قطاع غزة والمقاومة فيه، حيث إن ثلاثة حروب في غضون خمس سنوات لم تجبر المقاومة على الرضوخ للشروط الإسرائيلية والدولية وبالذات شروط الرباعية.
2- عدم وجود رغبة إسرائيلية في خوض حروب جديدة على قطاع غزة، في المدى المنظور، لاعتبارات عسكرية وأمنية، ولفشلها في تحقيق أهدافها المعلنة من الحروب السابقة؛ وكذلك لما تشكله هذه الحروب من مآزق وإشكالات سياسية وحقوقية على المستوى الدولي؛ نظراً لحجم الجرائم والمجازر التي ارتكبتها في الحروب السابقة والتي تَحوّل جزء منها إلى ملفات قانونية قد تُستخدم ضد “إسرائيل” في المحاكم الدولية.
3- الحصار الاقتصادي وخنق قطاع غزة وعزله عن العالم زاد من شدَّة المقاومة وقوتها، ولم يؤثر على دعم واحتضان الشعب الفلسطيني لها.
4- الرغبة لدى الإسرائيليين والأوروبيين في تجربة مقاربة جديدة في التعامل مع قطاع غزة والمقاومة فيه، ترتكز إلى “التنمية مقابل الهدوء”. والتي تهدف إلى إعطاء الشعب الفلسطيني في القطاع فرصة للانشغال بالبناء والتنمية والاهتمام بشؤونهم الحياتية، مع قدر معقول من التحسُّن الاقتصادي الذي قد يُغيّر في أولوياتهم ويصرفهم عن المقاومة والحروب.
5- عدم وجود أفق سياسي واضح للتعامل مع المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس، في ظل رفضها لشروط الرباعية ومبادرة السلام العربية، مما يجعل المسار السياسي مع هذه الحركة غير مشجع، ويُبقي التواصل الموجود حالياً تكتيكياً واستكشافياً.
6- في ظل الحرب الشرسة على حركات الإسلام السياسي في المنطقة، لا سيما المعتدلة منها والتي يرعاها الغرب، لا يبدو منطقياً مساعدة أحد أهم هذه الحركات على تحقيق انجازات سياسية تقوي من موقفها المحلي والإقليمي والدولي.
7- إن البدء بمسار سياسي مع المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة حماس يعني فيما يعنيه نهاية مسار التسوية الذي تقوده حركة فتح، وقد يعني تفكيك السلطة الفلسطينية، وهو أمر لا يمكن أن يحتمله الواقع الإقليمي والدولي في هذه المرحلة.
كما يلاحظ فالنقاط الأربعة الأولى تُقوي الميل نحو السيناريو الثاني، كما أن النقاط الخامسة والسادسة والسابعة تُضعف أو تنفي السيناريو الثالث.
توصيات:
1- أخذ العبرة من تجربة حركة فتح و م ت ف في الانفتاح على أوروبا، وما ترتب عليه من أثمان سياسية ووطنية باهظة، وبالتالي عدم التسرع في التعاطي مع الانفتاح الأوروبي.
2- عدم المبالغة في الاعتماد على العلاقة مع أوروبا لإنجاز أي من الحقوق الفلسطينية، نظراً للانحياز الأوروبي التاريخي لـ”إسرائيل”.
3- إشراك القوى الوطنية الفلسطينية، لا سيما قوى المقاومة، في الحوارات الدائرة مع الأوروبيين، خصوصاً إذا تطورت الاتصالات إلى مفاوضات.
4- اعتماد الشفافية والوضوح وبالذات أمام الجمهور الفلسطيني، الذي اكتوى بنار الحوارات والمفاوضات السرية، وفقد الثقة في نتائجها.
5- إن أي اتفاق محتمل بشأن التهدئة يجب أن يتم في إطار توافق وطني، وخصوصاً قوى المقاومة في قطاع غزة، وألا يرتبط بتقديم المقاومة لأثمان سياسية، وفي ضوء رفض أي محاولات لفصل القطاع عن الضفة الغربية، وفي ضوء حماية برنامج المقاومة والمحافظة على دعم حاضنتها الشعبية.
6- لا ينبغي أن يشكل هذا المسار، حتى وإن كان جاداً وفعالاً، بديلاً عن مسار المصالحة الوطنية الفلسطينية، وإعادة بناء المؤسسات الوطنية الفلسطينية، بما فيها م.ت.ف، على أسس من الشراكة والتكامل.
* يتقدم مركز الزيتونة للدكتور أحمد عطاونة بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.
لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:
>> تقدير استراتيجي (79): الاتصالات الأوروبية الحمساوية وجهود التهدئة في غزة (6 صفحات، 82 KB) |
أضف ردا