بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
مسكين ذلك الشيء الذي اسمه “المجلس الوطني الفلسطيني”!
هذا المجلس الذي يفترض أن يُعبِّر عن إرادة الشعب الفلسطيني، وعن عزته وكرامته، وأن يمثل مظلَّة حضارية للقوى والفصائل والتيارات والمؤسسات الشعبية والشخصيات الفلسطينية؛ وأن يُعبِّر عن حيوية الشعب وقدرته على أن يثبت أنه شعب يستحق الحياة والعودة والانتصار.. هذا المجلس تحوَّل إلى مجرد “دمية” أو “أداة” بيد قيادة منظمة التحرير أو قيادة فتح، وأصبح ضمن ديكورات “الشرعية الفلسطينية”.
فهو غائب و”شاهد ما شافش حاجة” عندما يتعلق الأمر بدوره الأساسي والمهام التي وجد من أجلها، فلا رقابة ولا متابعة ولا محاسبة، ولا قدرة على الانعقاد، ولا تمثيل حقيقيا لأوزان وقوى وشرائح الشعب الفلسطيني، وهو نفسه مُنتهي الصلاحية، عوضا عن أن يكون قادرا عن إنهاء صلاحية من انتهت صلاحيته!
هو حاضر و”ملء السمع والبصر” عندما يتعلق الأمر باستحقاقاتٍ، تريد قيادة المنظمة أو قيادة فتح تمريرها، حيث يتم إيقاظه من “غرفة الإنعاش” أو “ثلاجة الموتى” ليوفر لها الأختام اللازمة.
في سنة 1968، عندما كان يتم التفاوض مع حركة فتح على إعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني، كمدخل لها إلى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، أصرَّت فتح على أن يتم تشكيل مجلس وطني فاعل يتصف بالحيوية، ويسهل عليه الاجتماع؛ فتم تخفيض عدد أعضاء المجلس من نحو 450 عضوا إلى نحو مئة عضو فقط، هم أعضاء المجلس الوطني الرابع الذي انعقد في صيف 1968.
غير أن هذا المجلس عاد إلى الترهل من جديد، تحت إدارة فتح وهيمنتها، فتزايد عدد أعضائه تدريجيا حتى وصل نحو 450 عضوا في المجلس التاسع عشر الذي انعقد في سنة 1988.
هذا الترهل صاحبته فوضى لا تليق بمجلس يمثل شعبا مناضلا عندما أضافت قيادة المنظمة (قيادة فتح) نحو أربعمئة عضو آخر في المجلس الذي عُقد في أبريل/نيسان 1996؛ وبطريقة غير مفهومة أو مبررة تشريعيا أو مؤسساتيا…، ليصل العدد إلى نحو ثمانمئة عضو، دون علم رئاسة المجلس (سليم الزعنون)، ودون أخذ موافقتها، ودون إحالة الأسماء الجديدة إلى لجان المجلس المعنية بإجراء الترتيبات اللازمة للعضوية.
ولم يكن ثمة مبرر ظاهر سوى أن هذا المجلس مطلوب منه أن ينعقد في الداخل الفلسطيني في غزة (لأول مرة تحت الاحتلال)، وأن يوفر الأغلبية اللازمة لانعقاده، ولإقرار قضية أساسية واحدة هي اتفاقات أوسلو، وإلغاء كافة بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تتعارض مع ذلك؛ وهي -بالمناسبة- معظم بنود الميثاق!
من جهة ثانية، فإن هذا المجلس -الذي يُفترض رسمياً أن يجتمع بشكل سنوي، وأن يتم تجديده كل ثلاث سنوات- لم يجتمع طوال الـ24 سنة الماضية (منذ 1991) إلا اجتماعا واحدا سنة 1996 (على ما فيه من ثغرات)، كما التقى أعضاؤه بشكل “احتفالي” في 14 ديسمبر/كانون الأول 1998 بحضور الرئيس بيل كلينتون “ليباركوا” إلغاء بنود الميثاق الوطني؛ ثم التقوا لقاءً طارئا في رام الله في 25 أغسطس/آب 2009 بحضور أقل من نصف الأعضاء (حضور 325 من أصل ما يزيد على سبعمئة عضو ممن بقوا على قيد الحياة) لتنفيذ طلب واحد، هو استكمال أعضاء اللجنة التنفيذية بعد شغور ستة مقاعد بالوفاة.
أي إن هذا المجلس لم يقم طوال 24 عاما بمهامه الحقيقية، وكان فقط رهن “الاستدعاء” لتمرير رغبات قيادة المنظمة وفتح؛ بما في ذلك تغيير الهوية الأصلية لمنظمة التحرير والمهام الأساسية التي نشأت من أجلها.
***
من جهة ثالثة، فإن المجلس الوطني الفلسطيني عانى من هيمنة فصيل واحد عليه، هو حركة فتح، طوال الـ47 عاما الماضية (منذ 1968). ولم يعد يعكس إطلاقا (ومنذ سنوات طويلة) تمثيلا حقيقيا لقوى وتيارات وفصائل الشعب الفلسطيني.
فقوى المقاومة الفلسطينية الإسلامية وتحديدا حماس والجهاد الإسلامي التي تمثل شرائح واسعة من الشعب الفلسطيني، غائبة تماما عن المجلس وغير ممثلة فيه. وهي بالتالي غير متواجدة لا في المجلس المركزي ولا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.
وفي أوضاع غير سويّة كهذه، نلاحظ وجود قوى هامشية أو ضئيلة الشعبية ممثلة بأكثر بكثير من حجمها الحقيقي في قيادة المنظمة التي ينتخبها المجلس. فمثلا كان ياسر عبد ربه قد دخل اللجنة التنفيذية ممثلا عن حزب فدا، ثم استقال منه، ولم يعد ممثلا له، واستمر مع ذلك في عضويتها. ثم دخل بعد ذلك إلى جانبه صالح رأفت ممثلا عن حزب فدا نفسه؛ مع العلم أن هذا الحزب بالإضافة إلى فصيلين آخرين تحالفا معه في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني سنة 2006 لم يستطيعوا مجتمعين سوى الحصول على مقعدين اثنين فقط من مقاعد المجلس الـ132.
ومع ذلك فقد ظل لهم حتى الآن (إذا ما احتسب عبد ربه) أربعة مقاعد من مقاعد اللجنة التنفيذية الـ18. أما حماس التي فازت بـ74 مقعدا من مقاعد التشريعي، فليس لها وجود في التنفيذية.
في سنة 2005، وبعد أن عقدت الفصائل الفلسطينية اتفاق القاهرة (17/3/2005)، تم التوافق على إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى تفعيل مؤسساتها، بما في ذلك المجلس الوطني الفلسطيني. وكان هناك توافق فلسطيني على تشكيل مجلس وطني جديد من نحو ثلاثمئة عضو، نصفهم من الداخل (الضفة والقطاع) والنصف الثاني من الخارج؛ وقد تحدث عن ذلك في حينه رئيس المجلس سليم الزعنون ونائبه تيسير قُبعة.
وكان هناك توافق أن يُمثَّل الداخل انتخابيا من خلال الأعضاء الفائزين في انتخابات المجلس التشريعي. غير أنه عندما فازت حماس بالأغلبية الساحقة للمجلس التشريعي، قامت قيادة المنظمة (أو بالأحرى قيادة فتح) بتعطيل مسار تشكيل المجلس الوطني. وتراجع سليم الزعنون (عضو اللجنة المركزية لحركة فتح) عن تصريحاته السابقة، وأعلن عن إصراره على بقاء كل أعضاء المجلس السابقين، الذين ما زالوا على قيد الحياة، وهم 717، في عضوية المجلس الجديد على أن يضاف لهم أعضاء المجلس التشريعي المنتخب!
وطوال السنوات التسع التالية وحتى الآن (2015)، لم تقم قيادة فتح التي تهيمن على منظمة التحرير والمجلس الوطني بعمل أي إجراء جاد وعملي يفتح المجال لإصلاح وتفعيل حقيقي للمجلس الوطني أو المنظمة. وإذا كان ثمة من يعترض على ذلك بالقول إن الأمر مرهون بالانتخابات الجديدة للمجلس التشريعي؛ فعليه أن يوضح:
– لماذا لم يُفعّل أبو مازن الإطار القيادي المؤقت للشعب الفلسطيني المتفق عليه في اتفاق المصالحة المعقود في مايو/أيار 2011، ولماذا يعطله ويمنعه من القيام بدوره؟
– لماذا دعا إلى عقد جلسة للمجلس الوطني في أغسطس/آب 2009 في أثناء مناقشات المصالحة، غير آبه باعتراضات وملاحظات القوى والشرائح الواسعة غير الممثلة في المجلس؟
– لماذا دعا إلى عقد جلسة للمجلس أيضا في سبتمبر/أيلول 2015 دون احترام لأي من استحقاقات المصالحة الفلسطينية أو مساراتها، أو غير منتظر لنتائج انتخابات المجلس التشريعي الموعود؟
– إذا كان أبو مازن وقيادة فتح تحترم الشرعية الفلسطينية، فلماذا تمنع منذ ثماني سنوات انعقاد جلسات المجلس التشريعي الفلسطيني، وتمنع تفعيله وقيامه بدوره إلى حين انتخاب مجلس تشريعي جديد؟
يظهر أن أبا مازن (والقيادة المتنفذة معه) تتعامل مع المجلس الوطني ومع اللجنة التنفيذية لقيادة المنظمة، باعتبارها “شأنا” خاصا بها أو بفصيلها، وليس بيتا للشعب الفلسطيني.
الجانب الرابع الذي يجدر التوقف عنده هو أن المجالس الوطنية التي انعقدت بعد 1991، بالرغم من هامشيتها وشكليتها، انعقدت في بيئة يحكمها الاحتلال الإسرائيلي.
وطوال تاريخها، كانت قيادة فتح تفخر بـ”القرار الوطني الفلسطيني المستقل”، وتعدُّه معلما بارزا من معالم النضال الفلسطيني؛ غير أن هناك سؤالا حيويا عن كيفية إنفاذ هذا “القرار المستقل” بعقد المجلس تحت الاحتلال؟! وكيف يمكن تمثيل فلسطينيي الخارج وقوى المقاومة الفاعلة في أي مجلس وطني قادم، دون أن يأخذ تأشيرة الاحتلال، ودون أن يخضع الدخول والخروج والانعقاد لمزاج الاحتلال؟
اللافت للنظر، أن منظمة التحرير الفلسطينية عقدت كل مجالسها الوطنية بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع وحتى 1991 خارج الأرض المحتلة. والأهم من ذلك، أنها لم تكن تحتسب أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني في نصاب الحضور في كل مجالسها، بحجة أنهم تحت الاحتلال ويتعرضون لضغوطه بما في ذلك قدرتهم على الدخول والخروج.
أي أن فلسطينيي الخارج كانوا يمثلون مئة بالمئة (100%) من الحضور أو النصاب القانوني للانعقاد والتصويت واتخاذ القرارات.
أما الآن، فإن أحد مستشاري الرئيس عباس (وغيره عديدون) يدعون إلى انعقاد المجلس الوطني القادم في “أرض الوطن”، وكأنه لا يوجد احتلال أو هيمنة إسرائيلية.
باختصار، إن القرار الوطني الفلسطيني المستقل يعني مجلسا وطنيا حقيقيا فاعلا، وهذا يعني أنه لا يمكن انعقاده في ظروف يهيمن عليها العدو المحتل.
ومن جهة خامسة، فإن متوسط أعمار أعضاء المجلس الوطني الذي لم يجر تجديده منذ سنة 1996 هو حوالي سبعين عاما. وحتى أولئك الذين يمثلون شرائح كالطلاب تصل أعمارهم إلى نحو ستين عاما، وهو ما ينطبق على الشرائح الشعبية الأخرى.
وإننا إذ نحترم ونقدر حكمة “الختيارية”، فلا يمكن لمجلس بهذه الطريقة أن يعبر عن حيوية وفاعلية وديناميكية الشعب الفلسطيني وقطاعاته المختلفة؛ ولا يمكن أن يتجاوز حقائق الواقع التي فرضها وجود أجيال جديدة شابة تملك طاقات وإمكانات هائلة، وتقاوم الاحتلال بكافة أشكاله، وتتفاعل مع نبض الشارع الفلسطيني وهمومه، ثم لا تجد لنفسها مكانا تحت مظلةٍ تمثِّل الشعب الفلسطيني.
وأخيرا، فالمجلس الوطني الفلسطيني سيبقى للأسف “حيطة واطية” أو “ختم شرعية” للفصيل المتحكم في منظمة التحرير، وسيظل أسيرا للمسارات التي يرسمها أو يفرضها.
وعلى ذلك، فإنه لا قيمة لأي دعوة لانعقاد هذا المجلس ما لم يتم إعادة تشكيله على أسس وطنية شاملة، وعلى قواعد التوافق الوطني، ومشاركة كافة القوى الفلسطينية مشاركة حقيقية تعبر عن أوزانها في الشارع الفلسطيني، وتعبر عن تطلعات الشعب الفلسطيني وثوابته، وسعيه للنصر والتحرير.
أضف ردا