بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
منذ وجد الاحتلال في فلسطين، وجدت المقاومة ولم تتوقف. ذلك أن فلسطين بأقصاها وقدسها ومقدساتها وبركتها وعمق مكانتها في قلوب مئات الملايين تشكل بحد ذاتها برنامجا ملهما للتضحية والعطاء.
الشكل الموجي للمقاومة
المقاومة في فلسطين تأخذ شكلا موجيا تصعد وتهبط مدا وجزرا تتقد جذوتها فتشغل العالم.. أو تخبو فينشغل عنها الناس.. لكنها لا تنطفئ ولا تتوقف.
من ثورة القدس سنة 1920 مرورا بثورة يافا 1921 وثورة البراق 1929 وانتفاضة 1933 وإعلان القسام للجهاد 1935 والثورة الكبرى 1936-1939، وحرب 1948، ثم متابعة للمسيرة بانطلاقة العاصفة سنة 1965 والثورة الفلسطينية المعاصرة، والانتفاضة المباركة 1987-1993، وانتفاضة الأقصى 2000-2005، وصولا إلى حروب المقاومة في قطاع غزة ضد الاحتلال 2008-2009، و2012، و2014، كلها موجات متتابعة لجهاد أبناء فلسطين وتضحياتهم.
الجسد الفلسطيني الذي أثخنته جراح الاحتلال وأوجعه الخذلان العربي والإسلامي والدولي، وأغضبه وأثقل كاهله وجود قيادات فلسطينية دون مستوى عطائه بكثير.. ما زال قادرا على البذل والتضحية، وهو في كل مرة يفاجئ الجميع بقدراته وإبداعاته.
الأقصى مصدر إلهام
يظل الأقصى وتظل القدس والهوية الإسلامية لفلسطين مصدر إلهام وتعبئة، وحافزا دائما للمقاومة.. فأول ثورة في فلسطين كانت في القدس، وأول ثورة عمت كل أرجاء فلسطين كانت ثورة البراق في مواجهة الاستفزازات والادعاءات الصهيونية في الحائط الغربي للمسجد الأقصى المعروف بحائط البراق، وانتفاضة 1933 كان المسجد الأقصى منطلقا أساسيا لمظاهراتها.. والروح الإسلامية كانت حاضرة بقوة في الثورة الكبرى 1936-1939، وكذلك في انتفاضة 1987 التي شهدت إعادة انطلاق واسعة للتيار الإسلامي.
أما انتفاضة 2000-2005 فإن اسمها الأشهر والأعم هو انتفاضة الأقصى حيث اندلعت شرارتها بسبب اقتحام زعيم الليكود (ورئيس الوزراء الإسرائيلي لاحقا) أرييل شارون للمسجد الأقصى. وها هي الانتفاضة الحالية تنطلق دفاعا عن الأقصى والقدس.
إن الفتيان والشبان الذين يخوضون فعاليات الانتفاضة الحالية لم ينتظروا إذنا من قيادات سياسية أو فصائلية.. بادروا بأنفسهم، وخرجوا بالآلاف انتصارا للأقصى والقدس.. العديد ممن قاموا بعمليات بطولية لم يكن لهم انتماء تنظيمي فصائلي.. فهم يعبرون عن أصالة هذا الشعب واستعداده للتضحية.. كما أن المدى الذي وصلت إليه الغطرسة والعجرفة الإسرائيلية والعدوان على القدس والمقدسات بلغ حدا لم يعد من الممكن احتماله.. ولم يعد الشباب بحاجة إلى من يستنهضهم ويؤطرهم في التنظيمات حتى يقوموا بفعالياتهم.
الفعل الشعبي الواسع وروح المبادرة والتضحية ميزت أبرز الانتفاضات والثورات الفلسطينية في مراحلها الأولى على الأقل، حتى إن أحمد الشقيري أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية لاحظ تلك الروح المبادِرة وعلق قائلا إن الشعب الفلسطيني شعبٌ يقود قيادته!!
وربما شاركت فصائل فلسطينية في البدايات، لكن الحراك الشعبي الهائل يكون عادة أكبر من حجم وشعبية أي فصيل وقدرته على التعبئة. غير أن الفعل الانتفاضي لا يمكن أن يظل عفويا وإلا فقد يفقد زخمه تحت قمع الاحتلال.. وقد يفقد بوصلته إذا لم يكن له “عقل سياسي” وبرنامج عمل.. وأداء منظم يستطيع من خلاله الاستمرار والتكيف وتطوير الفعاليات ومواجهة إجراءات الاحتلال.
ولذلك تتولى قوى وفصائل المقاومة عبء المتابعة والتصعيد.. بينما يحدث في الوقت نفسه أن تحاول قيادات سياسية لا تمارس العمل المقاوم (وربما لا تؤمن به) ركوب الموجة وتوظيفها لتحقيق بعض المكاسب التكتيكية، حتى وإن اقتضى الأمر “بيع” تضحيات الانتفاضة بثمن بخس دراهم معدودة!!
فلسطين الجامعة
الانتفاضة والمقاومة في فلسطين لها طعم خاص، فمكانة فلسطين الراسخة في قلب كل مسلم وعربي، والعداء العميق للمشروع الصهيوني لديهم ولدى كل محبي العدل والحرية، يعطي ميزة كبرى للفعل المقاوم، إذ إنه عندما تتصاعد أحداثه فإنه سرعان ما يفرض نفسه على البيئة الإقليمية والدولية وعلى وسائل الإعلام المحلية والعالمية، وينتقل ليكون مركز الحدث في المنطقة، مهما كانت انشغالاتها وهمومها وجراحاتها.
إنها تعكس حالة من الإدراك بأن العدو الحقيقي للأمة هو المشروع الصهيوني، وأنه سبب أساسي في معاناتها وآلامها ومشاكلها.. وأن زواله سيزيل عقبة رئيسية أمام نهضتها وتقدمها ووحدتها. ولذلك كلما هبت انتفاضة في فلسطين أو حدثت مواجهة واسعة مع الصهاينة، لاحظنا أن ثمة ثلاث مظاهر تترافق معها:
1- فلسطين الجامعة: فقضية فلسطين تتميز بأنها تجمع العرب والمسلمين وتوحدهم مهما كانت خلافاتهم ونزاعاتهم، عندما يتعلق الأمر بالمقاومة وبالتصدي للمشروع الصهيوني.
2- فلسطين الرافعة: فقضية فلسطين ترفع سوية الأمة، وترتقي باهتمامات الناس، حيث يتجاوزون قضاياهم الشخصية والحزبية والذاتية، إلى قضايا واهتمامات أكبر متصلة بالأمة ونهضتها ومواجهتها للتحديات ومصيرها. كما يقدم نموذج التضحية والصمود الفلسطيني رافعة معنوية ونموذجا ملهما لكل من ينشد مواجهة الظلم ولكل من ينشد التغيير واستنهاض الشعب والطاقات في بلده.
3- فلسطين البوصلة: حيث تعيد قضية فلسطين توجيه البوصلة نحو تحرير الأقصى والقدس وباقي فلسطين وضد العدو المشترك للأمة أي العدو الصهيوني، بحيث تجدد الإدراك بالتحديات الكبرى التي تواجهها الأمة، وبالأولويات التي يجب الانشغال بها، وبتجاوز القضايا الهامشية لصالح تسديد المسيرة وتحقيق الأهداف الكبرى.
بيئة الانتفاضة
ليس صحيحا الربط بين هذه الانتفاضة وخطاب الرئيس عباس في الأمم المتحدة حيث قال بعض المحللين إنها جاءت في اليوم التالي للخطاب، محاولين الإيحاء بأن ثمة تبنيا من أبي مازن وقيادة السلطة لهذه الانتفاضة ضمن سقف سياسي يسعون لتحقيقه، فأبو مازن نفسه يرفض كل أشكال “العنف”، وبالتالي يرفض أبرز ما ميز هذه الانتفاضة وأعطاها جوا من الحيوية والتصعيد، وهي الهجمات بالسكاكين على الجنود والمستوطنين الصهاينة.
كما أن قيادات السلطة سارعت بالتواصل مع الفعاليات الفصائلية والشعبية طالبة منها التهدئة، ثم إن هذه الانتفاضة تركزت أساسا في منطقة القدس حيث تغيب السلطة الفلسطينية، وحيث يتعامل شباب الانتفاضة مباشرة مع الاحتلال. كما أن أبا مازن لم يفجر “القنبلة” التي وعد بها في الأمم المتحدة، وجاء خطابه محبطا ودون المستوى المطلوب بكثير.
أما الجانب الأبرز في انطلاقة الانتفاضة فقد أتى في سياق مواجهة التعديات والاقتحامات الصهيونية للمسجد الأقصى، وتضامنا مع المرابطين والمرابطات الذين دافعوا عن المسجد، والذين قاموا بأدوار بطولية رائعة في مواجهة المعتدين الصهاينة. فمنذ 26 يوليو/تموز 2015 صعد المتطرفون اليهود من اقتحاماتهم للمسجد الأقصى برعاية الحكومة الإسرائيلية وحمايتها. ثم قامت السلطات الإسرائيلية في 9 سبتمبر/أيلول بحظر مؤسسة عمارة الأقصى والمقدسات التي تدعم مصاطب ودور العلم كما تدعم المرابطين والمرابطات في المسجد الأقصى.
وقد تصاعدت المواجهات بين المرابطين في الأقصى وبين المستوطنين وقوات الاحتلال في منتصف سبتمبر/أيلول، ثم وصلت ذروتها في 22 سبتمبر/أيلول في ذكرى احتفال اليهود بعيد الغفران.. أما العمليات التي أعطت للانتفاضة معنى خاصا ورافقتها أجواء توسع الفعاليات فتعود إلى عملية نابلس التي نفذتها حماس في مطلع أكتوبر/تشرين الأول وأدت إلى مقتل اثنين من المستوطنين الصهاينة، وعملية الهجوم بالسكين (ثم بالسلاح الذي انتزعه) التي قام بها مهند الحلبي بعد ذلك بيومين، وأدت إلى مقتل صهيونيين اثنين وجرح ثلاثة آخرين.
السلطة الفلسطينية، من جهة أخرى، لا تزال غارقة في التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، وتبذل جهودا كبيرة لمنع انتشار الانتفاضة إلى مناطق سيطرتها في الضفة الغربية. وحسب تقرير لجنة أهالي المعتقلين في الضفة الغربية تابعت أجهزة أمن السلطة ملاحقتها لعناصر المقاومة، ونفذت في سبتمبر/أيلول الماضي فقط 82 عملية اعتقال، حيث كان من بين المعتقلين 52 أسيرا محررا. واستمرت في استدعاء واعتقال الشباب و”المحرضين” على الانتفاضة بشكل مترافق مع تصاعد الانتفاضة نفسها.
موجة ثورية
تحمل البيئة الحالية ظروف تفجير انتفاضة واسعة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، فالاعتداءات الصهيونية المتواصلة على المسجد الأقصى والقدس استثارت المشاعر في كل مكان. والحكومة الإسرائيلية، من ناحية ثانية، تمارس سياسة عدوانية متطرفة ضد الأرض والإنسان، ولا تعبأ بأي اتفاقيات ومعاهدات والتزامات.
والسلطة الفلسطينية وقيادتها، من جهة ثالثة، تقف عاجزة في مواجهة الغطرسة الصهيونية بعد أن وصل مشروع التسوية السلمية “للمرة الألف” إلى طريق مسدود، وبعد أن تحولت السلطة عمليا إلى أداة وظيفية تخدم أغراض الاحتلال أكثر مما تخدم المشروع الوطني الفلسطيني. ومن ناحية رابعة، فإن المبادرات الشعبية الشبابية الواسعة وفرت أجواء وحدة وطنية تتجاوز أجواء الانقسام والحسابات الفصائلية، مما يوجد بيئة انتفاضية أفضل.
غير أن هذه الانتفاضة تواجه مخاطر حقيقية لخنقها وإطفاء جذوتها، وحتى تستطيع الانتفاضة الاستمرار والانتشار في موجة ثورية جهادية جديدة، فعليها أن تتعامل مع تحديين اثنين:
الأول: مزيدا من الصبر والإصرار المترافق مع الفعاليات الانتفاضية حتى تتجاوز الانتفاضة عنق الزجاجة، وتفرض نفسها لتصبح هي الحالة العامة في التعامل مع العدو المحتل. وهذا يستدعي مزيدا من التعبئة وتحشيد الطاقات، وأن تتحول من الحالة العفوية إلى الحالة المنظمة التي تنخرط فيها كل قوى المقاومة، وأن يكون لها رؤية سياسية واضحة مرتبطة بدحر الاحتلال، وأن ترفض أن توظف سياسيا لمجرد تحسين بعض التكتيكات التفاوضية أو تحسين شروط الاحتلال.. فمسار التسوية الحالي لا يستحق أن تبذل لأجله قطرة دم فلسطينية واحدة.
والثاني: أن ترفع الأجهزة الأمنية للسلطة يدها وسطوتها عن الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية، وأن تكف عن ملاحقة المنتفضين وعناصر المقاومة، وأن توقف التنسيق الأمني مع الاحتلال. إذ ليس هناك شيء تبكي على خسارته هذه السلطة وهذه الأجهزة.
وأخيرا، فإن الموجة الجهادية الثورية الجديدة قادمة بإذن الله في فلسطين عاجلا أم آجلا، وقد تستطيع قوات الاحتلال أو أجهزة السلطة تعطيلها أو تأخيرها لكنها لن تتمكن من إيقافها. وبالتالي فإن السؤال الأساس سيكون حول كيفية دعم هذه الانتفاضة وتقويتها وترشيدها وتحقيق أهدافها.
أضف ردا