تقدير استراتيجي (84) – تشرين الثاني/ نوفمبر 2015.
ملخص:
امتازت فترة حكم حزب العدالة والتنمية في تركيا منذ سنة 2002 بسياسة خارجية نشطة ومتفاعلة مع قضايا المنطقة، مع اهتمام خاص بالقضية الفلسطينية . بيد أن انتخابات 7/6/2015، والتي خسر فيها الحزب الحاكم أغلبيته البرلمانية، قد ألقت بظلال من الشك حول مستقبل تجربة الحزب وسياسته الخارجية الخلافية مع أحزاب المعارضة، في ظلّ تراجعات تكتيكية من أنقرة في عدة ملفات إقليمية.
ومع انتخابات 1/11/2015، والتي أعادت الحزب إلى إمكانية تشكيل الحكومة بمفرده بأغلبية مريحة، باتت الحاجة ملحة لإعادة تقييم مرتكزات ومحددات السياسة الخارجية التركية إزاء القضية الفلسطينية، واستشراف إمكانية تأثرها بالتطورات السياسية داخلياً وخارجياً، وفق عدة سيناريوهات:
الأول: تراجع سياسة أنقرة تجاه القضية الفلسطينية، بفعل الانكفاء على المشاكل الداخلية، واستجابة للضغوط والتأثيرات الإقليمية والدولية.
الثاني: ثبات موقف تركيا من القضية على شكلها الحالي، دون تعرضها لهزات شديدة أو تحقيقها إنجازات مرتقبة.
الثالث: استفادة العدالة والتنمية من تثبيت نفسه في المعادلة الداخلية لتحقيق اختراقات ونجاحات تركية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. ويظهر أن سيناريو ثبات الموقف التركي على شكله الحالي هو السيناريو المرجح.
مقدمة:
على مدى عشرات السنين، سارت تركيا في سياستها الخارجية في الطريق الذي رسمه لها مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك Mustafa Kemal Atatürk، بحيث كانت أهم ملامح هذه السياسة هي التوجه للغرب تحت اسم التحديث وإدارة الظهر لمنطقة الشرق الأوسط . وبذلك أصبحت العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية محور المصالح السياسية، وعضوية حلف شمال الأطلسي الناتو North Atlantic Treaty Organization (NATO) محور المصالح العسكرية والاستراتيجية، وعملية الانضمام للاتحاد الأوروبي محور المصالح الاقتصادية .
وفي المرات القليلة التي تدخلت فيها تركيا في قضايا المنطقة، وخصوصاً ما يتصل بالقضية الفلسطينية، كان تدخلها مضراً للدول العربية وفي صالح دولة الاحتلال التي ربطتها بها علاقة خاصة، فكانت أول دول العالم الإسلامي اعترافاً بها، ثم أبرمت معها ومع إثيوبيا اتفاقية حزام المحيط (The Peripheral Pact Treaty) سنة 1958 ، وتعاونت معها استخباراتياً وعسكرياً على مدى سنوات طويلة ، فضلاً عن دورها في حربي الخليج الأولى والثانية بشكل عام.
بيد أن وصول حزب العدالة والتنمية Justice And Developement Party (AKP) للحكم سنة 2002 حمل معه تغييراً —بالأحرى إعادة تفسير أو صياغة— لمجمل السياسات التركية ومن ضمنها السياسة الخارجية، بعد إعادة تعريف تركيا لنفسها وموقعها ودورها، وكان للقضية الفلسطينية حصة الأسد من الاهتمام التركي بقضايا الإقليم وبشكل لافت للنظر.
أولاً: مع العدالة والتنمية:
في كتابه “العمق الاستراتيجي” سطر أحمد داود أوغلو Ahmet Davutoğlu رؤيته لسياسية تركية خارجية نشطة ومؤثرة، عبر عدة ركائز أهمها:
1. العمق الاستراتيجي: حيث رأى داود أوغلو أن دور تركيا الدولي مرتبط ومعتمد بشكل رئيسي على دورها الإقليمي، خصوصاً في ثلاث مناطق جغرافية اعتبرها عمق تركيا الاستراتيجي، أي الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز. بمعنى أنه كلما اضطلعت تركيا بأدوار أهم في الشرق كلما زاد وزنها في الساحة الغربية – الدولية، وهو ما يسمى بنظرية “القوس والسهم” .
2. صفر مشاكل: حيث لا يمكن لدولة تعاني من علاقات الخصومة والعداء مع محيطها أن تطور سياسة خارجية إيجابية وفاعلة، وبالتالي تحتاج إلى تصفير المشاكل مع دول جوارها فتستفيد كل الأطراف على قاعدة الربح للجميع (win – win) .
3. القوة الناعمة: وفي سبيل ذلك وحتى تكون تركيا “دولة مركز”، رأى داود أوغلو في العلاقات التجارية والاقتصادية والتواصل الفكري – الثقافي أثراً أكثر نجاعة من القوة الخشنة. وقد استفادت تركيا فعلاً على مدى أعوام طويلة، على الأقل حتى بداية الربيع العربي 2011، من هذه القوة الناعمة ولاقت قبولاً جيداً في المنطقة .
وفي القلب من هذا التوجه التركي للمنطقة وقضاياها المختلفة، حظيت القضية الفلسطينية باهتمام خاص من حزب العدالة والتنمية لعدة اعتبارات، أهمها:
1. الروابط الدينية والثقافية والفكرية المشتركة بين الشعبين التركي والفلسطيني.
2. الخلفية التاريخية للقضية الفلسطينية واعتبار تركيا نفسها وريثة للدولة العثمانية، آخر الدول ذات السيادة على الأراضي الفلسطينية، وبالتالي استشعارها لمسؤولية خاصة تجاهها.
3. التناغم مع الشارع التركي الذي يظهر تعاطفاً كبيراً مع القضية الفلسطينية.
4. إدراك تركيا أن القضية الفلسطينية هي مفتاح العبور للقبول والتأثير في المنطقة.
5. ترى تركيا أن القضية الفلسطينية ورقة رابحة في الساحة الدولية لمن يمتلك فيها تأثيراً، وهي ترغب أن يكون لديها هذا التأثير.
6. نظرية أنقرة في السياسة الخارجية قائمة على تصفير المشاكل والتواصل الاقتصادي – التجاري، وتحتاج لمناخ هادئ، وهذا أحد الأسباب التي تدفع تركيا للإسهام في حل القضية.
7. مظلومية الشعب الفلسطيني وأحقيته في أرضه المحتلة وفق القانون الدولي.
8. الخلفية الأيديولوجية والفكرية لمعظم قيادات الحزب كإسلاميين خرجوا من عباءة تيار “الفكر الوطني” أو “ميللي غوروش” الذي أسسه الراحل نجم الدين أربكان Necmettin Erbakan، وإن كان الحزب بحد ذاته ديموقراطياً محافظاً وليس أيديولوجياً أو “إسلامياً” بالمعنى المتداول عربياً.
هذه الاعتبارات وغيرها أسهمت في صياغة علاقة خاصة بين القيادة التركية الجديدة والقضية الفلسطينية، بيد أن هذا الاهتمام لم يكن يوماً سياسة متهورة أو دعماً دون سقف، بل انضبط دائماً بعدد من المحددات المهمة، ومنها:
1. الالتزام بالخطوط العامة للأمن القومي التركي وشبكة مصالحه، التي أعاد العدالة والتنمية تفسيرها أو صياغتها ولم ينقضها أو يناقضها تماماً، بمعنى أن المصالح كانت مقدمة على الأخلاق والمبادئ، وإن حاولت أنقرة في قدر الإمكان الجمع بين الطرفين.
2. التحرك ضمن المنظومة الدولية، واستشعار الحدود المسموح بها في السياسة الخارجية وفق اعتبارات عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي وملف عضويتها الموضوع على طاولة الاتحاد الأوروبي.
3. الالتزام بالحل السياسي للقضية الفلسطينية، وفق رؤية “حل الدولتين” والمبادرة العربية للسلام Arab Peace İnitiative، بل والذهاب إلى أبعد من ذلك بالدعوات المتكررة لإشراك حركة حماس في العملية السياسية ونصحها بإلقاء السلاح، وهي دعوات صدرت من رئيس الوزراء التركي السابق والرئيس الحالي رجب طيب أردوغان Recep Tayyip Erdoğan بعد انتخابات 2006، حين دعا حماس لإلقاء السلاح والتحرك نحو الاعتدال ، كما تكررت على لسان وزير الخارجية التركي السابق كما ورد آنفاً.
4. عدم تخطي حدود الدعم السياسي – الإعلامي – المالي، خصوصاً في العلاقة مع الفصائل الفلسطينية، مع مراعاة أن يكون الدعم المالي تحديداً على شكل معونات إغاثية وإنسانية ومشاريع دعم للبنية التحتية.
5. الحفاظ على علاقات جيدة ومتوازنة مع جميع الأطراف الفلسطينية، والتعامل مع القضية الفلسطينية من بوابة السلطة والرئيس الفلسطيني محمود عباس، بالرغم من نتائج انتخابات 2006 التي فازت فيها حركة حماس.
6. عدم الإضرار بعلاقات تركيا الإقليمية والدولية، وخصوصاً مع دولة الاحتلال قبل القطيعة السياسية بينهما.
7. اعتماد التدرج في تقديم الدعم للفلسطينيين، باعتبار أن السياسة الخارجية أحد شواهد متانة المشهد السياسي الداخلي ونتائجها المباشرة، وبذلك فقد ازداد انخراط تركيا (العدالة والتنمية) في القضية الفلسطينية، وارتفع سقف خطابها وموقفها منها مع مرور الوقت وتراكم إنجازات الحزب وشعوره بنوع من الاستقرار الداخلي والالتفاف الجماهيري، مستفيدة من اللعب في المساحات الرمادية.
8. تجنب تركيا للمواجهات المباشرة والحادة مع أي طرف، وصعوبة تحركها، من الناحية الفعلية، منفردة ودون شركاء إقليميين، بغض النظر عن ارتفاع سقف الخطاب.
9. اهتمام خاص بمدينة القدس لرمزيتها وتاريخها العثماني ووضعها القانوني، بالإضافة إلى أولوية الملفات الإنسانية مثل حصار قطاع غزة.
وبناء على هذه الأسس، فقد سارت تركيا في سياستها تجاه القضية الفلسطينية بشكل متدرج ومتصاعد، ففي حين زار كل من وزير الخارجية عبد الله جول Abbullah Gül ورئيس الوزراء أردوغان دولة الاحتلال سنة 2005 في محاولة للعب دور الوسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، اتخذ الموقف التركي منحى جديداً مع الانتخابات البرلمانية في الضفة الغربية وقطاع غزة وتقدم حركة حماس فيها سنة 2006، بحيث أغضب استقبالها “المرتبك” لقيادات الحركة دولة الاحتلال.
لاحقاً، لعبت الممارسات الإسرائيلية دوراً كبيراً في توتير العلاقات الثنائية، من العدوان على غزة 2008-2009، إلى الموقف في مؤتمر دافوس ، إلى أزمة إهانة السفير التركي في تل أبيب ، وصولاً للحظة القطيعة السياسية بين الطرفين على خلفية مهاجمة سفينة مافي مرمرة Mavi Marmara في المياه الدولية وقتل تسعة ناشطين أتراك .
ثانياً: مراجعات وتراجعات:
لم يستمر هذا المنحى التصاعدي طويلاً، واصطدم بعدة عقبات، أهمها موجة ثورات الربيع العربي التي عصفت بالتوازنات والتحالفات السياسية في المنطقة بالقدر نفسه الذي عصفت فيه بأسس السياسة الإقليمية لأنقرة. فالعمق الاستراتيجي لتركيا تحول إلى محيط لاهب، ونظرية “صفر مشاكل” تحولت بفعل الثورات والثورات المضادة إلى “صفر هدوء”، بينما فشلت القوة التركية الناعمة في إحداث اختراقات مهمة في المنطقة بعد أن أضحت أنقرة في قلب حالة الاستقطاب الإقليمية بسبب مواقفها المعلنة من الثورات، لا سيما الثورة السورية وتفاعلاتها اللاحقة.
أدت هذه التطورات المتلاحقة وفشل أنقرة في تحقيق أي إنجاز خارجي يبلور واقعياً رؤيتها للحل إلى نتيجتين رئيسيتين: إعادة تقييم تركيا لسياستها الخارجية وانخفاض مستوى تفاعلها مع القضية الفلسطينية. ويمكننا في هذا السياق إجمال السياقات التي أسهمت في تراجع هذا الاهتمام فيما يلي:
1. تفاعلات الثورات والثورات المضادة التي أدت إلى تراجع الحدث الفلسطيني على سُلَّم أولويات مختلف الدول ذات العلاقة ومنها تركيا.
2. الضغوط الخارجية التي مورست على تركيا بسبب مواقفها التي نحت نحو نوع من الاستقلالية النسبية في السياسة الخارجية، لا سيما فيما يتعلق بكل من سورية ومصر وفلسطين.
3. الانشغال بملفات السياسة الداخلية على حساب السياسة الخارجية بشكل عام والقضية الفلسطينية بشكل خاص، مثل أحداث جزي بارك Gezi Park في منتصف سنة 2013، ثم ادعاءات الفساد بحق الحكومة والحزب، ثم تعثر عملية المصالحة الداخلية مع الأكراد إثر استئناف حزب العمال الكردستاني Kurdistan Workers’ Party (PKK) لعملياته العسكرية.
4. تطورات الملف السوري بشكل خاص بطريقة لامست الخطوط الحمراء للأمن القومي التركي، من حيث احتمالات تقسيم سورية والتدخل العسكري الروسي وإرهاصات إنشاء كيان سياسي (كانتون) للأكراد في الشمال السوري.
5. تراجع حاد في العلاقات الديبلوماسية مع “إسرائيل” إثر الهجوم على سفينة مافي مرمرة، الأمر الذي أفقد تركيا إمكانية لعب دور الوسيط.
6. العلاقات المتوترة مع عدد من الدول المؤثرة في القضية الفلسطينية، وفي مقدمتها مصر بعد الانقلاب، الأمر الذي أدى —مضافاً إلى العلاقات المتوترة مع تل أبيب— إلى تضاؤل فرص التدخل التركي. ويكفي للتدليل على هذا العامل المقارنة بين الدور الذي لعبته تركيا خلال العدوان على غزة سنة 2012 في ظلّ رئاسة مرسي لمصر، وذلك الذي لعبته، أو بالأحرى لم تستطع لعبه، خلال عدوان 2014 على القطاع خلال رئاسة السيسي .
7. حالة الانقسام السياسي الفلسطيني بما يؤدي إلى تقزيم نتائج أي جهد مبذول في نصرة القضية الفلسطينية، على الرغم من المحاولات المتكررة لرأب الصدع والدعوات للتوحد.
8. العزلة التي عانت منها تركيا في المنطقة إثر مواقفها من القضايا المختلفة، لا سيما السورية والمصرية، وفقدانها لتحالفات متينة ومستدامة تستند عليها في سياساتها الإقليمية.
9. الفترة الانتقالية في تركيا بعد انتخابات السابع من حزيران/ يونيو التي سلبت العدالة والتنمية أغلبيته البرلمانية، مفتتحة عهداً من اللا استقرار السياسي والتذبذب الاقتصادي والتوتر الأمني، وهو ما دفع تركيا للانكفاء على الداخل وتقديم بعض التنازلات في السياسة الخارجية.
هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى تراجعات تكتيكية من قبل أنقرة، منها السماح —بعد سنوات من الرفض— للولايات المتحدة باستخدام قاعدة إنجيرليك İncirlik العسكرية ، والانخراط الفعلي في التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة İnternational Coalition Against İSİS بعد أشهر من التردد، وخفوت الصوت التركي في مواجهة نظام السيسي، واللهجة اللينة مقابل التدخل العسكري الروسي على الحدود الجنوبية، والقبول الضمني ببقاء الأسد في الحكم خلال الفترة الانتقالية للحل السياسي المنتظر .
وفي اتجاه مواز، وعلى الرغم من استمرار الدعم السياسي للفلسطينيين في المحافل الدولية وخصوصاً في ملف قبول فلسطين كمراقب غير عضو في الأمم المتحدة ثم رفع العلم الفلسطيني على ساريتها ، إلا أن الموقف التركي الرسمي بات مؤخراً أقرب إلى الظاهرة الصوتية، بغض النظر عن النوايا، بفعل العوامل سابقة الذكر، وقد ظهر ذلك جلياً في هبة/ انتفاضة القدس الأخيرة مثلاً، حيث لم يتخط الموقف الرسمي بعض التصريحات/ البيانات الخجولة، بينما غابت المظاهرات التركية الحاشدة الداعمة للفلسطينيين بفعل ضغط الملفات الداخلية والانتخابات المتتالية.
قبل ذلك، كان لافتاً مغادرة عدد من القيادات والكوادر الفلسطينية (الحمساوية) للأراضي التركية نحو الدول العربية، إما بتلميح من أنقرة، أو تحسباً لأي طارئ قبل وخلال وبعد الانتخابات، بينما تراجعت وتيرة زيارات الوفود الفلسطينية، على الأقل العلنية منها، لتركيا في الفترة السابقة على الانتخابات الأخيرة. مع ملاحظة أن حزب العدالة والتنمية تابع التوظيف المحسوب لعلاقته مع حماس، فدعى قيادة حماس وعلى رأسها خالد مشعل للمشاركة في مؤتمره الخامس الذي عقده في 12/9/2015؛ إذ إن الجمهور الإسلامي في تركيا ينظر نظرة تقدير واحترام لحماس ولجهادها؛ وبالتالي فإن مشاركتها مؤتمر الحزب تعدُّ رافعة شعبية وانتخابية له.
ثالثاً: بعد الانتخابات الأخيرة:
أسفرت انتخابات الإعادة التي أجريت في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري عن عودة العدالة والتنمية مرة أخرى إلى الأغلبية البرلمانية المطلقة (317 من أصل 550 نائباً) التي تخوله تشكيل الحكومة بمفرده، للمرة الرابعة على التوالي، بعدد مريح من المقاعد. وقد لاقت هذه الجولة الانتخابية اهتماماً كبيراً في العالم العربي، كما قوبلت النتائج بموجة من الارتياح والفرح وسط تيارات كثيرة في عدد من دول المنطقة لا سيما الفلسطينيين ، لنظر الكثير منهم إلى تركيا على أنها “القلعة الأخيرة” لهم في المنطقة.
فلئن سيطرت هواجس الفراغ السياسي والتدهور الاقتصادي على الداخل التركي، فقد سادت مخاوف من تغيرات جذرية في السياسة التركية إزاء قضايا المنطقة في حال جاءت النتائج عكسية، حيث أن السياسة الخارجية كانت وما زالت أحد أهم ملفات الخلاف بين الحزب الحاكم والمعارضة ، وباعتبار أن أي حكومة ائتلافية محتملة كانت ستخضع بطبيعة الحال لشروط الأطياف المشاركة بها، وهو ما سيعني بطريقة أو بأخرى تراجعاً عن مواقف تركيا المعتادة في المنطقة.
رابعاً: السيناريوهات المحتملة:
إزاء هذه النتائج، يبدو أن مقاربة تركيا للقضية الفلسطينية مرشحة في المستقبل القريب لأحد ثلاثة سيناريوهات:
الأول: تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية. ليس فقط للأسباب المذكورة أعلاه، والتي لم يتغير معظمها، بل أيضاً للاعتبارات الإضافية الآتية:
1. يتوقع للفترة القادمة في تركيا أن تركز على الملفات الداخلية الكثيرة والملحة، مثل الملف الاقتصادي، والتصعيد العسكري، والمصالحة الداخلية، والدستور الجديد.
2. وبالرغم من النتائج الأخيرة لصالح العدالة والتنمية، إلا أن رسالة السابع من حزيران/ يونيو الفائت كانت قد وصلته فعلاً، والتي قالت له ولتركيا إن جزءاً من تلك النتائج كان عقاباً دولياً لها بسبب سياستها الخارجية النازعة للاستقلالية النسبية، وهو يعني أن هذه النتائج مرشحة للتكرار مستقبلاً وبأشكال عدة إن لم تستدرك أنقرة مواقفها.
3. صدرت عدة تصريحات بضرورة مراجعة السياسة الخارجية وعودتها إلى “واقعيتها” وتواصلها “مع جميع الأطراف” بشكل متوازن مرة أخرى، ولم تقتصر هذه الدعوات على المعارضة أو المحللين السياسيين، بل شملت أيضاً قيادات في الحزب الحاكم والحكومة .
4. حاجة تركيا للدعم الأمريكي – الدولي في ملف مكافحة الإرهاب، وفرملة المشاريع السياسية لأكراد سورية على حدودها الجنوبية.
5. فتور محاولات رأب الصدع بين أنقرة وتل أبيب، وجمود جهود التطبيع في ظلّ إصرار الأولى على شروطها الثلاثة شبه التعجيزية (ثالثها رفع الحصار عن غزة)، بما يصعب من إمكانية عودتها للعب دور الوسيط.
6. قد يفرض أي تقارب مستقبلي محتمل لتركيا مع دولة الاحتلال أو النظام المصري قيوداً أو حدوداً معينة لدورها في القضية الفلسطينية.
الثاني: تحقيق إنجازات تركية في الملف الفلسطيني. وقد يرجح كفة هذا السيناريو:
1. نتيجة الانتخابات التي ستؤدي إلى حكومة مستقرة وقوية يمكنها التفاعل أكثر مع السياسة الخارجية عموماً والملف الفلسطيني على وجه الخصوص.
2. خفوت حدة الخطر الكردي على الحدود التركية – السورية بعد الانتخابات، لسياقات عدة أهمها تراجع الدعم الأمريكي المعلن لأكراد سورية.
3. تواتر الأحاديث الديبلوماسية عن حلول سياسية وشيكة للأزمة السورية باتفاق الأطراف الإقليمية والدولية المختلفة، وهو ما من شأنه تخفيف الضغط الحالي عن أنقرة.
4. تمتع القضية الفلسطينية، في معظم ملفاتها الفرعية، بالإجماع العربي والإقليمي، وهو ما يسهّل التعامل معها والتعاون إزاءها على الرغم من الاستقطاب الحاد.
5. زيادة مستوى التنسيق في المواقف بين الثلاثي تركيا – قطر – السعودية، فضلاً عن التعامل المباشر بين أنقرة والقاهرة في عدة ملفات (سورية، تنظيم الدولة) بما قد يفتح الباب على إمكانية إحداث اختراق في الملف الفلسطيني.
6. الانتفاضة/ الهبة الفلسطينية الحالية التي أعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث مجدداً، والتي إن قُدِّر لها الاستمرار والتصاعد يمكنها أن تكون عامل جمع لكلمة الأطراف الفلسطينية المختلفة.
الثالث: بقاء الحال على ما هو عليه. بمعنى استمرار الاهتمام التركي بالقضية الفلسطينية، لا سيما فيما يتعلق بمدينة القدس وملف حصار قطاع غزة، في حدوده الحالية السياسية – الإعلامية، دون تقدم أو تقهقر.
خامساً: السيناريو المرجح:
إن نظرة متعمقة إلى المشهدين التركي والإقليمي توحي بأن السيناريو الثالث، بعدم توقع تغيرات جذرية و/أو سريعة، هو الأوفر حظاً بين الثلاثة. ذلك أن الملفات ذات الأولوية داخلياً وإقليمياً ستفرض نفسها على الحكومة التركية الجديدة كأمر واقع، بينما لا يملك الفلسطينيون في المدى المنظور ما يقدمونه لأنقرة من اختراقات أو إنجازات تشجعها على الانخراط بفعالية في قضيتهم.
إن السياسة الخارجية إرادة وقدرة، وبغض النظر عن النوايا التركية على مستوى العدالة والتنمية أو الحكومة القادمة التي سيشكلها، إلا أن الأدوات التركية القادرة على إحداث الاختراق قليلة ومحدودة في الإقليم، وهو ما يجعل انتظار المفاجآت ضرباً من التفكير بالأماني أكثر منه توقعاً مبنياً على تحليل سليم.
من ناحية أخرى فإن البراجماتية والمرونة اللتين تتمتع بهما سياسات العدالة والتنمية ودعوات التقييم والتقويم لسياسة أنقرة الخارجية/ الإقليمية، كل ذلك يوحي بفترة من الهدوء والثبات في عدد من الملفات غير الملحة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. بينما سيكون أي تغير في المدى المنظور تراجعاً لا تقدماً —وفق المعطيات الكثيرة آنفة الذكر— وهو ما يجعل السيناريو الأول (تراجع الاهتمام) مقدماً على نقيضه (زيادة الانخراط)، ويبقى كلاهما في كل الأحوال ضعيف الحظوظ.
سادساً: توصيات:
1. توحيد الصف الفلسطيني على برنامج وطني جامع، وتصعيد الانتفاضة، بما يسهل من مهام الدول الداعمة ويرفع الحرج عنها.
2. التقدم للحكومة التركية القادمة بملفات واضحة ومطالب محددة تدعم صمود الشعب الفلسطيني وحقوقه السياسية؛ مع مراعاة تشابك وتعقيدات الأوضاع والعلاقات التركية.
3. مأسسة العلاقات مع تركيا وفتح جسور التعارف والتعاون مع مختلف الأطراف التركية، الرسمية والحزبية والشعبية.
4. تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني التركي في إطار منهجي واسع، وتفعيل العمل الشعبي الفلسطيني مع المجتمع التركي، سعياً لنقله من مستوى الدعم المبني على العاطفة المجردة إلى ذلك المستند إلى الحقائق والمعلومات، ورفع القضية الفلسطينية من البعد الإنساني المحض إلى أبعادها السياسية والحقوقية الأرحب.
* يتقدم مركز الزيتونة للدكتور سعيد الحاج بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.
لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:
>> تقدير استراتيجي (84): تركيا والقضية الفلسطينية بعد الانتخابات البرلمانية |
أضف ردا